باب هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ 2
 
"مر أبا بكر فليعبد ربه" دخلت الفاء على شيء محذوف لا يخفى تقديره. قوله: "فلبث أبو بكر" تقدم في الكفالة بلفظ: "فطفق" أي جعل، ولم يقع لي بيان المدة التي أقام فيها أبو بكر على ذلك. قوله: "ثم بدا لأبي بكر" أي ظهر له رأي غير الرأي الأول. قوله: "بفناء داره" بكسر الفاء وتخفيف النون وبالمد أي أمامها. قوله: "فينقذف" بالمثناة والقاف والذال المعجمة الثقيلة، تقدم في الكفالة بلفظ: "فيتقصف" أي يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر، وأطلق يتقصف مبالغة، قال الخطابي: هو المحفوظ، وأما يتقذف فلا معنى له إلا أن يكون من القذف أي يتدافعون فيقذف بعضهم بعضا فيتساقطون عليه فيرجع إلى معنى الأول، وللكشميهني بنون وسكون القاف وكسر الصاد أي يسقط. قوله: "بكاء" بالتشديد أي كثير البكاء. قوله: "لا يملك عينيه" أي لا يطيق إمساكهما عن البكاء من رقة قلبه. وقوله: "إذا قرأ" إذا ظرفية والعامل فيه لا يملك، أو هي شرطية والجزاء مقدر. قوله: "فأفزع ذلك" أي أخاف الكفار لما يعلمونه من رقة قلوب النساء والشباب أن يميلوا إلى دين الإسلام. قوله: "فقدم عليهم" في رواية الكشميهني: "فقدم عليه" أي على أبي بكر. قوله: "أن يفتن نساءنا" بالنصب على المفعولية وفاعله أبو بكر، كذا لأبي ذر، وللباقين" أن يفتن" بضم أوله" نساؤنا" بالرفع على البناء للمجهول. قوله: "أجرنا" بالجيم والراء للأكثر، وللقابسي بالزاي أي أبحنا له، والأول أوجه، والألف مقصورة في الروايتين. قوله: "فاسأله" في رواية الكشميهني: "فسله". قوله: "ذمتك" أي أمانك له. قوله: "نخفرك" بضم أوله وبالخاء المعجمة وكسر الفاء أي نغدر بك، يقال خفره إذا حفظه، وأخفره إذا غدر به. قوله: "مقرين لأبي بكر الاستعلان" أي لا نسكت عن الإنكار عليه للمعنى الذي ذكروه من الخشية على نسائهم وأبنائهم أن يدخلوا في دينه.قوله: "وأرضى بجوار الله" أي أمانه وحمايته. وفيه جواز الأخذ بالأشد في الدين، وقوة يقين أبي بكر. قوله: "والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة" في هذا الفصل من فضائل الصديق أشياء كثيرة قد امتاز بها عمن سواه ظاهرة لمن تأملها. قوله: "بين لابتين وهما الحرتان" هذا مدرج في الخبر وهو من تفسير الزهري، والحرة أرض حجارتها سود، وهذه الرؤيا غير الرؤيا السابقة أول الباب من حديث أبي موسى التي تردد فيها النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق، قال ابن التين: كأن النبي صلى الله عليه وسلم أري دار الهجرة بصفة تجمع المدينة وغيرها، ثم أري الصفة المختصة بالمدينة فتعينت. قوله: "ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة" أي لما سمعوا باستيطان المسلمين المدينة رجعوا إلى مكة فهاجر إلى أرض المدينة معظمهم لا جميعهم، لأن جعفرا ومن معه تخلفوا في الحبشة، وهذا السبب في مجيء مهاجرة الحبشة غير السبب المذكور في مجيء من رجع منهم أيضا في الهجرة الأولى، لأن ذاك كان بسبب سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في سورة النجم فشاع أن المشركين أسلموا وسجدوا فرجع من رجع من الحبشة فوجدوهم أشد ما كانوا كما سيأتي شرحه وبيانه في تفسير سورة النجم. قوله: "وتجهز أبو بكر قبل المدينة" بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة، وتقدم في الكفالة بلفظ: "وخرج أبو بكر مهاجرا" وهو منصوب على الحال المقدرة، والمعنى أراد الخروج طالبا للهجرة. وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عند ابن حبان: "استأذن أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج من مكة". قوله: "على رسلك" بكسر أوله أي على مهلك، والرسل السير الرفيق. وفي رواية ابن حبان: "فقال اصبر". قوله: "وهل ترجو ذلك بأبي أنت" لفظ: "أنت" مبتدأ وخبره "بأبي" أي مفدى بأبي، ويحتمل أن يكون أنت تأكيدا لفاعل ترجو وبأبي قسم. قوله: "فحبس نفسه" أي منعها من الهجرة. وفي رواية ابن حبان: "فانتظره أبو
