باب مناقب عمر بن الخطاب القرشي العدوي 2
 
من القلب، والأصل أعليها أغار منك؟ قال ابن بطال: فيه الحكم لكل رجل بما يعلم من خلقه، قال وبكاء عمر يحتمل أن يكون سرورا، ويحتمل أن يكون تشوقا أو خشوعا. ووقع في رواية أبي بكر بن عياش عن حميد من الزيادة "فقال عمر: وهل رفعني الله إلا بك؟ وهل هداني الله إلا بك "؟ رويناه في" فوائد عبد العزيز الحربي" من هذا الوجه وهي زيادة غريبة. حديث أبي هريرة في المعنى، ذكره مقتصرا على قصة رؤيا المرأة إلى جانب القصر وزاد فيه: "قالوا: لعمر، فذكرت غيرته فوليت مدبرا" وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مراعاة الصحبة، وفيه فضيلة ظاهرة لعمر. وقوله فيه: "تتوضأ" يحتمل أن يكون على ظاهره ولا ينكر كونها تتوضأ حقيقة لأن الرؤيا وقعت في زمن التكليف، والجنة وإن كان لا تكليف فيها فذاك في زمن الاستقرار بل ظاهر قوله: "تتوضأ إلى جانب قصر" أنها تتوضأ خارجة منه، أو هو على غير الحقيقة. ورؤيا المنام لا تحمل دائما على الحقيقة بل تحتمل التأويل، فيكون معنى كونها تتوضأ أنها تحافظ في الدنيا على العبادة، أو المراد بقوله تتوضأ أي تستعمل الماء لأجل الوضاءة على مدلوله اللغوي وفيه بعد. وأغرب ابن قتيبة وتبعه الخطابي فزعم أن قوله تتوضأ تصحيف وتغيير من الناسخ، وإنما الصواب امرأة شوهاء، ولم يستند في هذه الدعوى إلا إلى استبعاد أن يقع في الجنة وضوء لأنه لا عمل فيها، وعدم الاطلاع على المراد من الخبر لا يقتضي تغليط الحفاظ. ثم أخذ الخطابي في نقل كلام أهل اللغة في تفسير الشوهاء فقيل هي الحسناء ونقله عن أبي عبيدة، وإنما تكون حسناء إذا وصفت بها الفرس، قال الجوهري: فرس شوهاء صفة محمودة و "الشوهاء" الواسعة الفم وهو مستحسن في الخيل والشوهاء من النساء القبيحة كما جزم به ابن الأعرابي وغيره، وقد تعقب القرطبي كلام الخطابي لكن نسبه إلى ابن قتيبة فقط، قال ابن قتيبة: بدل تتوضأ شوهاء ثم نقل أن الشوهاء تطلق على القبيحة والحسناء، قال القرطبي: والوضوء هنا لطلب زيادة الحسن لا للنظافة لأن الجنة منزهة عن الأوساخ والأقذار، وقد ترجم عليه البخاري في كتاب التعبير "باب الوضوء في المنام" فبطل ما تخيله الخطابي، وفي الحديث فضيلة الرميصاء وأنها كانت مواظبة على العبادة، كذا نقله ابنالتين عن غيره وفيه نظر. قوله: "حدثنا محمد بن الصلت أبو جعفر" هو الأسيدي، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وله شيخ آخر يقال له محمد بن الصلت يكنى أبا يعلى وهو بصري؛ وأبو جعفر أكبر من أبي يعلى وأقدم سماعا. قوله: "شربت يعني اللبن" كذا أورده مختصرا، وسيأتي في التعبير عن عبدان عن ابن المبارك بلفظ: "بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه" أي من ذلك اللبن. قوله: "حتى أنظر إلى الري" في رواية عبدان"حتى أني" ويجوز فتح همزة أني وكسرها ورؤية الري على سبيل الاستعارة كأنه لما جعل الري جسما أضاف إليه ما هو من خواص الجسم، وهو كونه مرئيا، وأما قوله: "أنظر" فإنما أتى به بصيغة المضارعة والأصل أنه ماض استحضارا لصورة الحال، وقوله: "أنظر" يؤيد أن قوله: "أرى" في الرواية التي في العلم من رؤية البصر لا من العلم، والري بكسر الراء ويجوز فتحها. قوله: "يجري" أي اللبن أو الري وهو حال. قوله: "في ظفري أو أظفاري" شك من الراوي. وفي رواية عبدان "من أظفاري" ولم يشك، وكذا في رواية عقيل في العلم لكن قال: "في أظفاري". قوله: "ثم ناولت عمر" في رواية عبدان "ثم ناولت فضلي" يعني عمر. وفي رواية عقيل في العلم "ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب". قوله: "قالوا فما أولته" أي عبرته "قال العلم" بالنصب أي أولته العلم، وبالرفع أي المؤول به هو العلم، ووقع في "جزء الحسين بن عرفة" من وجه آخر عن
