باب الْمِعْرَاجِ 2
 
خبيثة ونفس خبيثة، اجعلوها في سجين" وفي حديث أبي هريرة عند البزار" فإذا عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة" الحديث. فظهر من الحديثين عدم اللزوم المذكور، وهذا أولى مما جمع به القرطبي في "المفهم" أن ذلك في حالة مخصوصة. قوله: "بالابن الصالح والنبي الصالح" قيل: اقتصر الأنبياء على وصفه بهذه الصفة وتواردوا عليها لأن الصلاح صفة تشمل خلال الخير، ولذلك كررها كل منهم عند كل صفة، والصالح هو الذي يقوم بما يلزمه من حقوق الله وحقوق العباد، فمن ثم كانت كلمة جامعة لمعاني الخير، وفي قول آدم" بالابن الصالح" إشارة إلى افتخاره بأبوة النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي في التوحيد بيان الحكمة في خصوص منازل الأنبياء من السماء. قوله: "ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية" وفيه: "فإذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة" قال النووي قال ابن السكيت: يقال ابنا خالة ولا يقال ابنا عمة، ويقال ابنا عم ولا يقال ابنا خالاه. ولم يبين سبب ذلك، والسبب فيه أن ابني الخالة أم كل منهما خالة الآخر لزوما، بخلاف ابني العمة، وقد توافقت هذه الرواية مع رواية ثابت عن أنس عند مسلم أن في الأولى آدم وفي الثانية يحيى وعيسى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم وخالف ذلك الزهري في روايته عن أنس عن أبي ذر أنه لم يثبت أسماءهم وقال فيه: "وإبراهيم في السماء السادسة" ووقع في رواية شريك عن أنس أن إدريس في الثالثة، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة، وسياقه يدل على أنه لم يضبط منازلهم أيضا كما صرح به الزهري، ورواية من ضبط أولى ولا سيما مع اتفاق قتادة وثابت وقد وافقهما يزيد بن أبي مالك عن أنس، إلا أنه خالف في إدريس وهارون فقال هارون في الرابعة، وإدريس في الخامسة: ووافقهم أبو سعيد إلا أن في رواية يوسف في الثانية، وعيسى ويحيى في الثالثة، والأول أثبت. وقد استشكل رؤية الأنبياء في السماوات مع أن أجسادهم مستقرة في قبورهم بالأرض، وأجيب بأن أرواحهم تشكلت بصور أجسادهم أو أحضرت أجسادهم لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة تشريفا له وتكريما، ويؤيده حديث عبد الرحمن بن هاشم عن أنس ففيه: "وبعث له آدم فمن دونه من الأنبياء" فافهم، وقد تقدمت الإشارة إليه في الباب الذي قبله. قوله: "فلما خلصت إذا يوسف" زاد مسلم في رواية ثابت عن أنس "فإذا هو قد أعطي شطر الحسن" وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي وأبي هريرة عند ابن عائذ والطبراني "فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله، قد فصل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب" وهذا ظاهره أن يوسف عليه السلام كان أحسن من جميع الناس، لكن روى الترمذي من حديث أنس ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه حسن الصوت وكان نبيكم أحسنهم وجها وأحسنهم صوتا فعلى هذا فيحمل حديث المعراج على أن المراد غير النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قول من قال: إن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه، وأما حديث الباب فقد حمله ابن المنير على أن المراد أن يوسف أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. وقد اختلف في الحكمة في اختصاص كل منهم بالسماء التي التقاه بها، فقيل ليظهر تفاضلهم في الدرجات، وقيل: لمناسبة تتعلق بالحكمة في الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء، فقيل أمروا بملاقاته فمنهم من أدركه في أول وهلة ومنهم من تأخر فلحق ومنهم من فاته، وهذا زيفه السهيلي فأصاب، وقيل: الحكمة في الاقتصار على هؤلاء المذكورين للإشارة إلى ما سيقع له صلى الله عليه وسلم مع قومه من نظير ما وقع لكل منهم، فأما آدم فوقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة إلى الأرض بما سيقع للنبي صلى الله عليه وسلم من الهجرة إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة وكراهة فراق ما ألفه من الوطن،
(7/210)