(7/234)بكر رضي الله عنه". قوله: "ورق السمر" بفتح المهملة وضم الميم. قوله: "وهو الخبط" مدرج أيضا في الخبر، وهو من تفسير الزهري، ويقال السمر شجرة أم غيلان، وقيل كل ماله ظل ثخين، وقيل: السمر ورق الطلح والخبط بفتح المعجمة والموحدة ما يخبط بالعصا فيسقط من ورق الشجر قاله ابن فارس. قوله: "أربعة أشهر" فيه بيان المدة التي كانت بين ابتداء هجرة الصحابة بين العقبة الأولى والثانية وبين هجرته صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في أول الباب بين العقبة الثانية وبين هجرته صلى الله عليه وسلم شهرين وبعض شهر على التحرير. قوله: "قال ابن شهاب إلخ" هو بالإسناد المذكور أولا وقد أفرده ابن عائذ في المغازي من طريق الوليد بن محمد عن الزهري، ووقع في رواية هشام بن عروة عند ابن حبان مضموما إلى ما قبله، وعند موسى بن عقبة" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخطئه يوم إلا أتى منزل أبي بكر أول النهار وآخره". قوله: "في نحر الظهيرة" أي أول الزوال وهو أشد ما يكون في حرارة النهار، والغالب في أيام الحر القيلولة فيها. وفي رواية ابن حبان: "فأتاه ذات يوم ظهرا" وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عند الطبراني" كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا بمكة كل يوم مرتين بكرة وعشية، فلما كان يوم من ذلك جاءنا في الظهيرة، فقلت يا أبت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "هذا رسول الله متقنعا" أي مغطيا رأسه. وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب" قالت عائشة وليس عند أبي بكر إلا أنا وأسماء" قيل: فيه جواز لبس الطيلسان، وجزم ابن القيم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلبسه ولا أحد من أصحابه، وأجاب عن الحديث بأن التقنع يخالف التطيلس، قال: ولم يكن يفعل التقنع عادة بل للحاجة، وتعقب بأن في حديث أنس" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر التقنع" أخرجه به، وفي طبقات ابن سعد مرسلا" ذكر الطيلسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا ثوب لا يؤدي شكره" قوله: "فداء له" بكسر الفاء وبالقصر. وفي رواية الكشميهني: "فداء" بالمد. قوله: "ما جاء به" في رواية يعقوب بن سفيان" إن جاء به" إن هي النافية بمعنى ما. وفي رواية موسى بن عقبة" فقال أبو بكر: يا رسول الله ما جاء بك إلا أمر حدث". قوله: "إنما هم أهلك" أشار بذلك إلى عائشة وأسماء كما فسره موسى بن عقبة، ففي روايته قال: "أخرج من عندك. قال: لا عين عليك، إنما هما ابنتاي" وكذلك في رواية هشام بن عروة. قوله: "فإني" في رواية الكشميهني: "فإنه". قوله: "الصحابة" بالنصب أي أريد المصاحبة، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. قوله: "نعم" زاد ابن إسحاق في روايته: "قالت عائشة: فرأيت أبا بكر يبكي، وما كنت أحسب أن أحدا يبكي من الفرح" وفي رواية هشام" فقال: الصحبة يا رسول الله، قال: الصحبة" قوله: "إحدى راحلتي هاتين.