باب قول الله تعالى {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم}
 
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى[9-12 الأنفال]
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ
(7/286)
آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
3952- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مُخَارِقٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ شَهِدْتُ مِنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ مَشْهَدًا لاَنْ أَكُونَ صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ لاَ نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ} وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَقَ وَجْهُهُ وَسَرَّهُ يَعْنِي قَوْلَهُ"
[الحديث 3952-طرفه في:4609]
3953- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَوْمَ بَدْرٍ اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ حَسْبُكَ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} "
قوله: "باب قول الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} - إلى قوله: {شَدِيدُ الْعِقَابِ} " كذا للأكثر، وساق في رواية كريمة الآيات كلها، وقد تقدمت الإشارة إليه في الذي قبله، والجمع أيضا بين قوله: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ} وبين قوله: {ثَلاثَةِ آلافٍ} ، وأورد البخاري فيه حديثين: فقصة المقداد فيها بيان ما وقع قبل الوقعة، وحديث ابن عباس فيه بيان الاستغاثة. قوله: "عن مخارق" بضم الميم وتخفيف المعجمة هو ابن عبد الله بن جابر البجلي الأحمسي بمهملتين ويقال اسم أبيه عبد الرحمن ويقال خليفة، وهو كوفي ثقة عند الجميع يكنى أبا سعيد، ولم أر له رواية عن غير طارق وهو ابن شهاب وله رؤية. قوله: "شهدت من المقداد بن الأسود" تقدم أن اسم أبيه عمرو، وأن الأسود كان تبناه فصار ينسب إليه. قوله: "مما عدل به" بضم المهملة وكسر الدال المهملة أي وزن أي من كل شيء يقابل ذلك من الدنيويات، وقيل: من الثواب، أو المراد الأعم من ذلك، والمراد المبالغة في عظمة ذلك المشهد، وأنه كان لو خير بين أن يكون صاحبه وبين أن يحصل له ما يقابل ذلك كائنا ما كان لكان حصوله له أحب إليه، وقوله: "لأن أكون صاحبه" هو بالنصب. وفي رواية الكشميهني: "لأن أكون أنا صاحبه" ويجوز فيه الرفع والنصب، قال ابن مالك: النصب أجود. قوله: "وهو يدعو على المشركين" زاد النسائي في روايته: "جاء المقداد على فرس يوم بدر فقال: "وذكر ابن إسحاق أن هذا الكلام قاله المقداد لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم الصفراء وبلغه أن قريشا قصدت بدرا وأن أبا سفيان نجا بمن معه، فاستشار الناس، فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر كذلك، ثم المقداد فذكر نحو ما في حديث الباب وزاد: "فقال والذي بعثك بالحق لو سلكت بنا برك الغماد لجاهدنا معك من دونه. قال: فقال أشيروا علي. قال: فعرفوا أنه يريد الأنصار، وكان يتخوف أن لا يوافقوه لأنهم لم يبايعوه إلا على نصرته ممن يقصده لا أن يسير بهم إلى العدو، فقال له سعد بن معاذ: امض يا رسول الله لما أمرت به فنحن معك. قال فسره قوله ونشطه" وكذا ذكره موسى بن عقبة مبسوطا، وأخرجه ابن عائذ من طريق أبي الأسود عن عروة، وعند
(7/287)

ابن أبي شيبة من مرسل علقمة بن وقاص في نحو قصة المقداد" فقال سعد بن معاذ لئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك، ولا نكون كالذين قالوا لموسى - فذكره وفيه - ولعلك خرجت لأمر فأحدث الله غيره، فامض لما شئت، وصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت" قال: وإنما خرج يريد غنيمة ما مع أبي سفيان فأحدث الله له القتال، وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي أيوب قال: "قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: إن ي أخبرت عن عير أبي سفيان، فهل لكم أن تخرجوا إليها لعل الله يغنمناها؟ قلنا: نعم، فخرجنا. فلما سرنا يوما أو يومين قال: قد أخبروا خبرنا فاستعدوا للقتال ، فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم، فأعاده، فقال له المقداد: لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى ولكن نقول: إنا معكما مقاتلون. قال فتمنينا معشر الأنصار لو أنا قلنا كما قال المقداد. فأنزل الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} وأخرج ابن مردويه من طريق محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص عن أبيه عن جده نحوه لكن فيه أن معاذ هو الذي قال ما قال المقداد، والمحفوظ أن الكلام المذكور للمقداد كما في حديث الباب، وأن سعد بن معاذ إنما قال: "لو سرت بنا حتى تبلغ برك الغماد لسرنا معك" كذلك ذكره موسى بن عقبة. وعند ابن عائذ في حديث عروة" فقال سعد بن معاذ: لو سرت بنا حتى تبلغ البرك من غمد ذي يمن" ووقع في مسلم أن سعد بن عبادة هو الذي قال ذلك، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة من مرسل عكرمة، وفيه نظر لأن سعد بن عبادة لم يشهد بدرا، وإن كان يعد فيهم لكونه ممن ضرب له بسهمه كما سأذكره في آخر الغزوة، ويمكن الجمع بأن النبي صلى الله عليه وسلم استشارهم في غزوة بدر مرتين: الأولى وهو بالمدينة أول ما بلغه خبر العير مع أبي سفيان، وذلك بين في رواية مسلم ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان" والثانية كانت بعد أن خرج كما في حديث الباب، ووقع عند الطبراني أن سعد بن عبادة قال ذلك بالحديبية، وهذا أولى بالصواب، وقد تقدم في الهجرة شرح برك الغماد، ودلت رواية ابن عائذ هذه على أنها من جهة اليمن، وذكر السهيلي أنه رأى في بعض الكتب أنها أرض الحبشة، وكأنه أخذه من قصة أبي بكر مع ابن الدغنة، فإن فيها أنه لقيه ذاهبا إلى الحبشة ببرك الغماد فأجاره ابن الدغنة كما تقدم في هذا الكتاب، ويجمع بأنها من جهة اليمن تقابل الحبشة وبينهما عرض البحر. قوله: "ولكنا نقاتل عن يمينك إلخ" وفي رواية سفيان عن مخارق "ولكن امض ونحن معك" وفي رواية محمد بن عمرو المذكورة "ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون" ولأحمد من حديث عتبة بن عبد بإسناد حسن "قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نقول كما قالت بنو إسرائيل، ولكن انطلق أنت وربك إنا معكم". قوله: "حدثنا عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي، وخالد هو الحذاء. قوله: "عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم" هذا من مراسيل الصحابة فإن ابن عباس لم يحضر ذلك، ولعله أخذه عن عمر أو عن أبي بكر، ففي مسلم من طريق أبي زميل بالزاي مصغر واسمه سماك بن الوليد عن ابن عباس قال: "حدثني عمر: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر، فاستقبل القبلة ثم مد يديه، فلم يزل يهتف بربه حتى سقط رداؤه عن منكبيه" الحديث، وعن سعيد بن منصور من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: "لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم، فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهو في صلاته: اللهم لا تودع مني، اللهم لا تخذلني، اللهم لا تترني، اللهم
(7/288)