ثم كان مآل كل منهما أن يرجع إلى موطنه الذي أخرج منه، وبعيسى ويحيى على ما وقع له من أول الهجرة من عداوة اليهود وتماديهم على البغي عليه وإرادتهم وصول السوء إليه، وبيوسف على ما وقع له من إخوته من قريش في نصبهم الحرب له وإرادتهم هلاكه وكانت العاقبة له، وقد أشار إلى ذلك بقوله لقريش يوم الفتح" أقول كما قال يوسف: لا تثريب عليكم" وبإدريس على رفيع منزلته عند الله، وبهارون على أن قومه رجعوا إلى محبته بعد أن آذوه، وبموسى على ما وقع له من معالجة قومه وقد أشار إلى ذلك بقوله: "لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر" وبإبراهيم في استناده إلى البيت المعمور بما ختم له صلى الله عليه وسلم في آخر عمره من إقامة منسك الحج وتعظيم البيت، وهذه مناسبات لطيفة أبداها السهيلي فأوردتها منقحة ملخصة. وقد زاد ابن المنير في ذلك أشياء أضربت عنها إذ أكثرها في المفاضلة بين الأنبياء والإشارة في هذا المقام عندي أولى من تطويل العبارة. وذكر في مناسبة لقاء إبراهيم في السماء السابعة معنى لطيفا زائدا، وهو ما اتفق له صلى الله عليه وسلم من دخول مكة في السنة السابعة وطوافه بالبيت، ولم يتفق له الوصول إليها بعد الهجرة قبل هذه، بل قصدها في السنة السادسة فصدوه عن ذلك كما تقدم بسطه في كتابه الشروط قال ابن أبي جمرة: الحكمة في كون آدم في السماء الدنيا لأنه أول الأنبياء وأول الآباء وهو أصل فكان أولا في الأولى، ولأجل تأنيس النبوة بالأبوة، وعيسى في الثانية لأنه أقرب الأنبياء عهدا من محمد، ويليه يوسف لأن أمة محمد تدخل الجنة على صورته، وإدريس في الرابعة لقوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} والرابعة من السبع وسط معتدل، وهارون لقربه من أخيه موسى، أرفع منه لفضل كلام الله، وإبراهيم لأنه الأب الأخير فناسب أن يتجدد للنبي صلى الله عليه وسلم بلقيه أنس لتوجهه بعده إلى عام آخر، وأيضا فمنزلة الخليل تقتضي أن تكون أرفع المنازل ومنزلة الحبيب أرفع من منزلته، فلذلك ارتفع النبي صلى الله عليه وسلم عن منزلة إبراهيم إلى قاب قوسين أو أدنى. قوله: في قصة موسى "فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي" وفي رواية شريك عن أنس "لم أظن أحدا يرفع علي" وفي حديث أبي سعيد: قال موسى: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم على الله، وهذا أكرم على الله مني زاد الأموي في روايته: "ولو كان هذا وحده هان علي، ولكن معه أمته وهم أفضل الأمم عند الله" وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أنه "مر بموسى عليه السلام وهو يرفع صوته فيقول: أكرمته وفضلته، فقال جبريل: هذا موسى، قلت: ومن يعاتب قال: يعاتب ربه فيك، قلت: ويرفع صوته على ربه؟ قال: إن الله قد عرف له حدته" وفي حديث ابن مسعود عند الحارث وأبي يعلى والبزار "وسمعت صوتا وتذمرا، فسألت جبريل فقال: هذا موسى، قلت على من تذمره؟ قال: على ربه. قلت: على ربه؟ قال: إنه يعرف ذلك منه" قال العلماء: لم يكن بكاء موسى حسدا، معاذ الله، فإن الحسد في ذلك العالم منزوع عن آحاد المؤمنين فكيف بمن اصطفاه الله تعالى، بل كان أسفا على ما فاته من الأجر الذي يترتب عليه رفع الدرجة بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم المستلزم لتنقيص أجره، لأن لكل نبي مثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه من أمته في العدد دون من اتبع نبينا صلى الله عليه وسلم مع طول مدتهم بالنسبة لهذه الأمة. وأما قوله: "غلام" فليس على سبيل النقص، بل على سبيل التنويه بقدرة الله وعظيم كرمه إذ أعطى لمن كان في ذلك السن ما لم يعطه أحدا قبله ممن هو أسن منه. وقد وقع من موسى من العناية بهذه الأمة من أمر الصلاة ما لم يقع لغيره، ووقعت الإشارة لذلك في حديث أبي هريرة عند الطبري والبزار، قال عليه الصلاة
(7/211)

والسلام "كان موسى أشدهم علي حين مررت به: وخيرهم لي حين رجعت إليه" وفي حديث أبي سعيد "فأقبلت راجعا، فمررت بموسى ونعم الصاحب كان لكم، فسألني: كم فرض عليك ربك"؟ الحديث قال ابن أبي جمرة: إن الله جعل الرحمة في قلوب الأنبياء أكثر مما جعل الرحمة في قلوب غيرهم، لذلك بكى رحمة لأمته، وأما قوله: "هذا غلام" فأشار إلى صغر سنه بالنسبة إليه، قال الخطابي: العرب تسمي الرجل المستجمع السن غلاما ما دامت فيه بقية من القوة ا ه. ويظهر لي أن موسى عليه السلام أشار إلى ما أنعم الله به على نبينا عليهما الصلاة والسلام من استمرار القوة في الكهولية وإلى أن دخل في سن الشيخوخة ولم يدخل على بدنه هرم ولا اعترى قوته نقص، حتى أن الناس في قدومه المدينة كما سيأتي من حديث أنس لما رأوه مردفا أبا بكر أطلقوا عليه اسم الشاب وعلى أبي بكر اسم الشيخ مع كونه في العمر أسن من أبي