باب بَيْنَا امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنَهَا ث
 
وإنكاحهما لا بد مع وليهما من غيرهما كالشاهدين، وكذلك الإنفاق قد يحتاج فيه إلى المعين كالوكيل، وأما تثنية النفسين فللإشارة إلى اختصاص الزوجين بذلك. وقد وقع في رواية إسحاق بن بشر ما يشعر بذلك ولفظه: "اذهبا فزوج ابنتك من ابن هذا وجهزوهما من هذا المال وادفعا إليهما ما بقي يعيشان به" وأما تثنية التصديق فللإشارة إلى أن يباشراها بغير واسطة لما في ذلك من الفضل، وأيضا فهي تبرع لا يصدر من غير الرشيد ولا سيما ممن ليس له فيها ملك. ووقع في رواية مسلم: "وأنفقا على أنفسكما" والأول أوجه والله أعلم. الحديث الحادي والعشرون: حديث أسامة بن زيد في الطاعون وسيأتي شرحه مستوفى في الطب، والغرض منه هنا قوله في الحديث: "الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل"، ووقع هنا "رجس" بالسين المهملة بدل الزاي والمحفوظ بالزاي، ووجهه القاضي بأن الرجس يقع على العقوبة أيضا، وقد قال الفارابي والجوهري الرجس العذاب. قوله في آخر الحديث "فلا تخرجوا فرارا منه، قال أبو النضر: لا يخرجكم إلا فرارا منه" يريد أن الأولى رواية محمد بن المنكدر والثانية رواية أبي النضر، فأما رواية ابن المنكدر فلا إشكال فيها، وأما رواية أبي النضر فروايتها بالنصب كالذي هنا مشكلة، ورواها جماعة بالرفع ولا إشكال فيها، قال عياض في الشرح: وقع لأكثر رواة الموطأ بالرفع وهو بين أن السبب الذي يخرجكم الفرار ومجرد قصده لا غير ذلك، لأن الخروج إلى الأسفار والحوائج مباح، ويطابق الرواية الأخرى "فلا تخرجوا فرارا منه" قال ورواه بعضهم "إلا فرارا منه" قال وقال ابن عبد البر: جاء بالوجهين، ولعل ذلك من مالك، وأهل العربية يقولون دخول "إلا" هنا بعد النفي لإيجاب بعض ما نفي قبل من الخروج، فكأنه نهى عن الخروج إلا للفرار خاصة، وهو ضد المقصود فإن المنهي عنه إنما هو الخروج للفرار خاصة لا لغيره، قال وجوز ذلك بعضهم وجعل قوله: "إلا" حالا من الاستثناء أي لا تخرجوا إذا لم يكن خروجكم إلا للفرار، قال عياض: ووقع لبعض رواة الموطأ "لا يخرجكم الإفرار" بأداة التعريف وبعدها إفرار بكسر الهمزة وهو وهم ولحن. وقال في "المشارق" ما حاصله: يجوز أن تكون الهمزة للتعدية يقال أفره كذا من كذا ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم "إن كان لا يفرك من هذا إلا ما ترى" فيكون المعنى لا يخرجكم إفراره إياكم. وقال القرطبي في "المفهم" هذه الرواية غلط لأنه لا يقال أفر وإنما يقال فرر، قال: وقال جماعة من العلماء إدخال إلا فيه غلط. وقال بعضهم هي زائدة وتجوز زيادته كما تزاد لا، وخرجه بعضهم بأنها للإيجاب فذكر نحو ما مضى قال: والأقرب أن تكون زائدة. وقال الكرماني: الجمع بين قول ابن المنكدر "لا تخرجوا فرارا منه" وبين قول أبي النضر "لا يخرجكم إلا فرارا منه" مشكل فإن ظاهره التناقض، ثم أجاب بأجوبة: أحدها أن غرض الراوي أن أبا النضر فسر لا تخرجوا بأن المراد منه الحصر يعني الخروج المنهي هو الذي يكون لمجرد الفرار لا لغرض آخر فهو تفسير للمعلل المنهي عنه لا للنهي. قلت: وهو بعيد لأنه يقتضي أن هذا اللفظ من كلام أبي النضر زاده بعد الخبر وأنه موافق لابن المنكدر على اللفظ الأول رواية، والمتبادر خلاف ذلك. والجواب الثاني كالأول والزيادة مرفوعة أيضا فيكون روى اللفظين ويكون التفسير مرفوعا أيضا. الثالث إلا زائدة بشرط أن تثبت زيادتها في كلام العرب. الحديث الثاني والعشرون: حديث عائشة في ذلك وسيأتي شرحه في الطب أيضا. الحديث الثالث والعشرون: حديث عائشة في قصة المخزومية التي سرقت، وسيأتي شرحه في كتاب الحدود، وأورده هنا بلفظ: "إنما أهلك الذين من قبلكم"، وفي بعض طرقه: "إن
(6/520)