قال: بالثمن" زاد ابن إسحاق" قال: لا أركب بعيرا ليس هو لي، قال: فهو لك، قال: لا ولكن بالثمن الذي ابتعتها به، قال: أخذتها بكذا وكذا، قال أخذتها بذلك، قال: هي لك" وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عند الطبراني "فقال: بثمنها يا أبا بكر، فقال: بثمنها إن شئت" ونقل السهيلي في"الروض" عن بعض شيوخ المغرب أنه سئل عن امتناعه من أخذ الراحلة مع أن أبا بكر أنفق عليه ماله، فقال: أحب أن لا تكون هجرته إلا من مال نفسه. وأفاد الواقدي أن الثمن ثمانمائة وأن التي أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر هي القصواء، وأنها كانت من نعم بني قشير، وأنها عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم قليلا وماتت في خلافة أبي بكر، وكانت مرسلة ترعى بالبقيع. وذكر ابن إسحاق أنها الجذعاء، وكانت من إبل بني الحريش، وكذا في رواية أخرجها ابن حبان من طريق هشام عن أبيه عن عائشة أنها الجذعاء. قوله: "أحث الجهاز" أحث بالمهملة والمثلثة أفعل تفضيل من الحث وهو الإسراع. وفي رواية لأبي ذر "أحب" بالموحدة،
(7/235)والأول أصح. والجهاز بفتح الجيم وقد تكسر - ومنهم من أنكر الكسر - وهو ما يحتاج إليه في السفر. قوله: "وصنعنا لهما سفرة في جراب" أي زادا في جراب، لأن أصل السفرة في اللغة الزاد الذي يصنع للمسافر، ثم استعمل في وعاء الزاد، ومثله المزادة للماء، وكذلك الراوية. فاستعملت السفرة في هذا الخبر على أصل اللغة. وأفاد الواقدي أنه كان في السفرة شاة مطبوخة قوله: "ذات النطاق" يكسر النون، وللكشميهني النطاقين بالتثنية، والنطاق ما يشد به الوسط، وقيل: هو إزار فيه تكة، وقيل: هو ثوب تلبسه المرأة ثم تشد وسطها بحبل ثم ترسل الأعلى على الأسفل قاله أبو عبيدة الهروي، قال: وسميت ذات النطاقين لأنها كانت تجعل نطاقا على نطاق، وقيل: كان لها نطاقان تلبس أحدهما وتجعل في الأخر الزاد ا ه. والمحفوظ كما سيأتي بعد هذا الحديث أنها شقت نطاقها نصفين فشدت بأحدهما الزاد واقتصرت على الآخر، فمن ثم قيل لها ذات النطاق وذات النطاقين، فالتثنية والإفراد بهذين الاعتبارين. وعند ابن سعد من حديث الباب: "شقت نطاقها فأوكأت بقطعة منه الجراب وشدت فم القربة بالباقي فسميت ذات النطاقين". قوله: "قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في حبل ثور" بالمثلثة ذكر الواقدي أنهما خرجا من خوخة في ظهر بيت أبي بكر. وقال الحاكم تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين، إلا أن محمد بن موسى الخوارزمي قال: إنه خرج من مكة يوم الخميس. قلت: يجمع بينهما بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين، لأنه أقام فيه ثلاث ليال، فهي ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد وخرج في أثناء ليلة الاثنين. ووقع في رواية هشام بن عروة عند ابن حبان: "فركبا حتى أتيا الغار وهو ثور، فتواريا فيه: "وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: "فرقد علي على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يوري عنه، وباتت قريش تختلف وتأتمر أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، حتى أصبحوا فإذا هم بعلي؛ فسألوه، فقال: لا علم لي فعلموا أنه فر منهم" وذكر ابن إسحاق نحوه وزاد: "أن جبريل أمره لا يبيت على فراشه، فدعا عليا فأمره أن يبيت على فراشه ويسجي ببرده الأخضر، ففعل. ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم على القوم ومعه حفنة من تراب، فجعل ينثرها على رءوسهم وهو يقرأ يس إلي: {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} . وذكر أحمد من حديث ابن عباس بإسناد حسن في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، قال: "تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه على ذلك فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج - النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، يعني ينتظرونه حتى يقوم فيفعلون به ما اتفقوا عليه، فلما أصبحوا ورأوا عليا رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال". وذكر نحو ذلك موسى بن عقبة عن الزهري قال: "مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إلى بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، ثم إن مشركي قريش اجتمعوا" فذكر الحديث وفيه: "وبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم يوري عنه، وباتت قريش يختلفون ويأتمرون أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، فلما أصبحوا إذا هم بعلي" وقال في آخره: "فخرجوا في كل وجه يطلبونه" وفي مسند أبي بكر الصديق لأبي بكر بن علي المروزي شيخ النسائي من مرسل الحسن في قصة نسج العنكبوت نحوه، وذكر الواقدي أن قريشا بعثوا في أثرهما قائفين: أحدهما كرز بن علقمة، فرأى كرز بن (7/236) علقمة على الغار نسح العنكبوت فقال: هاهنا انقطع الأثر. ولم يسم الآخر وسماه أبو نعيم في "الدلائل" من حديث زيد بن أرقم وغيره سراقة بن جعشم. وقصة سراقة مذكورة في هذا الباب. وقد تقدم في "مناقب أبي بكر" حديث أنس عن أبي بكر. قوله: "فكمنا فيه" بفتح الميم ويجوز كسرها أي اختفيا. قوله: "ثلاث ليال" في رواية عروة بن الزبير "ليلتين" فلعله لم يحسب أول ليلة، وروى أحمد والحاكم من رواية طلحة النضري قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبثت مع صاحي - يعني أبا بكر - في الغار بضعة عشر يوما ما لنا طعام إلا ثمر البرير" قال الحاكم: معناه مكثنا مختفين من المشركين في الغار وفي الطريق بضعة عشر يوما. قلت: لم يقع في رواية أحمد ذكر الغار، وهي زيادة في الخبر من بعض رواته، ولا يصح حمله على حالة الهجرة لما في الصحيح كما تراه من أن عامر بن فهيرة كان يروح عليهما في الغار باللبن، ولما وقع لهما في الطريق من لقي الراعي كما في حديث البراء في هذا الباب، ومن النزول بخيمة أم معبد وغير ذلك، فالذي يظهر أنها قصة أخرى، والله أعلم. وفي"دلائل النبوة للبيهقي" من مرسل محمد بن سيرين "أن أبا بكر ليلة انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار كان يمشي بين يديه ساعة ومن خلفه ساعة، فسأله فقال: أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأذكر الرصد فأمشي أمامك.فقال: لو كان شيء أحببت أن تقتل دوني؟ قال: أي والذي بعثك بالحق، فلما انتهيا إلى الغار قال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار، فاستبرأه" وذكر أبو القاسم البغوي من مرسل ابن أبي مليكة نحوه. وذكر ابن هشام من زياداته عن الحسن البصري بلاغا نحوه. قوله: "عبد الله بن أبي بكر" وقع في نسخة "عبد الرحمن" وهو وهم. قوله: "ثقف" بفتح المثلثة وكسر القاف ويجوز إسكانها وفتحها وبعدها فاء: الحاذق، تقول ثقفت الشيء إذا أقمت عوجه. قوله: "لقن" بفتح اللام وكسر القاف بعدها نون اللقن: السريع الفهم. قوله: "فيدلج" بتشديد الدال بعدها جيم أي يخرج بسحر إلى مكة. قوله: "فيصبح مع قريش بمكة كبائت" أي مثل البائت، يظنه من لا يعرف حقيقة أمره لشدة رجوعه بغلس. قوله: "يكتادان به" في رواية الكشميهني: "يكادان به" بغير مثناة أي يطلب لهما فيه المكروه، وهو