بكر، والله أعلم. وقال القرطبي: الحكمة في تخصيص موسى بمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الصلاة لعلها لكون أمة موسى كلفت من الصلوات بما لم تكلف به غيرها من الأمم، فثقلت عليهم، فأشفق موسى على أمة محمد من مثل ذلك. ويشير إلى ذلك قوله. "إني قد جربت الناس قبلك" انتهى. وقال غيره لعلها من جهة أنه ليس في الأنبياء من له أكثر من موسى ولا من له كتاب أكبر ولا أجمع للأحكام من هذه الجهة مضاهيا للنبي صلى الله عليه وسلم، فناسب أن يتمنى أن يكون له مثل ما أنعم به عليه من غير أن يريد زواله عنه، وناسب أن يطلعه على ما وقع له وينصحه فيما يتعلق به، ويحتمل أن يكون موسى لما غلب عليه في الابتداء الأسف على نقص حظ أمته بالنسبة لأمة محمد حتى تمنى ما تمنى أن يكون، استدرك ذلك ببدل النصيحة لهم والشفقة عليهم ليزيل ما عساه أن يتوهم عليه فيما وقع منه في الابتداء. وذكر السهيلي أن الحكمة في ذلك أنه كان رأى في مناجاته صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فدعا الله أن يجعله منهم، فكان إشفاقه عليهم كعناية من هو منهم. وتقدم في أول الصلاة شيء من هذا، ومما يتعلق بأمر موسى بالترديد مرارا، والعلم عند الله تعالى. وقد وقع من موسى عليه السلام في هذه القصة من مراعاة جانب النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمسك عن جميع ما وقع له حتى فارقه النبي صلى الله عليه وسلم أدبا معه وحسن عشرة، فلما فارقه بكى وقال ما قال. قوله: "فإذا إبراهيم" في حديث أبي سعيد "فإذا أنا بإبراهيم خليل الرحمن مسندا ظهره إلى البيت المعمور كأحسن الرجال" وفي حديث أبي هريرة عند الطبري "فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي". "تكملة": اختلف في حال الأنبياء عند لقي النبي صلى الله عليه وسلم إياهم ليلة الإسراء هل أسري بأجسادهم لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، أو أن أرواحهم مستقرة في الأماكن التي لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم وأرواحهم مشكلة بشكل أجسادهم كما جزم به أبو الوفاء بن عقيل، واختار الأول بعض شيوخنا، واحتج بما ثبت في مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت موسى ليلة أسري بي قائما يصلي في قبره" فدل على أنه أسري به لما مر به. قلت: وليس ذلك بلازم بل يجوز أن يكون لروحه اتصال بجسده في الأرض، فلذلك يتمكن من الصلاة وروحه مستقرة في السماء. قوله: "ثم رفعت إلى سدرة المنتهى" كذا للأكثر بضم الراء وسكون العين وضم التاء من "رفعت" بضمير المتكلم وبعده حرف جر، وللكشميهني: "رفعت" بفتح العين وسكون التاء أي السدرة لي باللام أي من أجلي، وكذا تقدم في بدء الخلق، ويجمع بين الروايتين بأن المراد أنه رفع إليها أي ارتقى به وظهرت له، والرفع إلى الشيء يطلق على التقريب منه، وقد قيل في قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أي تقترب لهم، ووقع بيان سبب تسميتها سدرة المنتهى في حديث ابن مسعود عند مسلم ولفظه: "لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: انتهى بي إلى سدرة المنتهى وهي في السماء
(7/212)

السادسة وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط فيقبض منها" وقال النووي سميت سدرة المنتهى لأن علم الملائكة ينتهي إليها، ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: وهذا لا يعارض حديث ابن مسعود المتقدم، لكن حديث ابن مسعود ثابت في الصحيح فهو أولى بالاعتماد. قلت: وأورد النووي هذا بصيغة التمريض فقال: وحكي عن ابن مسعود أنها سميت بذلك إلخ. كذا أورده فأشعره بضعفه عنده، ولا سيما ولم يصرح برفعه، وهو صحيح مرفوع. وقال القرطبي في "المفهم ": ظاهر حديث أنس أنها في السابعة لقوله بعد ذكر السماء السابعة "ثم ذهب بي إلى السدرة" وفي حديث ابن مسعود أنها في السادسة، وهذا تعارض لا شك فيه، وحديث أنس هو قول الأكثر، وهو الذي يقتضيه وصفها بأنها التي ينتهي إليها علم كل نبي مرسل وكل ملك مقرب على ما قال كعب، قال: وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله أو من أعلمه، وبهذا جزم إسماعيل بن أحمد. وقال غيره: إليها منتهى أرواح الشهداء، قال: ويترجح حديث أنس بأنه مرفوع، وحديث ابن مسعود موقوف، كذا قال، ولم يعرج على الجمع بل جزم بالتعارض. قلت: ولا يعارض قوله إنها في السادسة ما دلت عليه بقية الأخبار أنه وصل إليها بعد أن دخل