باب انْشِقَاقُ الْقَمَرِ
 
3868- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمْ الْقَمَرَ شِقَّتَيْنِ حَتَّى رَأَوْا حِرَاءً بَيْنَهُمَا"
3869- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "انْشَقَّ الْقَمَرُ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى فَقَالَ اشْهَدُوا وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ نَحْوَ الْجَبَلِ" وَقَالَ أَبُو الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ "انْشَقَّ بِمَكَّةَ"
وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
3870- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ قَالَ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ عَلَى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
3871- حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله رضي الله عنه قال "انشق القمر"
قوله: "باب انشقاق القمر" أي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل المعجزة له، وقد ترجم بمعنى ذلك في علامات النبوة. قوله: "عن أنس" زاد في الرواية التي في علامات النبوة أنه حدثهم. قوله: "أن أهل مكة" هذا من مراسيل الصحابة، لأن أنسا لم يدرك هذه القصة، وقد جاءت هذه القصة من حديث ابن عباس وهو أيضا ممن لم يشاهدها، ومن حديث ابن مسعود وجبير بن مطعم وحذيفة وهؤلاء شاهدوها، ولم أر في شيء من طرقه أن ذلك كان عقب سؤال المشركين إلا في حديث أنس، فلعله سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. ثم وجدت في بعض طرق حديث ابن عباس بيان صورة السؤال، وهو وإن كان لم يدرك القصة لكن في بعض طرقه ما يشعر بأنه حمل الحديث عن ابن مسعود كما سأذكره، فأخرج أبو نعيم في" الدلائل" من وجه ضعيف عن ابن عباس قال: "اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والأسود بن المطلب والنضر بن الحارث ونظراؤهم فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين، فسأل ربه فانشق". قوله: "شقتين" بكسر المعجمة أي
(7/182)

نصفين، وتقدم في العلامات من طريق سعيد وشيبان عن قتادة بدون هذه اللفظة. وأخرجه مسلم من الوجه الذي أخرجه منه البخاري من حديث سعيد عن قتادة بلفظ: "فأراهم انشقاق القمر مرتين" وأخرجه من طريق معمر عن قتادة قال بمعنى حديث شيبان. قلت: وهو في مصنف عبد الرزاق عن معمر بلفظ: "مرتين" أيضا، وكذلك أخرجه الإمامان أحمد وإسحاق في مسنديهما عن عبد الرزاق، وقد اتفق الشيخان عليه من رواية شعبة عن قتادة بلفظ: "فرقتين" قال البيهقي: قد حفظ ثلاثة من أصحاب قتادة عنه" مرتين". قلت: لكن اختلف عن كل منهم في هذه اللفظة ولم يختلف على شعبة وهو أحفظهم، ولم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بلفظ: "مرتين" إنما فيه: "فرقتين أو فلقتين" بالراء أو اللام وكذا في حديث ابن عمر "فلقتين" وفي حديث جبير بن مطعم "فرقتين" وفي لفظ عنه "فانشق باثنتين" وفي رواية عن ابن عباس عند أبي نعيم في الدلائل "فصار قمرين" وفي لفظ: "شقتين" وعند الطبراني من حديثه" حتى رأوا شقيه" ووقع في نظم السيرة لشيخنا الحافظ أبي الفضل: وانشق مرتين بالإجماع. ولا أعرف من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرض لذلك أحد من شراح الصحيحين وتكلم ابن القيم على هذه الرواية فقال: المرات يراد بها الأفعال تارة والأعيان أخرى، والأول أكثر. ومن الثاني "انشق القمر مرتين" وقد خفي على بعض الناس فادعى أن انشقاق القمر وقع مرتين، وهذا مما يعلم أهل الحديث والسير أنه غلط فإنه لم يقع إلا مرة واحدة. وقد قال العماد بن كثير: في الرواية التي فيها "مرتين" نظر، ولعل قائلها أراد فرقتين. قلت: وهذا الذي لا يتجه غيره جمعا بين الروايات.