(7/45)

ابن عمر "قال فقالوا: هذا العلم الذي آتاكه الله، حتى امتلأت فضلت منه فضلة فأخذها عمر، قال: أصبتم" وإسناده ضعيف فإن كان محفوظا احتمل أن يكون بعضهم أول وبعضهم سأل، ووجه التعبير بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع، وكونهما سببا للصلاح، فاللبن للغذاء البدني والعلم للغذاء المعنوي. وفي الحديث فضيلة عمر وأن الرؤيا من شأنها أن لا تحمل على ظاهرها وإن كانت رؤيا الأنبياء من الوحي، لكن منها ما يحتاج إلى تعبير ومنها ما يحمل على ظاهره، وسيأتي تقرير ذلك في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى. والمراد بالعلم هنا العلم بسياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر، وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان، فإن مدة أبي بكر كانت قصيرة فلم يكثر فيها الفتوح التي هي أعظم الأسباب في الاختلاف، ومع ذلك فساس عمر فيها - مع طول مدته - الناس بحيث لم يخالفه أحد، ثم ازدادت اتساعا في خلافة عثمان فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء ولم يتفق له ما اتفق لعمر من طواعية الخلق له فنشأت من ثم الفتن، إلى أن أفضى الأمر إلى قتله، واستخلف علي فما ازداد الأمر إلا اختلافا والفتن إلا انتشارا. قوله: "حدثنا عبيد الله" هو ابن عمر العمري. قوله: "حدثني أبو بكر بن سالم" أي ابن عبد الله بن عمر، وهو من أقران الراوي عنه، وهما مدنيان من صغار التابعين، وأما أبو سالم فمعدود من كبارهم، وهو أحد الفقهاء السبعة، وليس لأبي بكر بن سالم في البخاري غير هذا الموضع، ووثقه العجلي. ولا يعرف له راو إلا عبيد الله بن عمر المذكور، وإنما أخرج له البخاري في المتابعات. وقد مضى الحديث من طريق الزهري عن سالم. قوله: "بدلو بكرة" بفتح الموحدة والكاف على المشهور وحكى بعضهم تثليث أوله، ويجوز إسكانها على أن المراد نسبة الدلو إلى الأنثى من الإبل وهي الشابة، أي الدلو التي يسقى بها، وأما بالتحريك فالمراد الخشبة المستديرة التي يعلق فيها الدلو. قوله: "قال ابن جبير: العبقري عتاق الزرابي" وصله عبد بن حميد من طريقه، وكذا رويناه في "صفة الجنة لأبي نعيم" من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير قال في قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} قال: الرفرف رياض الجنة، والعبقري الزرابي. ووقع في رواية الأصيلي وكريمة وبعض النسخ عن أبي ذر هنا "قال ابن نمير" وقيل المراد محمد بن عبد الله بن نمير شيخ المصنف فيه، ويأتي بسط القول في كتاب التعبير، والمراد بالعتاق الحسان، والزرابي جمع زريبة وهي البساط العريض الفاخر، قال في المشارق: العبقري النافذ الماضي الذي لا شيء يفوقه، قال أبو عمر: وعبقري القوم سيدهم وقيمهم وكبيرهم. وقال الفراء: العبقري السيد والفاخر من الحيوان والجوهر والبساط المنقوش، وقيل هو منسوب إلى عبقر موضع بالبادية، وقيل قرية يعمل فيها الثياب البالغة الحسن والبسط، وقيل نسبة إلى أرض تسكنها الجن، تضرب بها العرب المثل في كل شيء عظيم قاله أبو عبيدة، قال ابن الأثير: فصاروا كلما رأوا شيئا غريبا مما يصعب عمله ويدق أو شيئا عظيما في نفسه نسبوه إليها فقالوا عبقري، ثم اتسع فيه حتى سمي به السيد الكبير. ثم استطرد المصنف كعادته فذكر معنى صفة الزرابي الواردة في القرآن في قوله تعالى: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} . قوله: "وقال يحيى" هو ابن زياد الفراء، ذكر ذلك في "كتاب معاني القرآن" له، وظن الكرماني أنه يحيى بن سعيد القطان فجزم بذلك واستند إلى كون الحديث ورد من روايته كما تقدم في مناقب أبي بكر. قوله: "الطنافس" هي جمع طنفسة وهي البساط.قوله: "لها خمل" بفتح المعجمة والميم بعدها لام أي أهداب، وقوله
(7/46)