السماء السابعة لأنه يحمل على أن أصلها في السماء السادسة وأغصانها وفروعها في السابعة، وليس في السادسة منها إلا أصل ساقها، وتقدم في حديث أبي ذر أول الصلاة" فغشيها ألوان لا أدري ما هي" وبقية حديث ابن مسعود المذكور" قال الله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال: فراش من ذهب" كذا فسر المبهم في قوله: {مَا يَغْشَى} بالفراش. ووقع في رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس "جراد من ذهب" قال البيضاوي: "وذكر الفراش وقع على سبيل التمثيل، لأن من شأن الشجر أن يسقط عليها الجراد وشبهه، وجعلها من الذهب لصفاء لونها وإضاءتها في نفسها" انتهى. ويجوز أن يكون من الذهب حقيقة ويخلق فيه الطيران، والقدرة صالحة لذلك. وفي حديث أبي سعيد وابن عباس "يغشاها الملائكة" وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي "على كل ورقة منها ملك" ووقع في رواية ثابت عن أنس عند مسلم: "فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من جنسها" وفي رواية حميد عن أنس عند ابن مردويه نحوه لكن قال تحولت قوتا ونحو ذلك. قوله: "فإذا نبقها" بفتح النون وكسر الموحدة وسكونها أيضا، قال ابن دحية: والأول هو الذي ثبت في الرواية، أي التحريك. والنبق معروف وهو ثمر السدر. قوله: "مثل قلال هجر" قال الخطابي: القلال بالكسر جمع قلة بالضم هي الجرار، يريد أن ثمرها في الكبر مثل القلال، وكانت معروفة عند المخاطبين فلذلك وقع التمثيل بها، قال: وهي التي وقع تحديد الماء الكثير بها في قوله: "إذا بلغ الماء قلتين"، وقوله: "هجر" بفتح الهاء والجيم بلدة لا تنصرف للتأنيث والعلمية، ويجوز الصرف. قوله: "وإذا ورقها مثل آذان الفيلة" بكسر الفاء وفتح التحتانية بعدها لام جمع فيل، ووقع في بدء الخلق"مثل آذان الفيول" وهو جمع فيل أيضا قال ابن دحية: اختيرت السدرة دون غيرها لأن فيها ثلاثة أوصاف: ظل ممدود، وطعام لذيذ، ورائحة زكية فكانت بمنزلة الإيمان الذي يجمع القول والعمل والنية، والظل بمنزلة العمل، والطعم بمنزلة النية، والرائحة بمنزلة القول. قوله: "وإذا أربعة أنهار" في بدء الخلق" فإذا في أصلها - أي في أصل سدرة المنتهى - أربعة أنهار" ولمسلم: "يخرج من أصلها" ووقع في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة "أربعة أنهار من الجنة: النيل والفرات وسيحان وجيحان" فيحتمل أن تكون
(7/213)

سدرة المنتهى مغروسة في الجنة والأنهار تخرج من تحتها فيصح أنها من الجنة. قوله: "أما الباطنان ففي الجنة1" قال ابن أبي جمرة فيه أن الباطن أجل من الظاهر، لأن الباطن جعل في دار البقاء والظاهر جعل في دار الفناء، ومن ثم كان الاعتماد على ما في الباطن كما صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم". قوله: "وأما الظاهران فالنيل والفرات" وقع في رواية شريك كما سيأتي في التوحيد أنه رأى في السماء الدنيا نهرين يطردان فقال له جبريل هما النيل والفرات عنصرهما والجمع بينهما أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهري الجنة ورآهما في السماء الدنيا دون نهري الجنة وأراد بالعنصر عنصر امتيازهما بسماء الدنيا كذا قال ابن دحية، ووقع في حديث شريك أيضا: "ومضى به يرقى السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك". ووقع في رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند ابن أبي حاتم أنه بعد أن رأى إبراهيم قال: "ثم انطلق بي على ظهر السماء السابعة حتى انتهى إلى نهر عليه خيام اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعليه طير خضر، أنعم طير رأيت، قال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله، فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجري على رضراض من الياقوت والزمرد، ماؤه أشد بياضا من اللبن، قال فأخذت من آنيته فاغترفت من ذلك الماء فشربت فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك" وفي حديث أبي سعيد "فإذا فيها عين تجري يقال لها السلسبيل فينشق منها نهران أحدهما الكوثر والآخر يقال له نهر الرحمة". قلت: فيمكن أن يفسر بهما النهران الباطنان المذكوران في حديث الباب. وكذا روي عن مقاتل قال: الباطنان السلسبيل والكوثر. وأما الحديث الذي أخرجه مسلم بلفظ: "سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة" فلا يغاير هذا لأن المراد به أن في الأرض أربعة أنهار أصلها من الجنة، وحينئذ لم