باب غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ وَهِيَ الأَحْزَابُ 5
 
مِنْ أَمْرِ النَّاسِ مَا تَرَيْنَ فَلَمْ يُجْعَلْ لِي مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ فَقَالَتْ الْحَقْ فَإِنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ فِي احْتِبَاسِكَ عَنْهُمْ فُرْقَةٌ فَلَمْ تَدَعْهُ حَتَّى ذَهَبَ فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ خَطَبَ مُعَاوِيَةُ قَالَ مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الأَمْرِ فَلْيُطْلِعْ لَنَا قَرْنَهُ فَلَنَحْنُ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ وَمِنْ أَبِيهِ قَالَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَهَلاَ أَجَبْتَهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَحَلَلْتُ حُبْوَتِي وَهَمَمْتُ أَنْ أَقُولَ أَحَقُّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْكَ مَنْ قَاتَلَكَ وَأَبَاكَ عَلَى الإِسْلاَمِ فَخَشِيتُ أَنْ أَقُولَ كَلِمَةً تُفَرِّقُ بَيْنَ الْجَمْعِ وَتَسْفِكُ الدَّمَ وَيُحْمَلُ عَنِّي غَيْرُ ذَلِكَ فَذَكَرْتُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ فِي الْجِنَانِ قَالَ حَبِيبٌ حُفِظْتَ وَعُصِمْتَ قَالَ مَحْمُودٌ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ "وَنَوْسَاتُهَا"
الحديث العاشر قوله: "هشام" هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "قال وأخبرني ابن طاوس" قائل ذلك هو معمر، واسم ابن طاوس عبد الله. قوله: "دخلت على حفصة" أي بنت عمر أخته. قوله: "ونسواتها" بفتح النون والمهملة. قال الخطابي: كذا وقع، وليس بشيء، وإنما هو "نوساتها" أي ذوائبها، ومعنى تنطف أي تقطر كأنها قد اغتسلت، والنوسات جمع نوسة والمراد أن ذوائبها كانت تنوس أي تتحرك، وكل شيء تحرك فقد ناس، والنوس والاضطراب، ومنه قول المرأة في حديث أم زرع "أناس من حلى أذني" قال ابن التين: قوله نوسات هو بسكون الواو وضبط بفتحها، وأما نسوات فكأنه على القلب. قوله: "قد كان من أمر الناس ما ترين، فلم يجعل لي من الأمر شيء" مراده بذلك ما وقع بين علي ومعاوية من القتال في صفين يوم اجتماع الناس على الحكومة بينهم فيما اختلفوا فيه، فراسلوا بقايا الصحابة من الحرمين وغيرهما وتواعدوا على الاجتماع لينظروا في ذلك، فشاور ابن عمر أخته في التوجه إليهم أو عدمه فأشارت عليه باللحاق بهم خشية أن ينشأ من غيبته اختلاف يفضي إلى استمرار الفتنة. قوله: "فلما تفرق الناس" أي بعد أن اختلف الحكمان، وهما أبو موسى الأشعري وكان من قبل علي وعمرو بن العاص وكان من قبل معاوية. ووقع في رواية عبد الرزاق عن معمر في هذا الحديث: "فلما تفرق الحكمان" وهو يفسر المراد ويعين أن القصة كانت بصفين، وجوز بعضهم أن يكون المراد الاجتماع الأخير الذي كان بين معاوية والحسن بن علي ورواية عبد الرزاق ترده، وعلى هذا تقدير الكلام، فلم تدعه حتى ذهب إليهم في المكان الذي فيه الحكمان فحضر معهم، فلما تفرقوا خطب معاوية إلخ، وأبعد من ذلك قول ابن الجوزي في "كشف المشكل" أشار بذلك إلى جعل عمر الخلافة شورى في ستة ولم يجعل له من الأمر شيئا فأمرته باللحاق، قال: وهذا حكاية الحال التي جرت قبل، وأما قوله فلما تفرق الناس خطب معاوية، كان هذا في زمن معاوية لما أراد أن يجعل ابنه يزيد ولي عهده، كذا قال ولم يأت له بمستند، والمعتمد ما صرح به في رواية عبد الرزاق. ثم وجدت في رواية حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر قال: "لما كان في اليوم الذي اجتمع فيه معاوية بدومة الجندل قالت حفصة: إنه لا يجمل بك أن تتخلف عن صلح يصلح الله به بين أمة محمد. وأنت صهر رسول الله وابن عمر بن الخطاب، قال فأقبل معاوية يومئذ على بختي عظيم فقال: من يطمع في هذا الأمر أو يرجوه أو يمد إليه عنقه" الحديث أخرجه الطبراني. قوله: "أن يتكلم في هذا الأمر" أي الخلافة. قوله: "فليطلع لنا قرنه" بفتح القاف، قال ابن التين يحتمل أن يريد بدعته كما جاء في الخبر الآخر "كلما نجم قرن" أي طلع قرن، ويحتمل أن يكون المعنى