بني إسرائيل كانوا" وهو المطابق للترجمة وسيأتي بسط ذلك إن شاء الله تعالى. الحديث الرابع والعشرون: حديث ابن مسعود في النهي عن الاختلاف في القراءة، وسيأتي شرحه في فضائل القرآن. الحديث الخامس والعشرون: حديث عبد الله وهو ابن مسعود، وشقيق هو أبو وائل. قوله: "كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه" لم أقف على اسم هذا النبي صريحا، ويحتمل أن يكون هو نوح عليه السلام، فقد ذكر ابن إسحاق في "المبتدأ" وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسير الشعراء من طريق إسحاق قال: "حدثني من لا أتهم عن عبيد بن عمير الليثي أنه بلغه أن قوم نوح كانوا يبطشون به فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". قلت: وإن صح ذلك فكأن ذلك كان في ابتداء الأمر، ثم لما يئس منهم قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} وقد ذكر مسلم بعد تخريج هذا الحديث حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال في قصة أحد "كيف يفلح قوم دموا وجه نبيهم" فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ومن ثم قال القرطبي: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الحاكي والمحكي ما سيأتي. وأما النووي فقال: هذا النبي الذي جرى له ما حكاه النبي صلى الله عليه وسلم من المتقدمين، وقد جرى لنبينا نحو ذلك يوم أحد. قوله: "وهو يمسح الدم عن وجهه" يحتمل أن ذلك لما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم ذكر لأصحابه أنه وقع لشيء آخر قبله، وذلك فيما وقع له يوم أحد لما شج وجهه وجرى الدم منه. فاستحضر في تلك الحالة قصة ذلك النبي الذي كان قبله فذكر قصته لأصحابه تطييبا لقلوبهم. وأغرب القرطبي فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الحاكي وهو المحكي عنه، قال وكأنه أوحي إليه بذلك قبل وقوع القصة، ولم يسم ذلك النبي، فلما وقع له ذلك تعين أنه هو المعنى بذلك. قلت: ويعكر عليه أن الترجمة لبني إسرائيل فيتعين الحمل على بعض أنبيائهم، وفي "صحيح ابن حبان" من حديث سهل بن سعد "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" قال ابن حبان: معنى هذا الدعاء الذي قال يوم أحد لما شج وجهه أي اغفر لهم ذنبهم في شج وجهي، لا أنه أراد الدعاء لهم بالمغفرة مطلقا، إذ لو كان كذلك لأجيب ولو أجيب لأسلموا كلهم، كذا قال، وكأنه بناه على أنه لا يجوز أن يتخلف بعض دعائه على بعض أو عن بعض، وفيه نظر لثبوت "أعطاني اثنتين ومنعني واحدة" وسيأتي في تفسير سورة الأنعام، ثم وجدت في "مسند أحمد" من طريق عاصم عن أبي وائل ما يمنع تأويل القرطبي، ويعين الغزوة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ولفظه: "قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين بالجعرانة قال فازدحموا عليه فقال: إن عبدا من عباد الله بعثه الله إلى قومه فكذبوه وشجوه، فجعل يمسح الدم عن جبينه ويقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". قال عبد الله فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح جبهته يحكي الرجل. قلت: ولا يلزم من هذا الذي قاله عبد الله أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مسح أيضا، بل الظاهر أنه حكى صفة مسح جبهته خاصة كما مسحها ذلك النبي، وظهر بذلك فساد ما زعمه القرطبي. قوله: "عن عقبة بن عبد الغافر" بين في الرواية المعلقة تلو هذه سماع قتادة من عقبة، وعقبة المذكور أزدي بصري، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وحديث آخر تقدم في الوكالة. وطريق معاذ هذه وصلها مسلم عن عبيد الله بن معاذ العنبري عن أبيه به. قوله: "رغسه الله" بفتح الراء والغين المعجمة بعدها سين مهملة أي كثر ماله، وقيل رغس كل شيء أصله فكأنه قال جعل له أصلا من مال. ووقع في مسلم:
(6/521)