يثبت لسيحون وجيحون أنهما ينبعان من أصل سدرة المنتهى، فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك. وأما الباطنان المذكوران في حديث الباب فهما غير سيحون وجيحون، والله أعلم. قال النووي: في هذا الحديث أن أصل النيل والفرات من الجنة، وأنهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض، ثم يسيران فيها ثم يخرجان منها، وهذا لا يمنعه العقل، وقد شهد به ظاهر الخبر فليعتمد. وأما قول عياض: إن الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض لكونه قال: إن النيل والفرات يخرجان من أصلها وهما بالمشاهدة يخرجان من الأرض فيلزم منه أن يكون أصل السدرة في الأرض، وهو متعقب، فإن المراد بكونهما يخرجان من أصلها غير خروجهما بالنبع من الأرض. والحاصل أن أصلها في الجنة وهما يخرجان أولا من أصلها ثم يسيران إلى أن يستقرا في الأرض ثم ينبعان. واستدل به على فضيلة ماء النيل والفرات لكون منبعهما من الجنة، وكذا سيحان وجيحان. قال القرطبي: لعل ترك ذكرهما في حديث الإسراء لكونهما ليسا أصلا برأسهما. وإنما يحتمل أن يتفرعا عن النيل والفرات. قال: وقيل: وإنما أطلق على هذه الأنهار أنها من الجنة تشبيها لها بأنهار الجنة لما فيها من شدة العذوبة والحسن والبركة، والأول أولى، والله أعلم. "تنبيه": الفرات بالمثناة في الخط في حالتي الوصل والوقف في القراءات المشهورة،
ـــــــ
1 الذي في نسخ الصحيح "أما الباطنان فنهران في الجنة"
(7/214)

وجاء في قراءة شاذة أنها هاء تأنيث، وشبهها أبو المظفر بن الليث بالتابوت والتابوه. قوله: "ثم رفع لي البيت المعمور" زاد الكشميهني: "يدخله كل يوم سبعون ألف ملك" وتقدمت هذه الزيادة في بدء الخلق بزيادة "إذا خرجوا لم يعودوا آخر ما عليهم" وكذا وقع مضموما إلى رواية قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة، وقد بينت في بدء الخلق أنه مدرج، وذكرت من فصله من رواية قتادة عن الحسن عن أبي هريرة، وقد قدمت ما يتعلق بالبيت المعمور هناك، ووقعت هذه الزيادة أيضا عند مسلم من طريق ثابت عن أنس وفيه أيضا: "ثم لا يعودون إليه أبدا" وزاد ابن إسحاق في حديث أبي سعيد" إلى يوم القيامة" وفي حديث أبي هريرة عند البزار أنه رأى هناك أقواما بيض الوجوه وأقواما في ألوانهم شيء فدخلوا نهرا فاغتسلوا فخرجوا وقد خلصت ألوانهم، فقال له جبريل "هؤلاء من أمتك خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا". وفي رواية أبي سعيد عند الأموي والبيهقي أنهم "دخلوا معه البيت المعمور وصلوا فيه جميعا" واستدل به على أن الملائكة أكثر المخلوقات لأنه لا يعرف من جميع العوامل من يتجدد من جنسه في كل يوم سبعون ألفا غير ما ثبت عن الملائكة في هذا الخبر. قوله: "ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها" أي دين الإسلام. قال القرطبي يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه، والسر في ميل النبي صلى الله عليه وسلم إليه دون غيره لكونه كان مألوفا له، ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة، وقد وقع في هذه الرواية أن إتيانه الآنية كان بعد وصوله إلى سدرة المنتهى، وسيأتي في الأشربة من طريق شعبة عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفعت لي سدرة المنتهى فإذا أربعة أنهار" فذكره قال: "وأتيت بثلاثة أقداح" الحديث وهذا موافق لحديث الباب؛ إلا أن شعبة لم يذكر في الإسناد مالك بن صعصعة. وفي حديث أبي هريرة عند ابن عائذ في حديث المعراج بعد ذكر إبراهيم قال: "ثم انطلقنا، فإذا نحن بثلاثة آنية مغطاة، فقال جبريل: يا محمد ألا تشرب مما سقاك ربك؟ فتناولت إحداهما فإذا هو عسل فشربت منه قليلا، ثم تناولت الآخر فإذا هو لبن فشربت منه حتى رويت، فقال: ألا تشرب من الثالث؟ قلت: قد رويت.قال: وفقك الله" وفي رواية البزار من هذا الوجه أن الثالث كان خمرا، لكن وقع عنده أن ذلك كان ببيت المقدس، وأن الأول كان ماء ولما يذكر العسل. وفي حديث ابن عباس عند أحمد" فلما أتى المسجد الأقصى قام يصلي، فلما انصرف جيء بقدحين في أحدهما لبن وفي الآخر عسل، فأخذ اللبن" الحديث، وقد وقع عند مسلم من طريق ثابت عن أنس أيضا أن إتيانه بالآنية كان ببيت المقدس قبل المعراج ولفظه: "ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاء جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فأخذت اللبن، فقال جبريل: أخذت الفطرة.