باب غَزْوَةِ أُحُدٍ 4
 
عسكر المشركين انكفت الرماة جميعا فدخلوا في العسكر ينتهبون، وقد التفت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم هكذا - وشبك بين أصابعه - فلما أخلت الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على الصحابة، فضرب بعضهم بعضا والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، قد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين تسعة أو سبعة، وجال المسلمون جولة نحو الجبل، وصاح الشيطان: قتل محمد" وقد ذكرنا من حديث الزبير نحوه. قوله: "فلما أبوا صرفت وجوههم" في رواية زهير "فلما أتوهم" بالمثناة وقوله: "صرفت وجوههم" أي تحيروا فلم يدروا أين يتوجهون. وزاد زهير في روايته: "فذلك "إذ يدعوهم الرسول في أخراهم" فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا" وجاء في رواية مرسلة أنهم من الأنصار، وسأذكرها في الكلام على الحديث السابع من الباب الذي يليه. وروى النسائي من طريق أبي الزبير عن جابر قال: "لما ولى الناس يوم أحد كان النبي صلى الله عليه وسلم في اثني عشر رجلا من الأنصار وفيهم طلحة" الحديث. ووقع عند الطبري من طريق السدي قال: "تفرق الصحابة: فدخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الله، فرماه ابن قمئة بحجر فكسر أنفه ورباعيته، وشجه في وجه فأثقله، فتراجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثون رجلا فجعلوا يذبون عنه. فحمله منهم طلحة وسهل بن حنيف، فرمى طلحة بسهم ويبست يده. وقال بعض من فر إلى الجبل: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي يستأمن لنا من أبي سفيان، فقال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قتل فرب محمد لم يقتل. فقاتلوا على ما قاتل عليه" ثم ذكر قصة قتله كما سيأتي قريبا. وقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم الجبل فأراد رجل من أصحابه أن يرميه بسهم، فقال له: أنا رسول الله فلما سمعوا ذلك فرحوا به واجتمعوا حوله وتراجع الناس. وسيأتي في باب مفرد ما يتعلق بمن شج وجهه عليه الصلاة والسلام. قوله: "فأصيب سبعون قتيلا" في رواية زهير "فأصابوا منها" أي من طائفة المسلمين. وفي رواية الكشميهني: "فأصابوا منا" وهي أوجه. وزاد زهير "كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة، وقد تقدم بسط القول في ذلك. وروى سعيد بن منصور من مرسل أبي الضحى قال: "قتل يومئذ - يعني يوم أحد - سبعون: أربعة من المهاجرين حمزة ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وشماس بن عثمان، وسائرهم من الأنصار". قلت: وبهذا جزم الواقدي. وفي كلام ابن سعد ما يخالف ذلك. ويمكن الجمع كما تقدم. وأخرج ابن حبان والحاكم في صحيحيهما عن أبي بن كعب قال: "أصيب يوم أحد من الأنصار أربعة وستون ومن المهاجرين ستة، وكان الخامس سعد مولى حاطب بن أبي بلتعة. والسادس يوسف بن عمرو الأسلمي حليف بني عبد شمس"، وذكر المحب الطبري عن الشافعي أن شهداء أحد اثنان وسبعون. وعن مالك خمسة وسبعون من الأنصار خاصة أحد وسبعون، وسرد أبو الفتح اليعمري أسماءهم فبلغوا ستة وتسعين، ومن المهاجرين أحد عشر وسائرهم من الأنصار، منهم من ذكره ابن إسحاق والزيادة من عند موسى بن عقبة أو محمد بن سعد أو هشام بن الكلبي. ثم ذكر عن ابن عبد البر وعن الدمياطي أربعة أو خمسة، قال فزادوا عن المائة. قال اليعمري: قد ورد في تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} أنها نزلت تسلية للمؤمنين عمن أصيب منهم يوم أحد، فإنهم أصابوا من المشركين يوم بدر سبعين قتيلا وسبعين أسيرا في عدد من قتل. قال اليعمري: إن ثبتت فهذه الزيادة ناشئة عن الخلاف في التفصيل. قلت: وهو الذي يعول عليه، والحديث الذي أشار إليه أخرجه الترمذي والنسائي من طريق الثوري عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن عبيدة بن عمرو عن علي "أن جبريل هبط فقال: خيرهم في أسارى بدر من