ثم راجعت نظم شيخنا فوجدته يحتمل التأويل المذكور، ولفظه:
فصار فرقتين فرقة علت ... وفرقة للطود منه نزلت
وذاك مرتين بالإجماع ... والنص والتواتر السماع
فجمع بين قوله: "فرقتين" وبين قوله: "مرتين" فيمكن أن يتعلق قوله بالإجماع بأصل الانشقاق لا بالتعدد، مع أن في نقل الإجماع في نفس الانشقاق نظرا سيأتي بيانه. قوله: "حتى رأوا حراء بينهما" أي بين الفرقتين، وحراء تقدم ضبطه في بدء الوحي وهو على يسار السائر من مكة إلى منى. قوله: "عن أبي حمزة" بالمهملة والزاي هو محمد بن ميمون السكري المروزي. قوله: "عن الأعمش عن إبراهيم" وقع في رواية السرخسي والكشميهني في آخر الباب من وجه آخر عن الأعمش "حدثنا إبراهيم". قوله: "عن أبي معمر" هذا هو المحفوظ. ووقع في رواية سعدان بن يحيى ويحيى بن عيسى الرملي" عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة" أخرجه ابن مردويه، ولأبي نعيم نحوه من طريق غريبة عن شعبة "عن الأعمش" والمحفوظ عن شعبة كما سيأتي في التفسير" عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي عمر" وهو المشهور، وقد أخرجه مسلم من طريق أخرى عن شعبة" عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر" وسيأتي للمصنف معلقا أن مجاهدا رواه" عن أبي معمر عن ابن مسعود" فالله أعلم هل عند مجاهد فيه إسنادان أو قول من قال ابن عمر وهم من أبي معمر. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود قوله: "انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى" في رواية مسلم من طريق علي بن مسهر عن الأعمش "بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى إذ انفلق القمر" وهذا لا يعارض قول أنس أن ذلك كان بمكة، لأنه لم يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ليلتئذ بمكة، وعلى تقدير تصريحه فمنى
(7/183)

من جملة مكة فلا تعارض، وقد وقع عند الطبراني من طريق زر بن حبيش عن ابن مسعود قال: "انشق القمر بمكة فرأيته فرقتين" وهو محمول على ما ذكرته، وكذا وقع في غير هذه الرواية، وقد وقع عند ابن مردويه بيان المراد فأخرجه من وجه آخر عن ابن مسعود قال: "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمكة قبل أن نصير إلى المدينة" فوضح أن مراده بذكر مكة الإشارة إلى أن ذلك وقع قبل الهجرة، ويجوز أن ذلك وقع وهم ليلتئذ بمنى. قوله: "فقال اشهدوا" أي اضبطوا هذا القدر بالمشاهدة. قوله: "وقال أبو الضحى إلخ" يحتمل أن يكون معطوفا على قوله: "عن إبراهيم" فإن أبا الضحى من شيوخ الأعمش فيكون للأعمش فيه إسنادان، ويحتمل أن يكون معلقا وهو المعتمد، فقد وصله أبو داود الطيالسي عن أبي عوانة، ورويناه في "فوائد أبي طاهر الذهلي" من وجه آخر عن أبي عوانة، وأخرجه أبو نعيم في "الدلائل" من طريق هشيم كلاهما عن مغيرة عن أبي الضحى بهذا الإسناد بلفظ: "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت كفار قريش: هذا سحر سحركم ابن أبي كبشة، فانظروا إلى السفار، فإن أخبروكم أنهم رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق، قال: فما قدم عليهم أحد إلا أخبرهم بذلك" لفظ هشيم، وعند أبي عوانة" انشق القمر بمكة - نحوه وفيه - فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم". قوله: "وتابعه محمد بن مسلم" هو الطائفي، وابن أبي نجيح اسمه عبد الله، واسم أبيه يسار بتحتانية ثم مهملة خفيفة، ومراده أنه تابع إبراهيم في روايته عن أبي معمر في قوله إن ذلك كان بمكة لا في جميع سياق الحديث، والجمع بين قول ابن مسعود "تارة بمنى وتارة بمكة" إما باعتبار التعدد إن ثبت، وإما بالحمل على أنه كان بمنى، ومن قال كان بمكة لا ينافيه لأن من كان بمنى كان بمكة من غير عكس، ويؤيده أن الرواية التي فيها بمنى قال فيها: "ونحن بمنى" والرواية التي فيها بمكة لم يقل فيها "ونحن" وإنما قال: "انشق القمر بمكة" يعني أن الانشقاق كان وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة، وبهذا يندفع دعوى الداودي أن بين الخبرين تضادا، والله أعلم. وابن أبي نجيح رواه عن مجاهد عن أبي معمر، وهذه الطريق وصلها عبد الرزاق في مصنفه، ومن طريقه البيهقي في "الدلائل" عن ابن عيينة ومحمد بن مسلم جميعا عن ابن أبي نجيح بهذا الإسناد بلفظ: "رأيت القمر منشقا شقتين: شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء" والسويداء