ثم عرج إلى السماء" وفي حديث شداد بن أوس فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخذني من العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين أحدهما لبن والآخر عسل، فعدلت بينهما، ثم هداني الله فأخذت اللبن، فقال شيخ بين يدي - يعني لجبريل - أخذ صاحبك الفطرة" وفي حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق في قصة الإسراء" فصلى بهم - يعني الأنبياء - ثم أتي بثلاثة آنية: إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء، فأخذت اللبن" الحديث. وفي مرسل الحسن عنده نحوه لكن لم يذكر إناء الماء، ووقع بيان مكان عرض الآنية في رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عند المصنف كما سيأتي في أول الأشربة ولفظه: "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بإيلياء بإناء فيه خمر وإنا فيه لبن، فنظر إليهما فأخذ اللبن، فقال له جبريل: الحمد لله الذي
(7/215)

هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك" وهو عند مسلم وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة عن أنس عند البيهقي" فعرض عليه الماء والخمر واللبن فأخذ اللبن، فقال له جبريل: أصبت الفطرة، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو شربت الخمر لغويت وغوت أمتك" ويجمع بين هذا الاختلاف إما بحمل "ثم" على غير بابها من الترتيب وإنما هي بمعنى الواو هنا، وإما بوقوع عرض الآنية مرتين: مرة عند فراغه من الصلاة ببيت المقدس وسببه ما وقع له من العطش، ومرة عند وصوله إلى سدرة المنتهى ورؤية الأنهار الأربعة. أما الاختلاف في عدد الآنية وما فيها فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، ومجموعها أربعة آنية فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التي رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى. ووقع في حديث أبي هريرة عند الطبري لما ذكر سدرة المنتهى "يخرج أصلها من أنهار من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، ومن عسل مصفى" فلعله عرض عليه من كل نهر إناء. وجاء عن كعب أن نهر العسل نهر النيل ونهر اللبن نهر جيحان ونهر الخمر نهر الفرات ونهر الماء سيحان، والله أعلم. قوله: "ثم فرضت علي الصلاة" تقدم ما يتعلق بها في الكلام على حديث أبي ذر في أول الصلاة، والحكمة في تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم لما عرج به رأى في تلك الليلة تعبد الملائكة وأن منهم القائم فلا يقعد والراكع فلا يسجد والساجد فلا يقعد، فجمع الله له ولأمته تلك العبادات كلها في كل ركعة يصليها العبد، بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة. وقال في اختصاص فرضيتها بليلة الإسراء إشارة إلى عظيم بيانها، ولذلك اختص فرضها بكونه بغير واسطة بل بمراجعات تعددت على ما سبق بيانه. قوله: "ولكن أرضى وأسلم" في رواية الكشميهني: "ولكني أرضى وأسلم" وفيه حذف تقدير الكلام: سألت ربي حتى استحييت فلا أرجع، فإني إن رجعت صرت غير راض ولا مسلم، ولكني أرضى وأسلم. قوله: "أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي" تقدم أول الصلاة من رواية أنس عن أبي ذر" هن خمس وهن خمسون" وتقدم شرحه. وفي رواية ثابت عن أنس عند مسلم: "حتى قال: يا محمد هي خمس صلوات في كل يوم وليلة، كل صلاة عشرة فتلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة" الحديث، وسيأتي الكلام على هذه الزيادة في الرقاق. وفي رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند النسائي: "وأتيت سدرة المنتهى فغشيتني ضبابة، فخررت ساجدا، فقيل لي: إني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فقم بها أنت وأمتك" فذكر مراجعته مع موسى وفيه: "فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتان فما قاموا بهما" وقال في آخره: "فخمس بخمسين فقم بها أنت وأمتك، قال فعرفت أنها عزمة من الله، فرجعت إلى موسى فقال لي ارجع، فلم أرجع". قوله: "فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي" هذا من أقوى ما استدل به على أن الله سبحانه وتعالى كلم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بغير واسطة. "تكملة": وقع في غير هذه الرواية زيادات رآها صلى الله عليه وسلم بعد سدرة المنتهى لم تذكر في هذه الرواية، منها ما تقدم في أول الصلاة" حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام" وفي رواية شريك عن أنس كما سيأتي في التوحيد" حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة تبارك وتعالى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه خمسين صلاة" الحديث. وقد استشكلت هذه الزيادة ويأتي الكلام على ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى في كتاب التوحيد. وفي رواية أبي ذر من الزيادة أيضا: "ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك" وعند مسلم من طريق همام عن قتادة
