باب خَاتِمِ النُّبُوَّةِ
 
3541- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ الْجُعَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ قَالَ: "ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَقَعَ فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ وَتَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتِمٍ بَيْنَ كَتِفَيْهِ".
قَالَ ابْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: الْحُجْلَةُ مِنْ حُجَلِ الْفَرَسِ الَّذِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ: "مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ".
قوله: "باب خاتم النبوة" أي صفته، وهو الذي كان بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم وكان من علاماته التي كان أهل الكتاب يعرفونه بها، وادعى عياض هنا أن الخاتم هو أثر شق الملكين لما بين كتفيه، وتعقبه النووي فقال: هذا باطل، لأن الشق إنما كان في صدره وبطنه، وكذا قال القرطبي، وأثره إنما كان خطا واضحا من صدر إلى مراق بطنه كما في الصحيحين، قال: ولم يثبت قط أنه بلغ بالشق حتى نفذ من وراء ظهره، ولو ثبت للزم عليه أن يكون مستطيلا من بين كتفيه إلى قطنته، لأنه الذي يحاذي الصدر من سرته إلى مراق بطنه، قال: فهذه غفلة من هذا الإمام، ولعل ذلك وقع من بعض نساخ كتابه فإنه لم يسمع عليه فيما علمت، كذا قال، وقد وقفت على مستند القاضي وهو حديث عتبة بن عبد السلمي الذي أخرجه أحمد والطبراني وغيرهما عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف كان بدء أمرك؟ فذكر القصة في ارتضاعه في بني سعد، وفيه أن الملكين لما شقا صدره قال أحدهما للآخر: خطه، فخاطه وختم عليه بخاتم النبوة انتهى. فلما ثبت أن خاتم النبوة كان بين كتفيه حمل ذلك عياض على أن الشق لما وقع في صدره ثم خيط حتى التأم كما كان ووقع الختم بين كتفيه كان ذلك أثر الشق، وفهم النووي وغيره منه أن قوله بين كتفيه متعلق بالشق، وليس كذلك بل هو متعلق بأثر الختم، ويؤيده ما وقع في حديث شداد بن أوس عند أبي يعلى والدلائل لأبي نعيم "أن الملك لما أخرج قلبه وغسله ختم ثم أعاده عليه بخاتم في يده من نور فامتلأ نورا"
(6/561)

وذلك نور النبوة والحكمة، فيحتمل أن يكون ظهر من وراء ظهره عند كتفه الأيسر لأن القلب في تلك الجهة. وفي حديث عائشة عند أبي داود الطيالسي والحارث بن أبي أسامة والدلائل لأبي نعيم أيضا "أن جبريل وميكائيل لما تراءيا له عند المبعث هبط جبريل فسلقي لحلاوة القفا ثم شق عن قلبي فاستخرجه ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم أعاده مكانه ثم لأمه ثم ألقاني وختم في ظهري حتى وجدت مس الخاتم في قلبي، وقال: اقرأ ..." الحديث، هذا مستند القاضي فيما ذكره، وليس بباطل، ومقتضى هذه الأحاديث أن الخاتم لم يكن موجودا حين ولادته، ففيه تعقيب على من زعم أنه ولد به، وهو قول نقله أبو الفتح اليعمري بلفظ: "قيل: ولد به وقيل: حين وضع" نقله مغلطاي عن يحيى بن عائذ، والذي تقدم أثبت. ووقع مثله في حديث أبي ذر عند أحمد والبيهقي في الدلائل وفيه: "وجعل خاتم النبوة بين كتفي كما هو الآن" وفي حديث شداد بن أوس في المغازي لابن عائد في قصة شق صدره وهو في بلاد بني سعد بن بكر "وأقبل وفي يده خاتم له شعاع فوضعه بين كتفيه وثدييه" الحديث، وهذا قد يؤخذ منه أن الختم وقع في موضعين من جسده والعلم عند الله. قوله: "حدثنا محمد بن عبيد الله" بالتصغير، هو أبو ثابت المدني مشهور بكنيته، والإسناد كله مدنيون، وأصل شيخه حاتم بن إسماعيل كوفي. قوله: "ذهبت بي خالتي" لم أقف على اسمها، وأما أمه فاسمها علبة - بضم المهملة وسكون اللام بعدها موحدة - بنت شريح أخت مخرمة بن شريح. قوله: "وقع" بفتح الواو وكسر القاف وبالتنوين أي وجع وزنه ومعناه، وقد مضى في الطهارة بلفظ وجع، وجاء بلفظ الفعل الماضي مبنيا للفاعل، والمراد أنه كان يشتكي رجله كما ثبت في غير هذا الطريق. قوله: "فمسح رأسي ودعا لي بالبركة" سيأتي شرحه في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى. قوله: "فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه" في حديث عبد الله بن سرجس عند مسلم أنه كان إلى جهة كتفه اليسرى. قوله: "قال ابن عبيد الله الحجلة من حجل الفرس الذي بين عينيه وقال إبراهيم بن حمزة مثل زر الحجلة" قلت: هكذا وقع، وكأنه سقط منه شيء لأنه يبعد من شيخه محمد بن عبيد الله أن يفسر الحجلة ولم يقع لها في سياقه ذكر، وكأنه كان فيه مثل زر الحجلة ثم فسرها، وكذلك وقع في أصل النسفي تضبيب بين قوله: "بين كتفيه" وبين قوله: "قال ابن عبيد الله" وأما التعليق عن ابن إبراهيم بن حمزة فالمراد أنه روى هذا الحديث كما رواه محمد بن عبيد الله إلا أنه خالف في هذه الكلمة، وسيأتي الحديث عنه موصولا بتمامه في كتاب الطب. وقد زعم ابن التين أنها في رواية ابن عبيد الله بضم المهملة وسكون الجيم. وفي رواية ابن حمزة بفتحهما، وحكى ابن دحية مثله وزاد في الأول كسر المهملة مع ضمها، وقيل: الفرق بين رواية ابن حمزة وابن عبيد الله أن رواية ابن عبيد الله بتقديم الزاي على الراء على المشهور، ورواية ابن حمزة بالعكس بتقديم الراء على الزاي، وهو مأخوذ من ارتز الشيء إذا دخل في الأرض، ومنه الرزة، والمراد بها هنا البيضة يقال ارتزت الجرادة إذا أدخلت ذنبها في الأرض لتبيض، وعلى هذا فالمراد بالحجلة الطير المعروف، وجزم السهيلي بأن المراد بالحجلة هنا الكلة التي تعلق على السرير ويزين بها للعروس كالبشخانات، والزر على هذا حقيقة لأنها تكون ذات أزرار وعرى، واستبعد قول ابن عبيد الله بأنها من حجل الفرس الذي بين عينيه بأن التحجيل إنما يكون في القوائم، وأما الذي في الوجه فهو الغرة، وهو كما قال إلا أن منهم من يطلقه على ذلك مجازا، وكأنه أراد أنها قدر الزر، وإلا فالغرة لا زر لها. وجزم الترمذي بأن المراد بالحجلة الطير المعروف، وأن المراد بزرها بيضها، ويعضده ما سيأتي أنه مثل بيضة الحمامة، وقد وردت في صفة خاتم النبوة أحاديث متقاربة لما ذكر هنا،
(6/562)