"رأسه الله" بهمز بدل الغين المعجمة، قال ابن التين: وهو غلط، فإن صح - أي من جهة الرواية - فكأنه كان فيه: "راشه" يعني بألف ساكنة بغير همز وبشين معجمة، والريش والرياش المال انتهى. ويحتمل في توجيه رواية مسلم أن يقال: معنى "رأسه" جعله رأسا ويكون بتشديد الهمزة، وقوله: "مالا"، أي بسبب المال. قوله: "قال عقبة لحذيفة" هو عقبة بن عمرو أبو مسعود الأنصاري البدري. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل التبوذكي. وفي رواية الكشميهني: "حدثنا مسدد" وصوب أبو ذر رواية الأكثر وبذلك جزم أبو نعيم في المستخرج أنه عن موسى؛ وموسى ومسدد جميعا قد سمعا من أبي عوانة، لكن الصواب هنا موسى لأن المصنف ساق الحديث عن مسدد ثم بين أن موسى خالفه في لفظة منه وهي قوله: "في يوم راح" فإن في رواية مسدد "يوم حار" وقد تقدم سياق موسى في أول "باب ذكر بني إسرائيل". وقال فيه: "انظروا يوما راحا" وقوله راحا أي كثير الريح، ويقال ذلك للموضع الذي تخترقه الرياح، قال الجوهري: يوم راح أي شديد الريح، وإذا كان طيب الريح يقال الريح بتشديد الياء. وقال الخطابي: يوم راح أي ذو ريح كما يقال رجل مال أي ذو مال، وأما رواية الباب فقوله: "في يوم حار" فهو بتخفيف الراء، قال ابن فارس: الحور ريح تحن كحنين الإبل، وقد نبه أبو علي الجياني على ما وقع من ذلك. وظن بعض المتأخرين أنه عنى بذلك ما وقع في أول ذكر بني إسرائيل فاعترض عليه بأنه ليس هناك إلا روايته عن موسى بن إسماعيل في جميع الطرق وهو صحيح، لكن مراد الجياني ما وقع هنا، وهو بين لمن تأمل ذلك. قوله: "حدثنا عبد الملك" هو ابن عمير المذكور في الإسناد الذي قبله، ومراده أن عبد الملك رواه بالإسناد المذكور مثل الرواية التي قبله إلا في هذه اللفظة؛ وهذا يقتضي خطأ من أورده في الرواية الأولي بلفظ: "راح" وهي رواية السرخسي، وقد رواه أبو الوليد عن أبي عوانة فقال فيه: "في ريح عاصف" أخرجه المصنف في الرقاق. قوله: "أوروا" بفتح الهمزة وسكون الواو وضم الراء أي اقدحوا وأشعلوا. حديث أبي هريرة في الذي كان يداين الناس، وقد تقدم في البيوع. قوله: "حدثنا هشام" هو ابن يوسف. قوله: "كان رجل يسرف على نفسه" تقدم في حديث حذيفة أنه كان نباشا، وفي الرواية التي في الرقاق أنه كان يسيء الظن بعمله، وفيه أنه لم يبتئر خيرا، وسيأتي نقل الخلاف في تحريرها هناك إن شاء الله تعالى، وفي حديث أبي سعيد "إن رجلا كان قبلكم". قوله: "إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني" بضم المعجمة وتشديد الراء، في حديث أبي سعيد "فقال لبنيه لما حضر - بضم المهملة وكسر المعجمة أي حضره الموت - أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإني لم أعمل خيرا قط، فإذا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني" بفتح أوله والتخفيف. وفي رواية الكشميهني: "ثم أذرني" بزيادة همزة مفتوحة في أوله، فالأول بمعنى دعوني أي اتركوني، والثاني من قوله أذرت الريح الشيء إذا فرقته بهبوبها، وهو موافق لرواية أبي هريرة. قوله: "في الريح" تقدم ما في رواية حذيفة من الخلاف في هذه اللفظة، وفي حديث أبي سعيد "في يوم عاصف" أي عاصف ريحه، وفي حديث معاذ عن شعبة عند مسلم: "في ريح عاصف" ووقع في حديث موسى بن إسماعيل في أول الباب: "حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي وامتحشت"، وهو بضم المثناة وكسر المهملة بعدها شين معجمة أي وصل الحرق العظام، والمحش إحراق النار الجلد. قوله: "فوالله لئن قدر الله علي" في رواية الكشميهني: "لئن قدر علي ربي" قال الخطابي: قد يستشكل هذا فيقال كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟ والجواب أنه لم ينكر البعث وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله. قال ابن
(6/522)