(7/216)

عن أنس رفعه: "بينا أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، وإذا طينه مسك أذفر، فقال جبريل: هذا الكوثر" وله من طريق شيبان عن قتادة عن أنس "لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم: "فذكر نحوه. وعند ابن أبي حاتم وابن عائذ من طريق يزيد بن أبي مالك عن أنس "ثم انطلق حتى انتهى بي إلى الشجرة، فغشيني من كل سحابة فيها من كل لون، فتأخر جبريل. وخررت ساجدا" وفي حديث ابن مسعود عند مسلم: "وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، وخواتم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته المقحمات، يعني الكبائر" وفي هذه الرواية من الزيادة "ثم انجلت عني السحابة وأخذ بيدي جبريل، فانصرفت سريعا فأتيت على إبراهيم فلم يقل شيئا، ثم أتيت على موسى فقال: ما صنعت" الحديث. وفيه أيضا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لجبريل: ما لي لم آت أهل سماء إلا رحبوا وضحكوا إلي، غير رجل واحد فسلمت عليه فرد علي السلام ورحب بي ولم يضحك إلي؟ قال: يا محمد ذاك مالك خازن جهنم، لم يضحك منذ خلق، ولو ضحك إلى أحد لضحك إليك ، وفي حديث حذيفة عند أحمد والترمذي" حتى فتحت لهما أبواب السماء فرأيا الجنة والنار، ووعد الآخرة أجمع" وفي حديث أبي سعيد" أنه عرض عليه الجنة، وإذا رمانها كأنه الدلاء؛ وإذا طيرها كأنها البخت، وأنه عرضت عليه النار، فإذا هي لو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها" وفي حديث شداد بن أوس "فإذا جهنم تكشف عن مثل الزرابي، ووجدتها مثل الحمة السخنة" وزاد فيه أنه رآها في وادي بيت المقدس. وفي رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند ابن أبي حاتم "أن جبريل قال: يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال نعم: قال: قال: فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن. قال: فأتيت إليهن فسلمت، فرددت فقلت: من أنتن؟ فقلن: "خيرات حسان" الحديث. وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه "أن إبراهيم الخليل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا بني إنك لاق ربك الليلة، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك أو جلها في أمتك فافعل" وفي رواية الواقدي بأسانيده في أول حديث الإسراء "كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يريه الجنة والنار، فلما كانت ليلة السبت لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا وهو نائم في بيته ظهرا أتاه جبريل وميكائيل فقالا: انطلق إلى ما سألت، فانطلقا به إلى ما بين المقام وزمزم، فأتي بالمعراج، فإذا هو أحسن شيء منظرا، فعرجا به إلى السماوات، فلقي الأنبياء، وانتهى إلى سدرة المنتهى، ورأى الجنة والنار، وفرض عليه الخمس" فلو ثبت هذا لكان ظاهرا في أنه معراج آخر لقوله إنه كان ظهرا، وأن المعراج كان من مكة، وهو مخالف لما في الروايات الصحيحة في الأمرين معا. ويعكر على التعدد قوله إن الصلوات فرضت حينئذ، إلا إن حمل على أنه أعيد ذكره تأكيدا، أو فرع على أن الأول كان مناما وهذا يقظة أو بالعكس، والله أعلم. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم أن للسماء أبوابا حقيقة وحفظة موكلين بها، وفيه إثبات الاستئذان، وأنه ينبغي لمن يستأذن أن يقول أنا فلان، ولا يقتصر على أنا لأنه ينافي مطلوب الاستفهام، وأن المار يسلم على القاعد وإن كان المار أفضل من القاعد، وفيه استحباب تلقي أهل الفضل بالبشر والترحيب والثناء والدعاء، وجواز مدح الإنسان المأمون عليه الافتتان في وجهه، وفيه جواز الاستناد إلى القبلة بالظهر وغيره مأخوذ من استناد إبراهيم إلى البيت المعمور وهو كالكعبة في أنه قبلة من كل جهة، وفيه جواز نسخ الحكم قبل وقوع الفعل، وقد سبق البحث فيه في أول الصلاة، وفيه فضل السير بالليل على السير بالنهار لما وقع من الإسراء بالليل، ولذلك كانت أكثر عبادته صلى الله عليه وسلم بالليل، وكان أكثر سفره صلى الله عليه وسلم بالليل. وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالدلجة فإن الأرض
