باب عَلاَمَاتِ النُّبُوَّةِ فِي الإِسْلاَمِ 14
 

الصدقة، ومن عبادة الأقوال الأمر بالمعروف. قوله: "ولكن التي تموج" أي الفتنة، وصرح بذلك في الرواية التي في الصلاة، والفتنة بالنصب بتقدير فعل أي أريد الفتنة، ويحتمل الرفع أي مرادي الفتنة. قوله: "تموج كموج البحر" أي تضطرب اضطراب البحر عند هيجانه، وكنى بذلك عن شدة المخاصمة وكثرة المنازعة وما ينشأ عن ذلك من المشاتمة والمقاتلة. قوله: "يا أمير المؤمنين لا بأس عليك منها" زاد في رواية ربعي "تعرض الفتن على القلوب فأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى يصير أبيض مثل الصفاة لا تضره فتنة، وأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء حتى يصير أسود كالكوز منكوسا لا يعرفه معروفا ولا ينكر منكرا، وحدثته أن بينها وبينه بابا مغلقا". قوله: "إن بينك وبينها بابا مغلقا" أي لا يخرج منها شيء في حياتك، قال ابن المنير: آثر حذيفة الحرص على حفظ السر ولم يصرح لعمر بما سأل عنه، وإنما كنى عنه كناية، وكأنه كان مأذونا له في مثل ذلك. وقال النووي: يحتمل أن يكون حذيفة علم أن عمر يقتل، ولكنه كره أن يخاطبه بالقتل لأن عمر كان يعلم أنه الباب فأتى بعبارة يحصل بها المقصود بغير تصريح بالقتل انتهى. وفي لفظ طريق ربعي ما يعكر على ذلك على ما سأذكره، وكأنه مثل الفتن بدار، ومثل حياة عمر بباب لها مغلق، ومثل موته بفتح ذلك الباب، فما دامت حياة عمر موجودة فهي الباب المغلق لا يخرج مما هو داخل تلك الدار شيء، فإذا مات فقد انفتح ذلك الباب فخرج ما في تلك الدار. قوله: "قال يفتح الباب أو يكسر؟ قال: لا بل يكسر، قال: ذلك أحرى أن لا يغلق" زاد في الصيام "ذاك أجدر أن لا يغلق إلى يوم القيامة"، قال ابن بطال: إنما قال ذلك لأن العادة أن الغلق إنما يقع في الصحيح، فأما إذا انكسر فلا يتصور غلقه حتى يجبر انتهى. ويحتمل أن يكون كنى عن الموت بالفتح وعن القتل بالكسر ولهذا قال في رواية ربعي "فقال عمر كسرا لا أبالك" لكن بقية رواية ربعي تدل على ما قدمته، فإن فيه: "وحدثته أن ذلك الباب رجل يقتل، أو يموت" وإنما قال عمر ذلك اعتمادا على ما عنده من النصوص الصريحة في وقوع الفتن في هذه الأمة ووقوع البأس بينهم إلى يوم القيامة، وسيأتي في الاعتصام حديث جابر في قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} الآية، وقد وافق حذيفة على معنى روايته هذه أبو ذر، فروى الطبراني بإسناد رجاله ثقات أنه "لقي عمر فأخذ بيده فغمزها، فقال له أبو ذر: أرسل يدي يا قفل الفتنة" الحديث. وفيه أن أبا ذر قال: "لا يصيبكم فتنة ما دام فيكم" وأشار إلى عمر. وروى البزار من حديث قدامة بن مظعون عن أخيه عثمان أنه قال لعمر يا غلق الفتنة، فسأله عن ذلك فقال: "مررت ونحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا غلق الفتنة، لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغلق ما عاش". قوله: "قلنا علم عمر الباب" في رواية جامع بن شداد "فقلنا لمسروق: سله أكان عمر يعلم من الباب؟ فسأله فقال: نعم" وفي رواية أحمد عن وكيع عن الأعمش "فقال مسروق لحذيفة: يا أبا عبد الله كان عمر يعلم". قوله: "كما أن دون غد الليلة" أي أن ليلة غد أقرب إلى اليوم من غد. قوله: "إني حدثته" هو بقية كلام حذيفة، والأغاليط جمع أغلوطة وهو ما يغالط به، أي حدثته حديثا صدقا محققا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا عن اجتهاد ولا رأي. وقال ابن بطال: إنما علم عمر أنه الباب لأنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم على حراء وأبو بكر وعثمان، فرجف، فقال: "أثبت؛ فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان" أو فهم ذلك من قول حذيفة "بل يكسر" انتهى. والذي يظهر أن عمر علم الباب بالنص كما قدمت عن عثمان بن مظعون وأبي ذر، فلعل حذيفة حضر ذلك، وقد تقدم في بدء الخلق حديث عمر أنه سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يحدث عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وسيأتي في هذا الباب حديث حذيفة أنه