من الكيد. قوله: "عامر بن فهيرة" تقدم ذكره في "باب الشراء من المشركين" من كتاب البيوع، وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب أن أبا بكر اشتراه من الطفيل بن سخبرة، فأسلم، فأعتقه. قوله: "منحة" بكسر الميم وسكون النون بعدها مهملة، تقدم بيانها في الهبة، وتطلق أيضا على كل شاة. وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب أن الغنم كانت لأبي بكر، فكان يروح عليهما الغنم كل ليلة فيحلبان، ثم تسرح بكرة فيصبح في رعيان الناس فلا يفطن له. قوله: "في رسل" بكسر الراء بعدها مهملة ساكنة: اللبن الطري. قوله: "ورضيفهما" بفتح الراء وكسر المعجمة بوزن رغيف أي اللبن المرضوف أي التي وضعت فيه الحجارة المحماة بالشمس أو النار لينعقد وتزول رخاوته، وهو بالرفع ويجوز الجر. قوله: "حتى ينعق بها عامر" ينعق بكسر العين المهملة أي يصيح بغنمه، والنعيق صوت الراعي إذا زجر الغنم ووقع في رواية أبي ذر "حتى ينعق بهما" بالتثنية أي يسمعهما صوته إذا زجر غنمه، ووقع في حديث ابن عباس عند ابن عائذ في هذه القصة" ثم يسرح عامر بن فهيرة فيصبح في رعيان الناس كبائت فلا يفطن به" وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب" وكان عامر أمينا مؤتمنا حسن الإسلام". قوله: "من بني الديل" بكسر الدال وسكون التحتانية، وقيل: بضم أوله وكسر ثانيه مهموز. قوله: "من بني عبد بن عدي" أي ابن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، ويقال من بني عدي بن عمرو بن خزاعة، ووقع في سيرة ابن إسحاق تهذيب ابن هشام اسمه
(7/237) عبد الله بن أرقد. وفي رواية الأموي عن ابن إسحاق ابن أريقد، كذا رواه الأموي في المغازي بإسناد مرسل في غير هذه القصة، قال: وهو دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في الهجرة. وعند موسى بن عقبة أريقط بالتصغير أيضا لكن بالطاء وهو أشهر، وعند ابن سعد عبد الله بن أريقط، وعن مالك اسمه رقيط حكاه ابن التين وهو في "العتبية". قوله: "هاديا خريتا" بكسر المعجمة وتشديد الراء بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة. قوله: "والخريت الماهر بالهداية" هو مدرج في الخبر من كلام الزهري بينه ابن سعد، ولم يقع ذلك في رواية الأموي عن ابن إسحاق، قال ابن سعد وقال الأصمعي: إنما سمي خريتا لأنه يهدي بمثل خرت الإبرة أي ثقبها. وقال غيره قيل له ذلك لأنه يهتدي لأخرات المفازة وهي طرقها الخفية. قوله: "قد غمس" بفتح الغين المعجمة والميم بعدها مهملة "حلفا" بكسر المهملة وسكون اللام أي كان حليفا، وكانوا إذا تحالفوا غمسوا أيمانهم في دم أو خلوق أو في شيء يكون فيه تلويث فيكون ذلك تأكيدا للحلف. قوله: "فأمناه" بكسر الميم. قوله: "فأتاهما1 براحلتيهما صبح ثلاث" زاد مسلم بن عقبة عن ابن شهاب" حتى إذا هدأت عنهما الأصوات جاء صاحبهما ببعيرهما فانطلقا معهما بعامر بن فهيرة يخدمهما ويعينهما يردفه أبو بكر ويعقبه ليس معهما غيره. قوله: "فأخذ بهم طريق الساحل" في رواية موسى بن عقبة "فأجاز بهما أسفل مكة ثم مضى بهما حتى جاء بهما الساحل أسفل من عسفان، ثم أجاز بهما حتى عارض الطريق" وعند الحاكم من طريق ابن إسحاق" حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة" نحوه وأتم منه وإسناده صحيح. وأخرج الزبير بن بكار في "أخبار المدينة" مفسرا منزلة منزلة إلى قباء، وكذلك ابن عائذ من حديث ابن عباس، وقد تقدم في "علامات النبوة" وفي "مناقب أبي بكر" ما اتفق لهما حين خرجا من الغار من لقيهما راعي الغنم وشربهما من اللبن.