(7/217)

تطوى بالليل" وفيه أن التجربة أقوى في تحصيل المطلوب من المعرفة الكثيرة، يستفاد ذلك من قول موسى عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم أنه عالج الناس قبله وجربهم، ويستفاد منه تحكيم العادة، والتنبيه بالأعلى على الأدنى لأن من سلف من الأمم كانوا أقوى أبدانا من هذه الأمة، وقد قال موسى في كلامه إنه عالجهم على أقل من ذلك فما وافقوه، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة قال: ويستفاد منه أن مقام الخلة مقام الرضا والتسليم، ومقام التكليم مقام الإدلال والانبساط، ومن ثم استبد موسى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بطلب التخفيف دون إبراهيم عليه السلام، مع أن للنبي صلى الله عليه وسلم من الاختصاص بإبراهيم أزيد مما له من موسى لمقام الأبوة ورفعة المنزلة والاتباع في الملة. وقال غيره: الحكمة في ذلك ما أشار إليه موسى عليه السلام في نفس الحديث من سبقه إلى معالجة قومه في هذه العبادة بعينها وأنهم خالفوه وعصوه. وفيه أن الجنة والنار قد خلقتا، لقوله في بعض طرقه التي بينتها "عرضت علي الجنة والنار" وقد تقدم البحث فيه في بدء الخلق. وفيه استحباب الإكثار من سؤال الله تعالى وتكثير الشفاعة عنده، لما وقع منه صلى الله عليه وسلم في إجابته مشورة موسى في سؤال التخفيف. وفيه فضيلة الاستحياء، وبذل النصيحة لمن يحتاج إليها وإن لم يستشر الناصح في ذلك. قوله: "حدثنا عمرو" هو ابن دينار. قوله: "في قوله" أي في تفسير قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قال: هي رؤيا أعين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس" قلت: وإيراد هذا الحديث في باب المعراج مما يؤيد أن المصنف يرى اتحاد ليلة الإسراء والمعراج، بخلاف ما فهم عنه من إفراد الترجمتين، وقد قدمت أن ترجمته في أول الصلاة تدل على ذلك حيث قال: "فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء" وقد تمسك بكلام ابن عباس هذا من قال الإسراء كان في المنام ومن قال إنه كان في اليقظة، فالأول أخذ من لفظ الرؤيا قال: لأن هذا اللفظ مختص برؤيا المنام، ومن قال بالثاني فمن قوله أريها ليلة الإسراء، والإسراء إنما كان في اليقظة، لأنه لو كان مناما ما كذبه الكفار فيه ولا فيما هو أبعد منه كما تقدم تقريره، وإذا كان ذلك في اليقظة وكان المعراج في تلك الليلة تعين أن يكون في اليقظة أيضا إذ لم يقل أحد إنه نام لما وصل إلى بيت المقدس ثم عرج به وهو نائم، وإذا كان في اليقظة فإضافة الرؤيا إلى العين للاحتراز عن رؤيا القلب، وقد أثبت الله تعالى رؤيا القلب في القرآن فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ورؤيا العين فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى} وروى الطبراني في الأوسط بإسناد قوي عن ابن عباس قال: "رأى محمد ربه مرتين" ومن وجه آخر قال: "نظر محمد إلى ربه" جعل الكلام لموسى والخلة لإبراهيم والنظر لمحمد، فإذا تقرر ذلك ظهر أن مراد ابن عباس هنا برؤية العين المذكورة جميع ما ذكره صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة من الأشياء التي تقدم ذكرها، وفي ذلك رد لمن قال: المراد بالرؤيا في هذه الآية رؤياه صلى الله عليه وسلم أنه دخل المسجد الحرام المشار إليها بقوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} قال القائل: والمراد ب قوله: {فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ما وقع من صد المشركين له في الحديبية عن دخول المسجد الحرام انتهى. وهذا وإن كان يمكن أن يكون مراد الآية لكن الاعتماد في تفسيرها على ترجمان القرآن أولى، والله أعلم. واختلف السلف هل رأى ربه في ملك الليلة أم لا؟ على قولين مشهورين، وأنكرت ذلك عائشة رضي الله عنها وطائفة، وأثبتها ابن عباس وطائفة. وسيأتي بسط ذلك في الكلام على حديث عائشة حيث ذكره المصنف بتمامه في تفسير سورة النجم من كتاب التفسير إن شاء الله تعالى. قوله: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} قال: "هي شجرة الزقوم" يريد تفسير الشجرة المذكورة في بقية الآية، وقد قيل فيها غير ذلك كما سيأتي في موضعه في
(7/218)

التفسير إن شاء الله تعالى.
(7/219)