بالمهملة والتصغير ناحية خارجة مكة عندها جبل، وقول ابن مسعود "على أبي قبيس" يحتمل أن يكون رآه كذلك وهو بمنى كأن يكون على مكان مرتفع بحيث رأى طرف جبل أبي قبيس، ويحتمل أن يكون القمر استمر منشقا حتى رجع ابن مسعود من منى إلى مكة فرآه كذلك وفيه بعد، والذي يقتضيه غالب الروايات أن الانشقاق كان قرب غروبه، ويؤيد ذلك إسنادهم الرؤية إلى جهة الجبل، ويحتمل أن يكون الانشقاق وقع أول طلوعه فإن في بعض الروايات أن ذلك كان ليلة البدر، أو التعبير بأبي قبيس من تغيير بعض الرواة، لأن الغرض ثبوت رؤيته منشقا إحدى الشقتين على جبل والأخرى على جبل آخر، ولا يغاير ذلك قول الراوي الآخر رأيت الجبل بينهما أي بين الفرقتين لأنه إذا ذهبت فرقة عن يمين الجبل وفرقة عن يساره مثلا صدق أنه بينهما، وأي جبل آخر كان من جهة يمينه أو يساره صدق أنها عليه أيضا، وسيأتي في تفسير سورة القمر من وجه آخر عن مجاهد بلفظ آخر وهو قوله: "انشق القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اشهدوا اشهدوا" وليس فيه تعيين مكان. وأخرجه ابن مردويه من رواية ابن جريج عن مجاهد بلفظ آخر وهو قوله: "انشق القمر، قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} يقول: كما شققت القمر كذلك أقيم الساعة". قوله: "أن القمر انشق على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم" هكذا أورده مختصرا،
(7/184)

وعند أبي نعيم من وجه آخر" انشق القمر فلقتين، قال ابن مسعود لقد رأيت جبل حراء من بين فلقتي القمر" وهذا يوافق الرواية الأولى في ذكر حراء. وقد أنكر جمهور الفلاسفة انشقاق القمر متمسكين بأن الآيات العلوية لا يتهيأ فيها الانخراق والالتئام؛ وكذا قالوا في فتح أبواب السماء ليلة الإسراء إلى غير ذلك من إنكارهم ما يكون يوم القيامة من تكوير الشمس وغير ذلك، وجواب هؤلاء إن كانوا كفارا أن يناظروا أولا على ثبوت دين الإسلام ثم يشركوا مع غيرهم ممن أنكر ذلك من المسلمين، ومتى سلم المسلم بعض ذلك دون بعض ألزم التناقض، ولا سبيل إلى إنكار ما ثبت في القرآن من الانخراق والالتئام في القيامة فيستلزم جواز وقوع ذلك معجزة لنبي الله صلى الله عليه وسلم وقد أجاب القدماء عن ذلك، قال أبو إسحاق الزجاج في "معاني القرآن": أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر ولا إنكار للعقل فيه، لأن القمر مخلوق لله يفعل فبه ما يشاء كما يكوره يوم البعث ويفنيه، وأما قول بعضهم: لو وقع لجاء متواترا واشترك أهل الأرض في معرفته ولما اختص بها أهل مكة، فجوابه أن ذلك وقع ليلا وأكثر الناس نيام والأبواب مغلقة وقل من يراصد السماء إلا النادر، وقد يقع بالمشاهدة في العادة أن ينكسف القمر، وتبدو الكواكب العظام وغير ذلك في الليل ولا يشاهدها إلا الآحاد، فكذلك الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقوم سألوا واقترحوا فلم يتأهب غيرهم لها، ويحتمل أن يكون القمر ليلتئذ كان في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم. وقال الخطابي. انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجا من جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر. وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لو وقع ذلك لم يحز أن يخفى أمره على عوام الناس لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة فالناس فيه شركاء والدواعي متوفرة على رؤية كل غريب ونقل ما لم يعهد، فلو كان لذلك أصل لخلد في كتب أهل التسيير والتنجيم، إذ لا يجوز إطباقهم على تركه وإغفاله مع جلاله شأنه ووضوح أمره. والجواب عن ذلك أن هذه القصة خرجت عن بقية الأمور التي ذكروها لأنه شيء طلبه خاص من الناس فوقع ليلا لأن القمر لا سلطان له بالنهار ومن شأن الليل أن يكون أكثر الناس فيه نياما ومستكنين بالأبنية، والبارز بالصحراء منهم إذا كان يقظان يحتمل أنه كان في ذلك الوقت مشغولا بما يلهيه من سمر وغيره، ومن المستبعد أن يقصدوا إلى مراصد مركز القمر ناظرين إليه لا يغفلون عنه، فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس، وإنما رآه من تصدى لرؤيته ممن اقترح وقوعه، ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر. ثم أبدى حكمة بالغة في كون المعجزات المحمدية لم يبلغ شيء منها مبلغ التواتر الذي لا نزاع