أنشدك ما وعدتني" ، وعند ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها وفخرها تجادل وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني" . قوله: "يوم بدر" زاد في رواية وهيب الآتية في التفسير عن خالد"وهو في قبة" والمراد بها العريش الذي اتخذه الصحابة لجلوس النبي صلى الله عليه وسلم فيه. قوله: "اللهم إني أنشدك" بفتح الهمزة وسكون النون والمعجمة وضم الدال، أي أطلب منك. وعند الطبراني بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: "ما سمعنا مناشدا ينشد ضالة أشد مناشدة من محمد لربه يوم بدر: "اللهم إني أنشدك ما وعدتني" قال السهيلي: سبب شدة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ونصبه في الدعاء لأنه رأى الملائكة تنصب في القتال، والأنصار يخوضون غمار الموت، والجهاد تارة يكون بالسلاح وتارة بالدعاء، ومن السنة أن يكون الإمام وراء الجيش لأنه لا يقاتل معهم فلم يكن ليريح نفسه، فتشاغل بأحد الأمرين وهو الدعاء. قوله: "اللهم إن شئت لم تعبد" في حديث عمر " اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" . أما "تهلك" فبفتح أوله وكسر اللام، و "العصابة" بالرفع، وإنما قال ذلك لأنه علم أنه خاتم النبيين فلو هلك هو ومن معه حينئذ لم يبعث أحد ممن يدعو إلى الإيمان، ولاستمر المشركون يعيدون غير الله، فالمعني لا يعبد في الأرض بهذه الشريعة. ووقع عند مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام أيضا يوم أحد، وروى النسائي والحاكم من حديث علي قال: "قاتلت يوم بدر شيئا من قتال، ثم جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: يا حي يا قيوم ، فرجعت فقاتلت، ثم جئت فوجدته كذلك". قوله: "فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك" زاد في رواية وهيب عن خالد كما سيأتي في التفسير" قد ألححت على ربك" وكذا أخرجه الطبراني عن عثمان عن عبد الوهاب الثقفي عن أبيه، زاد في رواية مسلم المذكورة" فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه فقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك.فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الآية، فأمده الله بالملائكة" ا هـ. وعرف بهذه الزيادة مناسبة الحديث للترجمة. وقوله في رواية مسلم: "كذاك" وهو بالذال المعجمة وهو بمعني كفاك، قال قاسم بن ثابت "كذاك" يراد بها الإغراء والأمر بالكف عن الفعل وهو المراد هنا، ومنه قول الشاعر: كذاك القول إن عليك عيبا أي حسبك من القول فاتركه ا هـ وقد أخطأ من زعم أنه تصحيف وأن الأصل كفاك. قال الخطابي: لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال؛ بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم، لأنه كان أول مشهد شهده، فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك، لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة، فلما قال له أبو بكر ما قال كف عن ذلك وعلم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر في نفسه من القوة والطمأنينة، فلهذا عقب بقوله. {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} انتهى ملخصا. وقال غيره: وكان النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة في مقام الخوف، وهو أكمل حالات الصلاة، وجاز عنده أن لا يقع النصر يومئذ لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة، وإنما كان مجملا. هذا الذي يظهر، وزل من لا علم عنده ممن ينسب إلى الصوفية في هذا الموضع زللا شديدا فلا يلتفت إليه، ولعل الخطابي أشار إليه. قوله: "فخرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} وفي رواية أيوب عن عكرمة عن ابن عباس" لما نزلت: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} قال عمر: أي جمع يهزم؟ قال: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدروع ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} أخرجه الطبري وابن مردويه. وله من حديث أبي هريرة عن عمر" لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله أي جمع
(7/289)

يهزم "؟ فذكر نحوه، وهذا مما يؤيد ما قدمته أن ابن عباس حمل هذا الحديث عن عمر، وسيأتي في التفسير عن عائشة" نزلت بمكة وأنا جارية ألعب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} الآية".
(7/290)