"رقيق" أي غير غليظة. قوله: "مبثوثة كثيرة" هو بقية كلام يحيى بن زياد المذكور. قوله: "عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد" أي ابن الخطاب، وفي الإسناد أربعة من التابعين على نسق: قرينان وهما صالح وهو ابن كيسان وابن شهاب، وقريبان وهما عبد الحميد ومحمد بن سعد وكلهم مدنيون. قوله: "استأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش" هن من أزواجه، ويحتمل أن يكون معهن من غيرهن لكن قرينة قوله: "يستكثرنه" يؤيد الأول، والمراد أنهن يطلبن منه مما يعطيهن. وزعم الداودي أن المراد أنهن يكثرن الكلام عنده، وهو مردود بما وقع التصريح به في حديث جابر عند مسلم أنهن يطلبن النفقة. قوله: "عالية" بالرفع على الصفة وبالنصب على الحال، وقوله: "أصواتهن على صوته" قال ابن التين: يحتمل أن يكون ذلك قبل نزول النهي عن رفع الصوت على صوته، أو كان ذلك طبعهن انتهى. وقال غيره: يحتمل أن يكون الرفع حصل من مجموعهن لا أن كل واحدة منهن كان صوتها أرفع من صوته، وفيه نظر. قيل ويحتمل أن يكون فيهن جهيرة، أو النهي خاص بالرجال وقيل في حقهن للتنزيه، أو كن في حال المخاصمة فلم يتعمدن، أو وثقن بعفوه. ويحتمل في الخلوة ما لا يحتمل في غيرها. قوله: "أضحك الله سنك" لم يرد به الدعاء بكثرة الضحك بل لازمه وهو السرور، أو نفي لازمه وهو الحزن. قوله: "أتهبنني" من الهيبة أي توقرنني. قوله: "أنت أفظ وأغلظ" بالمعجمتين بصيغة أفعل التفضيل من الفظاظة والغلظة وهو يقتضي الشركة في أصل الفعل، ويعارضه قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} فإنه يقتضي أنه لم يكن فظا ولا غليظا، والجواب أن الذي في الآية يقتضي نفي وجود ذلك له صفة لازمة فلا يستلزم ما في الحديث ذلك، بل مجرد وجود الصفة له في بعض الأحوال وهو عند إنكار المنكر مثلا والله أعلم. وجوز بعضهم أن الأفظ هنا بمعنى الفظ، وفيه نظر للتصريح بالترجيح المقتضي لحمل أفعل على بابه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحدا بما يكره إلا في حق من حقوق الله، وكان عمر يبالغ في الزجر عن المكروهات مطلقا وطلب المندوبات، فلهذا قال النسوة له ذلك. قوله: "إيها ابن الخطاب" قال أهل اللغة "أيها" بالفتح والتنوين معناها لا تبتدئنا بحديث، وبغير تنوين كف من حديث عهدناه، و"إيه" بالكسر والتنوين معناها حدثنا ما شئت وبغير التنوين زدنا مما حدثتنا. ووقع في روايتنا بالنصب والتنوين. وحكى ابن التين أنه وقع له بغير تنوين وقال معناه كف عن لومهن. وقال الطيبي: الأمر بتوقير رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلوب لذاته تحمد الزيادة منه، فكأن قوله صلى الله عليه وسلم: "إيه" استزادة منه في طلب توقيره وتعظيم جانبه، ولذلك عقبه بقوله: "والذي نفسي بيده إلخ" فإنه يشعر بأنه رضي مقالته وحمد فعاله، والله أعلم. قوله: "فجا" أي طريقا واسعا، وقوله: "قط" تأكيد للنفي. قوله: "إلا سلك فجا غير فجك" فيه فضيلة عظيمة لعمر تقتضي أن الشيطان لا سبيل له عليه، لا أن ذلك يقتضي وجود العصمة إذ ليس فيه إلا فرار الشيطان منه أن يشاركه في طريق يسلكها، ولا يمنع ذلك من وسوسته له بحسب ما تصل إليه قدرته. فإن قيل عدم تسليطه عليه بالوسوسة يؤخذ بطريق مفهوم الموافقة لأنه إذا منع من السلوك في طريق فأولى أن لا يلابسه بحيث يتمكن من وسوسته له فيمكن أن يكون حفظ من الشيطان، ولا يلزم من ذلك ثبوت العصمة له لأنها في حق النبي واجبة وفي حق غيره ممكنة، ووقع في حديث حفصة عند الطبراني في "الأوسط" بلفظ: "أن الشيطان لا يلقى عمر منذ أسلم إلا خر لوجهه" وهذا دال على صلابته في الدين، واستمرار حاله على الجد الصرف والحق المحض. وقال النووي: هذا الحديث محمول على ظاهره وأن الشيطان يهرب إذا رآه وقال عياض: يحتمل
(7/47)