3906- قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ يَقُولُ "جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ فَقَالَ يَا سُرَاقَةُ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ قَالَ سُرَاقَةُ فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلاَنًا وَفُلاَنًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ وَأَخَذْتُ رُمْحِي فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الأَرْضَ وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ عَنْهَا فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الأَزْلاَمَ فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لاَ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ فَرَكِبْتُ فَرَسِي
ـــــــ
1 لفظ "فآتاهما" ليس في نسخة المتن
(7/238)
وَعَصَيْتُ الأَزْلاَمَ تُقَرِّبُ بِي حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لاَ يَلْتَفِتُ وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ فَخَرَرْتُ عَنْهَا ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ فَاسْتَقْسَمْتُ بِالأَزْلاَمِ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ فَنَادَيْتُهُمْ بِالأَمَانِ فَوَقَفُوا فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنْ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ فَلَمْ يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلاَنِي إِلاَّ أَنْ قَالَ أَخْفِ عَنَّا فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تِجَارًا قَافِلِينَ مِنْ الشَّأْمِ فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ مَخْرَجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمْ السَّرَابُ فَلَمْ يَمْلِكْ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ هَذَا جَدُّكُمْ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلاَحِ فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامِتًا فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنْ الأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَصَابَتْ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَأُسِّسَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُلاَمَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَقَالاَ لاَ بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ
(7/239) اللَّهِ فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ مَعَهُمْ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ:-
هَذَا الْحِمَالُ لاَ حِمَالَ خَيْبَرْ ... هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ
وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنَّ الأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ ... فَارْحَمْ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِي الأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ تَامٍّ غَيْرَ هَذَه الْأبَيْاتِ.
3907- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ وَفَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "صَنَعْتُ سُفْرَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ حِينَ أَرَادَا الْمَدِينَةَ فَقُلْتُ لِأَبِي مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبِطُهُ إِلاَّ نِطَاقِي قَالَ فَشُقِّيهِ فَفَعَلْتُ فَسُمِّيتُ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ "أَسْمَاءُ ذَاتَ النِّطَاقِ".
3908حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ "لَمَّا أَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ تَبِعَهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَاخَتْ بِهِ فَرَسُهُ قَالَ ادْعُ اللَّهَ لِي وَلاَ أَضُرُّكَ فَدَعَا لَهُ قَالَ فَعَطِشَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ بِرَاعٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذْتُ قَدَحًا فَحَلَبْتُ فِيهِ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ فَأَتَيْتُهُ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ".