(7/351)

القتل أو الفداء على أن يقتل من قابل مثلهم، قالوا: الفداء ويقتل منا" قال الترمذي حسن، ورواه ابن عون عن ابن سيرين عن عبيدة مرسلا. قلت: ورواه ابن عون عند الطبري، ووصلها من وجه آخر عنه، وله شاهد من حديث عمر عند أحمد وغيره، قال اليعمري: ومن الناس من يقول السبعين من الأنصار خاصة، وبذلك جزم ابن سعد. قلت: "وكأن الخطاب بقوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ} للأنصار خاصة، ويؤيده قول أنس "أصيب منا يوم أحد سبعون" وهو في الصحيح بمعناه. قوله: "وأشرف أبو سفيان" أي ابن حرب، وكان رئيس المشركين يومئذ. قوله: "فقال أفي القوم محمد" زاد زهير ثلاث مرات في المواضع الثلاث. قوله: "فقال: لا تجيبوه" وقع في حديث ابن عباس "أين ابن أبي كبشة، أين ابن أبي قحافة، أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: ألا أجيبه؟ قال: بلى" وكأنه نهى عن إجابته في الأولى وأذن فيها في الثالثة. قوله: "فقال إن هؤلاء قتلوا" في رواية زهير "ثم رجع إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا". قوله: "أبقى الله عليك ما يخزيك" زاد زهير "إن الذي عددت لأحياء كلهم". قوله: "اعل هبل" في رواية زهير "ثم أخذ يرتجز: اعل هبل" قال ابن إسحاق: معنى قوله اعل هبل أي ظهر دينك. وقال السهيلي. معناه زاد علوا. وقال الكرماني: فإن قلت ما معنى اعل ولا علو في هبل؟ فالجواب هو بمعنى العلى، أو المراد أعلى من كل شيء ا هـ، وزاد زهير "قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال" بكسر المهملة وتخفيف الجيم، وفي حديث ابن عباس "الأيام دول والحرب سجال" وفي رواية ابن إسحاق أنه قال: أنعمت فعال إن الحرب سجال ا هـ. وفعال بفتح الفاء وتخفيف المهملة قالوا معناه أنعمت الأزلام، وكان استقسم بها حين خرج إلى أحد. ووقع في خبر السدي عمد الطبراني: اعل هبل، حنظلة بحنظلة، ويوم أحد بيوم بدر. وقد استمر أبو سفيان على اعتقاد ذلك حتى قال لهرقل لما سأله كيف كان حربكم معه - أي النبي صلى الله عليه وسلم - كما تقدم بسطه في بدء الوحي، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان على ذلك، بل نطق النبي صلى الله عليه وسلم بهذه اللفظة كما في حديث أوس بن أبي أوس عند ابن ماجه وأصله عند أبي داود" الحرب سجال" ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} بعد قوله: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} فإنها نزلت في قصة أحد بالاتفاق.
والقرح الجرح. وأخرج ابن أبي حاتم من مرسل عكرمة قال: "لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم الجبل جاء أبو سفيان فقال: الحرب سجال - فذكر القصة قال - فأنزل الله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} وزاد في حديث ابن عباس" قال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. قال: إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذا وخسرنا". قوله: "وتجدون" في رواية الكشميهني: "وستجدون". قوله: "مثلة" بضم الميم وسكون المثلثة، ويجوز فتح أوله. وقال ابن التين: بفتح الميم وضم المثلثة، قال ابن فارس: مثل بالقتل إذا جدعه، قال ابن إسحاق: حدثني صالح بن كيسان قال: "خرجت هند والنسوة منها يمثلن بالقتلى، يجدعن الآذان والأنف، حتى اتخذت هند من ذلك حزما وقلائد، وأعطت حزمها وقلائدها - أي اللائي كن عليها - لوحشي جزاء له على قتل حمزة، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها. قوله: "لم آمر بها، ولم تسؤني" أي لم أكرهها وإن كان وقوعها بغير أمري. وفي حديث ابن عباس: ولم يكن ذلك عن رأي سراتنا، أدركته حمية الجاهلية فقال: أما إنه كان لم يكرهه. وفي رواية ابن إسحاق" والله ما رضيت وما سخطت، وما نهيت وما أمرت" وفي هذا الحديث من الفوائد منزلة أبي بكر وعمر من النبي صلى الله عليه وسلم وخصوصيتهما به بحيث كان أعداؤه لا يعرفون بذلك غيرهما، إذ لم يسأل أبو سفيان عن
(7/352)