فيه إلا القرآن بما حاصله: إن معجزة كل نبي كانت إذا وقعت عامة أعقبت هلاك من كذب به من قومه للاشتراك في إدراكها بالحس، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث رحمة فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية، فاختص بها القوم الذين بعث منهم لما أوتوه من فضل العقول وزيادة الأفهام، ولو كان إدراكها عاما لعوجل من كذب به كما عوجل من قبلهم. وذكر أبو نعيم في "الدلائل" نحو ما ذكره الخطابي وزاد: ولا سيما إذا وقعت الآية في بلدة كان عامة أهلها يومئذ الكفار الذين يعتقدون أنها سحر ويجتهدون في إطفاء نور الله. قلت: وهو جيد بالنسبة إلى من سأل عن الحكمة في قلة من نقل ذلك من"الصحابة" وأما من سأل عن السبب في كون أهل التنجيم لم يذكروه فجوابه أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه نفاه، وهذا كاف، فإن الحجة فيمن أثبت لا فيمن يوجد عنه صريح النفي، حتى
(7/185)

إن من وجد عنه صريح النفي يقدم عليه من وجد منه صريح الإثبات. وقال ابن عبد البر: قد روى هذا الحديث جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين. ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا، ويؤيد ذلك بالآية الكريمة، فلم يبق لاستبعاد من استبعد وقوعه عذر. ثم أجاب بنحو جواب الخطابي وقال: وقد يطلع على قوم قبل طلوعه على آخرين، وأيضا فإن زمن الانشقاق لم يطل ولم تتوفر الدواعي على الاعتناء بالنظر إليه، ومع ذلك فقد بعث أهل مكة إلى آفاق مكة يسألون عن ذلك فجاءت السفار وأخبروا بأنهم عاينوا ذلك، وذلك لأن المسافرين في الليل غالبا يكونون سائرين في ضوء القمر ولا يخفى عليهم ذلك. وقال القرطبي: الموانع من مشاهدة ذلك إذا لم يحصل القصد إليه غير منحصرة، ويحتمل أن يكون الله صرف جميع أهل الأرض غير أهل مكة وما حولها عن الالتفات إلى القمر في تلك الساعة ليختص بمشاهدته أهل مكة كما اختصوا بمشاهدة أكثر الآيات ونقلوها إلى غيرهم ا ه. وفي كلامه نظر لأن أحدا لم ينقل أن أحدا من أهل الآفاق غير أهل مكة ذكروا أنهم رصدوا القمر في تلك الليلة المعينة فلم يشاهدوا انشقاقه، فلو نقل ذلك لكان الجواب الذي أبداه القرطبي جيدا، ولكن لم ينقل عن أحد من أهل الأرض شيء من ذلك، فالاقتصار حينئذ على أن الجواب الذي ذكره الخطابي ومن تبعه أوضح، والله أعلم. وأما الآية فالمراد بها قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} لكن ذهب بعض أهل العلم من القدماء أن المراد بقوله: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي سينشق كما قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} أي سيأتي، والنكتة في ذلك إرادة المبالغة في تحقق وقوع ذلك، فنزل منزلة الواقع. والذي ذهب إليه الجمهور أصح كما جزم به ابن مسعود وحذيفة وغيرهما، ويؤيده قوله تعالى: بعد ذلك: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} فإن ذلك ظاهر في أن المراد بقوله: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} وقوع انشقاقه، لأن الكفار لا يقولون ذلك يوم القيامة، وإذا تبين أن قولهم ذلك إنما هو في الدنيا تبين وقوع الانشقاق وأنه المراد بالآية التي زعموا أنها سحر، ووقع ذلك صريحا في حديث ابن مسعود كما بيناه قبل، ونقل البيهقي في أوائل البعث والنشور عن الحليمي أن من الناس من يقول: إن المراد بقوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي سينشق، قال الحليمي: فإن كان كذلك فقد وقع في عصرنا، فشاهدت الهلال ببخارى في الليلة الثالثة منشقا نصفين عرض كل واحد منهما كعرض القمر ليلة أربع أو خمس، ثم اتصلا فصار في شكل أترجة إلى أن غاب. قال: وأخبرني بعض من أثق به أنه شاهد ذلك في ليلة أخرى أ ه. ولقد عجبت من البيهقي كيف أقر هذا مع إيراده حديث ابن مسعود المصرح بأن المراد بقوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أن ذلك وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ساقه هكذا من طريق ابن مسعود في هذه الآية {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قال: لقد انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ساق حديث ابن مسعود" لقد مضت آية الدخان والروم والبطشة وانشقاق القمر" وسيأتي الكلام على هذا الحديث الأخير في تفسير سورة الدخان إن شاء الله تعالى.
(7/186)