الحديث الثاني عشر حديث سراقة بن جعشم. قوله: "قال ابن شهاب" هو موصول بإسناد حديث عائشة، وقد أفرده البيهقي في "الدلائل" وقبله الحاكم في "الإكليل" من طريق ابن إسحاق حدثني محمد بن مسلم هو الزهري به وكذلك أورده الإسماعيلي منفردا من طريق معمر والمعافي في الجليس من طريق صالح بن كيسان كلاهما عن الزهري. قوله: "المدلجي" بضم الميم وسكون المهملة وكسر اللام ثم جيم من بني مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة. وعبد الرحمن بن مالك هذا اسم جده مالك بن جعشم، ونسب أبوه في هذه الرواية إلى جده كما سنبينه في سراقة، وأبوه مالك بن جعشم له إدراك، ولم أر من ذكره في الصحابة بل ذكره ابن حبان في التابعين، وليس له ولا لأخيه سراقة ولا لابنه عبد الرحمن في البخاري غير هذا الحديث. قوله: "ابن أخي سراقة بن جعشم" في رواية أبي ذر "ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم" ثم قال: "إنه سمع سراقة بن جعشم" والأول هو المعتمد، وحيث جاء في الروايات سراقة بن جعشم يكون نسب إلى جده، وسيأتي في حديث البراء بعدها بقليل أنه سراقة بن مالك بن جعشم ولم يختلف عليه فيه، جعشم بضم الجيم والشين المعجمة بينهما عين مهملة هو ابن مالك بن عمرو وكنية سراقة أبو سفيان، وكان ينزل قديدا وعاش إلى خلافة عثمان. قوله: "دية كل واحد" أي مائة من الإبل، وصرح بذلك موسى بن عقبة وصالح بن كيسان في روايتهما عن الزهري، وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عند الطبراني "وخرجت قريش حين فقدوهما
(7/240) في بغائهما، وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة، وطافوا في جبال مكة حتى انتهوا إلى الجيل الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هذا الرجل ليرانا. وكان مواجهه - فقال: كلا إن ملائكة تسترنا بأجنحتها ، جلس ذلك الرجل يبول مواجهة الغار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كان يرانا ما فعل هذا" . قوله: "رأيت آنفا" أي في هذه الساعة. قوله: "أسودة" أي أشخاصا، في رواية موسى بن عقبة وابن إسحاق "لقد رأيت ركبة ثلاثة إني لأظنه محمدا وأصحابه" ونحوه في رواية صالح بن كيسان. قوله: "رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا" أي في نظرنا معاينة يبتغون ضالة لهم، في رواية موسى بن عقبة وابن إسحاق "فأومأت إليه أن اسكت، وقلت: إنما هم بنو فلان يبتغون ضالة لهم، قال: لعل، وسكت" ونحوه في رواية معمر، وفي حديث أسماء "فقال سراقة: إنهما راكبان ممن بعثنا في طلب القوم". قوله: "فأمرت جاريتي" لم أقف على اسمها. وفي رواية موسى بن عقبة وصالح بن كيسان وأمرت بفرسي فقيد إلى بطن الوادي وزاد: ثم أخذت قداحي - بكسر القاف أي الأزلام - فاستقسمت بها، فخرج الذي أكره، لا تضر، وكنت أرجو أن أرده فأخذ المائة ناقة". قوله: "فخططت" بالمعجمة، وللكشميهني والأصيلي بالمهملة أي أمكنت أسفله وقوله: "بزجه" الزج بضم الزاي بعدها جيم الحديدة التي في أسفل الرمح. وفي رواية الكشميهني: "فخططت به" وزاد موسى بن عقبة وصالح بن كيسان وابن إسحاق "فأمرت بسلاحي فأخرج من ذنب حجرتي، ثم انطلقت فلبست لأمتي". قوله: "وخفضت" أي أمسكه بيده وجر زجه على الأرض فخطها به لئلا يظهر بريقه لمن بعد منه. لأنه كره أن يتبعه منهم أحد فيشركوه في الجعالة. ووقع في رواية الحسن عن سراقة عند ابن أبي شيبة: "وجعلت أجر الرمح مخافة أن يشركني أهل الماء فيها".قوله: "فرفعتها" أي أسرعت بها السير.قوله: "تقرب بي" التقريب السير دون العدو وفوق العادة، وقيل: أن ترفع الفرس يديها معا وتضعهما معا.قوله: "فأهويت يدي" أي بسطهما للأخذ، والكنانة الخريطة المستطيلة.قوله: "فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا" والأزلام هي الأقداح وهي السهام التي لا ريش لها ولا نصل، وسيأتي شرحها وكيفيتها وصنيعهم بها في تفسير المائدة. قوله: "فخرج الذي أكره" أي لا تضرهم، وصرح به الإسماعيلي وموسى وابن إسحاق وزاد: "وكنت أرجو أن أرده فآخذ المائة ناقة" وفي حديث ابن عباس عند ابن عائذ: "وركب سراقة، فلما أبصر الآثار على غير الطريق وهو وجل أنكر الآثار فقال: والله ما هذه بآثار نعم الشام ولا تهامة، فتبعهم حتى أدركهم". قوله: "حتى إذا سمعت" في حديث البراء عن أبي بكر الآتي عقب هذا" فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية أبي خليفة في حديث البراء عند الإسماعيلي: "فقال: اللهم اكفناه بما شئت" وفي حديث. ابن عباس مثله، ونحوه في رواية الحسن عن سراقة، وفي حديث أنس وهو الثامن عشر من أحاديث الباب: "فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم اصرعه فصرعه فرسه". قوله: "ساخت" بالخاء المعجمة أي غاصت، وفي حديث أسماء بنت أبي بكر "فوقعت لمنخريها". قوله: "حتى بلغتا الركبتين" في رواية البراء "فارتطمت به فرسه إلى بطنها" وفي رواية أبي خليفة "في الأرض إلى بطنها".قوله: "فخررت عنها" في رواية أبي خليفة" فوثبت عنها" زاد ابن إسحاق" فقلت ما هذا؟ ثم أخرجت قداحي" نحو الأول. قوله: "ثم زجرتها فنهضت فلم تكد" وفي حديث أنس1 "ثم قامت تحمحم" الحمحمة بمهملتين هو
