باب غَزْوَةِ أُحُدٍ 2
 
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأصحابه: إن ركبوا وجعلوا الأثقال تتبع آثار الخيل، فهم يريدون البيوت، وإن ركبوا الأثقال وتجنبوا الخيل فهم يريدون الرجوع ، فتبعهم سعد بن أبي وقاص، ثم رجع فقال: رأيت الخيل مجنوبة، فطابت أنفس المسلمين ورجعوا إلى قتلاهم فدفنوهم في ثيابهم ولم يغسلوهم ولم يصلوا عليهم، وبكى المسلمون على قتلاهم، فسر المنافقون وظهر غش اليهود وفارت المدينة بالنفاق، فقالت اليهود: لو كان نبيا ما ظهروا عليه. وقالت المنافقون: لو أطاعونا ما أصابهم هذا. قال العلماء: وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة: منها تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب النهي، لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول أن لا يبرحوا منه. ومنها أن عادة الرسل أن تبتلى وتكون لها العاقبة كما تقدم في قصة هرقل مع أبي سفيان، والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائما دخل في المؤمنين من ليس منهم ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائما لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين لتمييز الصادق من الكاذب، وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفيا عن المسلمين، فلما جرت هذه القصة وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول عاد التلويح تصريحا، وعرف المسلمون أن لهم عدوا في دورهم فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم. ومنها أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضما للنفس وكسرا لشماختها، فلما ابتلي المؤمنون صبروا وجزع المنافقون. ومنها أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها. ومنها أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقها إليهم. ومنها أنه أراد إهلاك أعدائه فقيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحص بذلك ذنوب المؤمنين، ومحق بذلك الكافرين. ثم ذكر المصنف آيات من آل عمران في هذا الباب وفيما بعده كلها تتعلق بوقعة أحد، وقد قال ابن إسحاق: أنزل الله في شأن أحد ستين آية من آل عمران، وروى ابن أبي حاتم من طريق المسور بن مخرمة قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف أخبرني عن قصتكم يوم أحد، قال. اقرأ العشرين ومائه من آل عمران تجدها: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} - إلى قوله – {أَمَنَةً نُعَاساً} . قوله: "وقول الله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقوله: {غَدَوْتَ} أي خرجت أول النهار، والعامل في إذ مضمر تقديره واذكر إذ غدوت، وقوله {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} أي تنزلهم، وأصله من المآب وهو المرجع، والمقاعد جمع مقعد والمراد به مكان القعود. وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال: "غدا نبي الله من أهله يوم أحد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال" ومن طريق مجاهد والسدي وغيرهما نحوه، ومن طريق الحسن أن ذلك كان يوم الأحزاب ووهاه. قوله: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الأصل توهنوا فحذفت الواو، والوهن الضعف يقال وهن بالفتح يهن بالكسر في المضارع، وهذا هو الأفصح، ويستعمل وهن لازما ومتعديا، قال تعالى: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} وفي الحديث: "وهنتهم حمى يثرب" والأعلون جمع أعلى، وقوله: إن كنتم مؤمنين محذوف الجواب وتقديره فلا تهنوا ولا تحزنوا. وأخرج الطبري من طريق مجاهد في قوله ولا تهنوا أي لا تضعفوا، ومن طريق الزهري قال: "كثر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم القتل والجراح حتى خلص إلى كل امرئ منهم نصيب، فاشتد حزنهم، فعزاهم الله أحسن تعزية" ومن طريق قتادة نحوه قال: "فعزاهم وحثهم على قتال عدوهم ونهاهم عن العجز" ومن طريق ابن جريح قال في قوله: {وَلا تَهِنُوا} أي لا تضعفوا في أمر عدوكم {وَلا
(7/347)

تَحْزَنُوا} في أنفسكم فإنكم أنتم الأعلون قال: والسبب فيها أنهم لما تفرقوا ثم رجعوا إلى الشعب قالوا: ما فعل فلان ما فعل فلان؟ فنعى بعضهما بعضا، وتحدثوا بينهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل فكانوا في هم وحزن، فبينما هم كذلك إذ علا خالد بن الوليد بخيل المشركين فوقهم، فثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله، وعلا المسلمون الجبل والتقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن طريق العوفي عن ابن عباس قال: أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو الجبل عليهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لا يعلون علينا ، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} . قوله: "وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} تستأصلونهم قتلا "بإذنه" الآية إلى قوله: {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أخرج الطبري من طريق السدي وغيره أن المراد بالوعد قوله صلى الله عليه وسلم للرماة " أنكم ستظهرون عليهم فلا تبرحوا من مكانكم حتى آمركم" وقد ذكر المصنف قصة الرماة في هذا الباب، وسأذكر شرحها إن شاء الله تعالى. ومن طريق قتادة ومجاهد في قوله: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} أي تقتلونهم، وقول المصنف في تفسير {تَحُسُّونَهُمْ} تستأصلونهم هو كلام أبي عبيدة. وأخرج الطبري من طريق السدي قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "للرماة " إنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم" وكان أول من برز طلحة بن عثمان فقتل، ثم حمل المسلمون على المشركين فهزموهم، وحمل خالد بن الوليد وكان في خيل المشركين على الرماة فرموه بالنبل فانقمع، ثم ترك الرماة مكانهم ودخلوا العسكر في طلب الغنيمة، فصاح خالد في خيله فقتل من بقي من الرماة، منهم أميرهم عبد الله بن جبير. ولما رأى المشركون خيلهم ظاهرة تراجعوا فشدوا على المسلمين فهزموهم وأثخنوا فيهم في القتل. وقوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} أي جبنتم {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} أي اختلفتم، وحتى حرف جر وهي متعلقة بمحذوف أي دام لكم ذلك إلى وقت فشلكم، ويجوز أن تكون ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية وجوابها محذوف، وقوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} فيه إشارة إلى رجوع المسلمين عن المشركين بعد أن ظهروا عليهم لما وقع من الرماة من الرغبة في الغنيمة، وإلى ذلك الإشارة بقوله – {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} قال السدي عن عبد خير قال: قال عبد الله بن مسعود" ما كنت أرى أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية يوم أحد: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} وقوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} الآية أخرج مسلم من طريق مسروق قال: "سألنا عبد الله بن مسعود عن هؤلاء الآيات قال: أما إنا قد سألنا عنها فقيل لنا: إنه لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها" الحديث.