(6/606)

قال: "أنا أعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة" وفيه أنه سمع ذلك معه من النبي صلى الله عليه وسلم جماعة ماتوا قبله، فإن قيل إذا كان عمر عارفا بذلك فلم شك فيه حتى سأل عنه؟ فالجواب أن ذلك يقع مثله عند شدة الخوف، أو لعله خشي أن يكون نسي فسأل من يذكره، وهذا هو المعتمد. قوله: "فهبنا" بكسر الهاء أي خفنا، ودل ذلك على حسن تأدبهم مع كبارهم. قوله: "وأمرنا مسروقا" هو ابن الأخدع من كبار التابعين، وكان من أخصاء أصحاب ابن مسعود وحذيفة وغيرهما من كبار الصحابة. قوله: "فسأله فقال من الباب قال عمر" قال الكرماني: تقدم قوله: "إن بين الفتنة وبين عمر بابا" فكيف يفسر الباب بعد ذلك أنه عمر؟ والجواب أن في الأول تجوزا والمراد بين الفتنة وبين حياة عمر، أو بين نفس عمر وبين الفتنة بدنه، لأن البدن غير النفس. "تنبيه": غالب الأحاديث المذكورة في هذا الباب من حديث حذيفة وهلم جرا يتعلق بإخباره صلى الله عليه وسلم عن الأمور الآتية بعده فوقعت على وفق ما أخبر به، واليسير منها وقع في زمانه، وليس في جميعها ما يخرج عن ذلك إلا حديث البراء في نزول السكينة، وحديثه عن أبي بكر في قصة سراقة، وحديث أنس في الذي ارتد فلم تقبله الأرض. حديث أبي هريرة وهو يشتمل على أربعة أحاديث: أحدها قتال الترك، وقد أورده من وجهين آخرين عن أبي هريرة كما سأتكلم عليه، ثانيها حديث: "تجدون من خير الناس أشدهم كراهية لهذا الشأن" وقد تقدم شرحه في أول المناقب، وقوله في هذا الموضع "وتجدون أشد الناس كراهية لهذا الأمر حتى يقع فيه" كذا وقع عند أبي ذر مختصرا إلا في روايته عن المستملي فأورده بتمامه وبه يتم المعنى. ثالثها حديث: "الناس معادن" وقد تقدم شرحه في المناقب أيضا. رابعها حديث: "يأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحب إليه من أن يكون له مثل أهله وماله". قال عياض: وقد وقع للجميع "ليأتين على أحدكم" لكن وقع لأبي زيد المروزي في عرضة بغداد "أحدهم" بالهاء، والصواب بالكاف، كذا أخرجه مسلم انتهى. والأحاديث الأربعة تدخل في علامات النبوة لإخباره فيها عما لا يقع فوقع كما قال، لا سيما الحديث الأخير فإن كل أحد من الصحابة بعد موته صلى الله عليه وسلم كان يود لو كان رآه وفقد مثل أهله وماله، وإنما قلت ذلك لأن كل أحد ممن بعدهم إلى زماننا هذا يتمنى مثل ذلك فكيف بهم مع عظيم منزلته عندهم ومحبتهم فيه. حديث أبي هريرة أورده من طرق: قوله: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزا" هو بضم الخاء المعجمة وسكون الواو بعدها زاي: قوم من العجم. وقال أحمد: وهم عبد الرزاق فقاله بالجيم بدل الخاء المعجمة. وقوله: "وكرمان" هو بكسر الكاف على المشهور. ويقال بفتحها وهو ما صححه ابن السمعاني، ثم قال: لكن اشتهر بالكسر. وقال الكرماني: نحن أعلم ببلدنا. قلت: جزم بالفتح ابن الجواليقي وقبله أبو عبيد البكري، وجزم بالكسر الأصيلي وعبدوس، وتبع ابن السمعاني ياقوت والصغاني، لكن نسب الكسر للعامة، وحكى النووي الوجهين والراء ساكنة على كل حال وتقدم في الرواية التي قبلها "تقاتلون الترك" واستشكل لأن خوزا وكرمان ليسا من بلاد الترك، أما خوز فمن بلاد الأهواز وهي من عراق العجم. وقيل الخوز صنف من الأعاجم، وأما كرمان فبلدة مشهورة من بلاد العجم أيضا بين خراسان وبحر الهند، ورواه بعضهم "خور كرمان" براء مهملة وبالإضافة والإشكال باق، ويمكن أن يجاب بأن هذا الحديث غير حديث قتال الترك، ويجتمع منهما الإنذار بخروج الطائفتين، وقد تقدم من الإشارة إلى شيء من ذلك في الجهاد، ووقع في رواية مسلم من طريق سهيل عن أبيه عن أبي هريرة "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك قوما كأن وجوههم المجان المطرقة، يلبسون الشعر
(6/607)