منها عند مسلم عن جابر بن سمرة "كأنه بيض حمامة" ووقع في رواية ابن حبان من طريق سماك بن حرب "كبيضة نعامة" ونبه على أنها غلط(1) وعن عبد الله بن سرجس "نظرت خاتم النبوة جمعا عليه خيلان" وعند ابن حبان من حديث ابن عمر "مثل البندقة من اللحم" وعند الترمذي "كبضعة ناشزة من اللحم" وعند قاسم بن ثابت من حديث قرة بن إياس "مثل السلعة" وأما ما ورد من أنها كانت كأثر محجم، أو كالشامة السوداء أو الخضراء، أو مكتوب عليها "محمد رسول الله" أو "سر فأنت المنصور" أو نحو ذلك، فلم يثبت منها شيء وقد أطنب الحافظ قطب الدين في استيعابها في "شرح السيرة" وتبعه مغلطاي في "الزهر الباسم" ولم يبين شيئا من حالها، والحق ما ذكرته، ولا تغتر بما وقع منها في صحيح ابن حبان فإنه غفل حيث صحح ذلك والله أعلم. قال القرطبي: اتفقت الأحاديث الثابتة على أن خاتم النبوة كان شيئا بارزا أحمر عند كتفه الأيسر قدره إذا قلل قدر بيضة الحمامة وإذا كبر جمع اليد والله أعلم. ووقع في حديث عبد الله بن سرجس عند مسلم أن خاتم النبوة كان بين كتفيه عند ناغض كتفه اليسرى، وفي حديث عباد بن عمرو عند الطبراني كأنه ركبة عنز على طرف كتفه الأيسر ولكن سنده ضعيف، قال العلماء: السر في ذلك أن القلب في تلك الجهة، وقد ورد في خبر مقطوع أن رجلا سأل ربه أن يريه موضع الشيطان فرأى الشيطان في صورة ضفدع عند نغض كتفه الأيسر حذاء قلبه له خرطوم كالبعوضة، أخرجه ابن عبد البر بسند قوي إلى ميمون بن مهران عن عمر بن عبد العزيز، فذكر. وذكره أيضا صاحب "الفائق" في مصنفه في م ص ر، وله شاهد مرفوع عن أنس عند أبي يعلى وابن عدي ولفظه: "أن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم" الحديث، وأورد ابن أبي داود في "كتاب الشريعة" من طريق عروة بن رويم "أن عيسى عليه السلام سأل ربه أن يريه موضع الشيطان من ابن آدم، قال فإذا برأسه مثل الحية واضع رأسه على تمرة القلب، فإذا ذكر العبد ربه خنس، وإذا غفل وسوس". قلت: وسيأتي لهذا مزيد في آخر التفسير، قال السهيلي: وضع خاتم النبوة عند نغض كتفه صلى الله عليه وسلم لأنه معصوم من وسوسة الشيطان، وذلك الموضع يدخل منه الشيطان.
ـــــــ
(1) بهامش طبعة بولاق: في نسخة أخرى "وقد تبين من رواية مسلم أنها غلط" اهـ
(6/563)

باب صفة النبي صلى الله عليه و سلم
...