(7/403)

فليبد لنا صفحة وجهه، والقرن من شأنه أن يكون في الوجه، والمعنى فليظهر لنا نفسه ولا يخفيها. قيل: أراد عليا وعرض بالحسن والحسين، وقيل: أراد عمر وعرض بابنه عبد الله، وفيه بعد لأن معاوية كان يبالغ في تعظيم عمر ووقع في رواية حبيب بن أبي ثابت أيضا قال ابن عمر: ما حدثت نفسي بالدنيا قبل يومئذ أردت أن أقول له يطمع فيه من ضربك وأباك على الإسلام حتى أدخلكما فيه، فذكرت الجنة فأعرضت عنه. ومن هنا يظهر مناسبة إدخال هذه القصة في غزوة الخندق، لأن أبا سفيان كان قائد الأحزاب يومئذ. قوله: "قال حبيب بن مسلمة" أي ابن مالك الفهري، صحابي صغير، ولأبيه صحبة، وكان قد سكن الشام وأرسله معاوية في عسكر لنصر عثمان فقتل عثمان قبل أن يصل، فرجع فكان مع معاوية وولاه غزوة الروم، فكان يقال له حبيب الروم لكثرة دخوله عليهم ومات في خلافة معاوية. قوله: "فهلا أجبته" أي هلا أجبت معاوية عن تلك المقالة، فأعلمه ابن عمر بالذي منعه عن ذلك قال: حللت حبوتي إلخ، ووقع في رواية عبد الرزاق عند قوله: "فلنحن أحق به منه ومن أبيه "يعرض بابن عمر فعرف بهذه الزيادة مناسبة قول حبيب بن مسلمة لابن عمر: هلا أجبته. والحبوة بضم المهملة وسكون الموحدة ثوب يلقى على الظهر ويربط طرفاه على الساقين بعد ضمهما. قوله: "من قاتلك وأباك على الإسلام" يعني يوم أحد ويوم الخندق، ويدخل في هذه المقاتلة علي وجميع من شهدها من المهاجرين، ومنهم عبد الله بن عمر. ومن هنا تظهر مناسبة إدخال هذه القصة في غزوة الخندق لأن أبا سفيان والد معاوية كان رأس الأحزاب يومئذ. ووقع في رواية حبيب بن أبي ثابت أيضا: "قال ابن عمر فما حدثت نفسي بالدنيا قبل يومئذ، أردت أن أقول له يطمع فيه من قاتلك وأباك على الإسلام حتى أدخلكما فيه فذكرت الجنة فأعرضت عنه "وكان رأي معاوية في الخلافة تقديم الفاضل في القوة والرأي والمعرفة على الفاضل في السبق إلى الإسلام والدين والعبادة، فلهذا أطلق أنه أحق، ورأى ابن عمر بخلاف ذلك، وأنه لا يبايع المفضول إلا إذا خشي الفتنة، ولهذا بايع بعد ذلك معاوية ثم ابنه يزيد ونهى بنيه عن نقض بيعته كما سيأتي في الفتن، وبايع بعد ذلك لعبد الملك بن مروان. قوله: "ويحمل عني غير ذلك" أي غير ما أردت، ووقع في رواية منقطعة عند سعيد بن منصور أخرجها عن إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب قال: "نبئت أن ابن عمر لما قال معاوية من أحق بهذا الأمر منا ومن ينازعنا، فهممت أن أقول الذين قاتلوك وأباك على الإسلام، فخشيت أن يكون في قولي هراقة الدماء، وأن يحمل قولي على غير الذي أردت". قوله: "فذكرت ما أعد الله في الجنان" أي لمن صبر وآثر الآخرة على الدنيا. قوله: "قال حبيب" أي ابن مسلمة المذكور "حفظت وعصمت" بضم أولهما أي أنه صوب رأيه في ذلك. وقد قدمنا أن حبيب بن مسلمة المذكور كان من أصحاب معاوية. قوله: "قال محمود عن عبد الرزاق: ونوساتها" أي إن عبد الرزاق روى عن معمر شيخ هشام بن يوسف هذا الحديث كما رواه هشام فخالف في هذه اللفظة فقال: "نوساتها" وهذا هو الصواب كما تقدم، وطريق محمود هذا وهو ابن غيلان المروزي وصلها محمد بن قدامة الجوهري في كتاب "أخبار الخوارج" له قال: حدثنا محمود بن غيلان المروزي أنبأنا عبد الرزاق عن معمر فذكره بالإسنادين معا، وساق المتن بتمامه، وأوله "دخلت على حفصة ونوساتها تنطف" وقد ذكرت ما في روايته من فائدة زائدة، وكذلك أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن عبد الرزاق.
(7/404)