ـــــــ
1 في نسخة "في حديث أسماء"
(7/241)
صوت الفرس. قوله: "عثان" بضم المهملة بعدها مثلثة خفيفة أي دخان، قال معمر: قلت لأبي عمرو بن العلاء ما العثان؟ قال: الدخان من غير نار. وفي رواية الكشميهني: غبار بمعجمة ثم موحلة ثم راء، والأول أشهر. وذكر أبو عبيد في غريبه قال: وإنما أراد بالعثان الغبار نفسه، شبه غبار قوائمها بالدخان. وفي رواية موسى بن عقبة والإسماعيلي: "واتبعها دخان مثل الغبار" وزاد: "فعلمت أنه منع مني". قوله: "فناديتهم بالأمان" وفي رواية أبي خليفة "قد علمت يا محمد أن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، والله لأعمين عليك من ورائي" أي الطلب. وفي رواية ابن إسحاق" فناديت القوم: أنا سراقة بن مالك بن جعشم، انظروني أكلمكم، فوالله لا آتيكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه" وفي حديث ابن عباس مثله وزاد: "وأنا لكم نافع غير ضار، وإني لا أدري لعل الحي - يعني قومه - فزعوا لركوبي، وأنا راجع ورادهم عنكم". قوله: "ووقع في نفسي حين ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية ابن إسحاق "أنه قد منع مني". قوله: "وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم" أي من الحرص على الظفر بهم، وبذل المال لمن يحصلهم. وفي حديث ابن عباس "وعاهدهم أن لا يقاتلهم ولا يخبر عنهم، وأن يكتم عنهم ثلاث ليال". قوله: "وعرضت عليهم الزاد والمتاع" في مرسل عمير بن إسحاق عند ابن أبي شيبة: "فكف ثم قال: هلما إلى الزاد والحملان، فقالا لا حاجة لنا في ذلك" وفي حديث ابن عباس أن سراقة قال لهم: "وان إبلي على طريقكم فاحتلبوا من اللبن وخذوا سهما من كنانتي أمارة إلى الراعي". قوله: "فلم يرزآني" براء ثم زاي، أي لم ينقصاني مما معي شيئا. وفي رواية أبي خليفة "وهذه كنانتي فخذ سهما منها، فإنك تمر على إبلي وغنمي بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك، فقال لي: لا حاجة لنا في إبلك، ودعا له". قوله: "أخف عنا" لم يذكر جوابه، ووقع في رواية البراء "فدعا له فنجا، فجعل لا يلقي أحدا إلا قال له: قد كفيتم ما هاهنا، فلا يلقي أحدا إلا رده" قال: "ووفى لنا". وفي حديث أنس "فقال: يا نبي الله مرني بما شئت، قال: فقف مكانك لا تتركن أحدا يلحق بنا، قال فكان أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر النهار مسلحة له" أي حارسا له بسلاحه. وذكر ابن سعد" أنه لما رجع قال لقريش: قد عرفتم بصري بالطريق وبالأثر، وقد استبرأت لكم فلم أر شيئا، فرجعوا". قوله: "كتاب أمن" بسكون الميم. وفي رواية الإسماعيلي: "كتاب موادعة" وفي رواية إسحاق "كتابا يكون آية بيني وبينك". قوله: "فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم" وفي رواية ابن إسحاق "فكتب لي كتابا في عظم - أو ورقة أو خرقة - ثم ألقاه إلي، فأخذته فجعلته في كنانتي ثم رجعت" وفي رواية موسى بن عقبة نحوه وعندهما "فرجعت فسئلت فلم أذكر شيئا مما كان، حتى إذا فرغ من حنين بعد فتح مكة خرجت لألقاه ومعي الكتاب، فلقيته بالجعرانة حتى دنوت منه فرفعت يدي بالكتاب فقلت: يا رسول الله هذا كتابك فقال: يوم وفاء وبر، أدن، فأسلمت" وفي رواية صالح بن كيسان نحوه. وفي رواية الحسن عن سراقة قال: "فبلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي، فأتيته فقلت: أحب أن توادع قومي، فإن أسلم قومك أسلموا وإلا أمنت منهم، ففعل ذلك، قال: ففيهم نزلت: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} الآية" قال ابن إسحاق: قال أبو جهل لما بلغه ما لقي سراقة لامه في تركهم، فأنشده:
أبا حكم واللات لو كنت شاهدا ... لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه
عجبت ولم تشكك بأن محمدا ... نبي وبرهان فمن ذا يكاتمه
(7/242)