سورة النِّسَاءِ
 
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَنْكِفُ يَسْتَكْبِرُ قِوَامًا قِوَامُكُمْ مِنْ مَعَايِشِكُمْ لَهُنَّ سَبِيلاً يَعْنِي الرَّجْمَ لِلثَّيِّبِ وَالْجَلْدَ لِلْبِكْرِ وَقَالَ غَيْرُهُ مَثْنَى وَثُلاَثَ يَعْنِي اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثًا وَأَرْبَعًا وَلاَ تُجَاوِزُ الْعَرَبُ رُبَاعَ
قوله: "سورة النساء - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "قال ابن عباس: يستنكف يستكبر" وقع هذا في رواية المستملي والكشميهني حسب، وقد وصله ابن أبي حاتم بإسناد صحيح من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ} قال يستكبر، وهو عجيب، فإن في الآية عطف الاستكبار على الاستنكاف فالظاهر أنه غيره، ويمكن أن يحمل على التوكيد. وقال الطبري: معنى يستنكف يأنف، وأسند عن قتادة قال: يحتشم. وقال الزجاج: هو استفعال من النكف وهو الأنفة، والمراد دفع ذلك عنه، ومنه نكفت الدمع بالإصبع إذا منعته من الجري على الخد. قوله: "قواما قوامكم من معايشكم" هكذا وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ووصله الطبري من هذا الوجه بلفظ {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} يعني قوامكم من معايشكم، يقول لا تعمد إلى مالك الذي جعله الله لك معيشة فتعطيه امرأتك ونحوها، وقوله: {قِيَاماً} القراءة المشهورة بالتحتانية بدل الواو، لكنهما بمعنى، قال أبو عبيدة: يقال قيام أمركم وقوام أمركم، والأصل بالواو فأبدلوها ياء لكسرة القاف، قال بعض الشراح: فأورده المصنف على الأصل. قلت: ولا حاجة لذلك لأنه ناقل لها عن ابن عباس، وقد ورد عنه كلا الأمرين: وقيل إنها أيضا قراءة ابن عمر أعني بالواو، وقد قرئ في المشهور عن أهل المدينة أيضا: "قيما" بلا ألف، وفي
(8/237)

الشواذ قراءات أخرى. وقال أبو ذر الهروي قوله: "قوامكم" إنما قاله تفسيرا لقوله: {قِيَاماً} على القراءة الأخرى. قلت: ومن كلام أبي عبيدة يحصل جوابه. قوله: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} يعني اثنتين وثلاثا وأربعا، ولا تجاوز العرب رباع" كذا وقع لأبي ذر فأوهم أنه عن ابن عباس أيضا كالذي قبله، ووقع لغيره. وقال غيره مثنى إلخ" وهو الصواب فإن ذلك لم يرو عن ابن عباس وإنما هو تفسير أبي عبيدة قال: لا تنوين في مثنى لأنه مصروف عن حده، والحد أن يقولوا اثنين وكذلك ثلاث ورباع لأنه ثلاث وأربع، ثم أنشد شواهد لذلك ثم قال: ولا تجاوز العرب رباع غير أن الكميت قال:
فلم يستريثوك حتى رمي ... ت فوق الرجال خصالا عشارا
انتهى وقيل: بل يجوز إلى سداس، وقيل إلى عشار. قال الحريري في "درة الغواص" غلط المتنبي في قوله: "أحاد أم سداس في أحاد" لم يسمع في الفصيح إلا مثنى وثلاث ورباع، والخلاف في خماس إلى عشار. ويحكى عن خلف الأحمر أنه أنشد أبياتا من خماس إلى عشار. وقال غيره: في هذه الألفاظ المعدولة هل يقتصر فيها على السماع أو يقاس عليها؟ قولان أشهرهما الاقتصار، قال ابن الحاجب: هذا هو الأصح، ونص عليه البخاري في صحيحه. كذا قال. قلت: وعلى الثاني يحمل بيت الكميت، وكذا قول الآخر:
ضربت خماس ضربة عبشمي ... أراد سداس أن لا تستقيما
وهذه المعدولات لا تقع إلا أحوالا كهذه الآية، أو أوصافا كقوله تعالى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} أو إخبارا كقوله عليه الصلاة والسلام الليل مثنى" ولا يقال فيها مثناة وثلاثة، بل تجري مجرى واحدا، وهل يقال موحد كما يقال مثنى؟ الفصيح لا. وقيل يجوز. وكذا مثلث إلخ. وقول أبي عبيدة إن معنى مثنى اثنتين فيه اختصار وإنما معناه اثنتين اثنتين وثلاث ثلاث، وكأنه ترك ذلك لشهرته، أو كان لا يرى التكرار فيه، وسيأتي ما يتعلق بعدد ما ينكح من النساء في أوائل النكاح إن شاء الله تعالى. قوله: {لَهُنَّ سَبِيلاً} يعني الرجم للثيب والجلد للبكر" ثبت هذا أيضا في رواية المستملي والكشميهني حسب، وهو من تفسير ابن عباس أيضا وصله عبد بن حميد عنه بإسناد صحيح، وروى مسلم وأصحاب السنن من حديث عبادة بن الصامت "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" والمراد الإشارة إلى قوله تعالى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} وقد روى الطبراني من حديث ابن عباس قال: فلما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حبس بعد سورة النساء" وسيأتي البحث في الجمع بين الجلد والرجم للثيب في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى.
(8/238)