باب {حُرُمٌ} وَاحِدُهَا حَرَامٌ {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} بِنَقْضِهِمْ {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ} جَعَلَ اللَّهُ {تَبُوءُ} تَحْمِلُ {دَائِرَةٌ} دَوْلَةٌ وَقَالَ غَيْرُهُ الإِغْرَاءُ التَّسْلِيطُ {أُجُورَهُنَّ} مُهُورَهُنَّ {الْمُهَيْمِنُ} الأَمِينُ الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ.
 
قوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سورة المائدة" سقطت البسملة لأبي ذر، والمائدة فاعلة بمعنى مفعولة أي ميد بها صاحبها، وقيل على بابها، وسيأتي ذكر ذلك مبينا بعد. قوله: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} واحدها حرام" هو قول أبي عبيدة، وزاد: حرام بمعنى محرم. وقرأ الجمهور بضم الراء ويحيى بن وثاب بإسكانها وهي لغة كرسل ورسل. قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} بنقضهم" هو تفسير قتادة، أخرجه الطبري من طريقه، وكذا قال أبو عبيدة {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} أي فبنقضهم قال: والعرب تستعمل ما في كلامهم توكيدا، فإن كان الذي قبلها يجر أو يرفع أو ينصب
(8/268)

عمل فيما بعدها. قوله: {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ} أي جعل الله، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي جعل الله لكم وقضى، وعن ابن إسحاق: كتب لكم أي وهب لكم أخرجه الطبري. وأخرج من طريق السدي أن معناه أمر، قال الطبري: والمراد أنه قدرها لسكنى بني إسرائيل في الجملة فلا يرد كون المخاطبين بذلك لم يسكنوها لأن المراد جنسهم بل قد سكنها بعض أولئك كيوشع وهو ممن خوطب بذلك قطعا. قوله: "تبوء تحمل" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أي تحمل إثمي وإثمك. قال: وله تفسير آخر تبوء أي تقر، وليس مرادا هنا. وروى الطبري من طريق مجاهد قال: إني أريد أن تبوء أن تكون عليك خطيئتك ودمي، قال: والجمهور على أن المراد بقوله إثمي أي إثم قتلى، ويحتمل أن يكون على بابه من جهة أن القتل يمحو خطايا المقتول، وتحمل على القاتل إذا لم تكن له حسنات يوفي منها المقتول. قوله: "وقال غيره الإغراء التسليط" هكذا وقع في النسخ التي وقفت عليها، ولم أعرف الغير ولا من عاد عليه الضمير لأنه لم يفصح بنقل ما تقدم عن أحد، نعم سقط "وقال غيره:"من رواية النسفي، وكأنه أصوب، ويحتمل أن يكون المعنى: وقال غير من فسر ما تقدم ذكره. وفي رواية الإسماعيلي عن الفربري بالإجازة وقال ابن عباس: مخمصة مجاعة. وقال غيره: الإغراء التسليط. وهذا أوجه. تفسير المخمصة وقع في النسخ الأخرى بعد هذا، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وكذا فسره أبو عبيدة، والحاصل أن التقديم والتأخير في وضع هذه التفاسير وقع ممن نسخ كتاب البخاري كما قدمناه غير مرة، ولا يضر ذلك غالبا. تفسير الإغراء بالتسليط يلازم معنى الإغراء حقيقة الإغراء كما قال أبو عبيدة التهنيج للإفساد، وقد روى ابن أبي حاتم من طريق مجاهد في قوله: "وأغرينا" قال ألقينا، وهذا تفسير بما وقع في الآية الأخرى. قوله: "أجورهن مهورهن" هو تفسير أبي عبيدة. قوله: "المهيمن القرآن أمين على كل كتاب قبله" أورد ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} قال القرآن أمين على كل كتاب كان قبله. وروى عبد بن حميد من طريق أربدة التميمي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} قال: مؤتمنا عليه. وقال ابن قتيبة وتبعه جماعة "مهيمنا" مفيعل من أيمن قلبت همزته هاء، وقد أنكر ذلك ثعلب فبالغ حتى نسب قائله إلى الكفر لأن المهيمن من الأسماء الحسنى وأسماء الله تعالى لا تصغر، والحق أنه أصل بنفسه ليس مبدلا من شيء، وأصل الهيمنة الحفظ والارتقاب تقول: هيمن فلان على فلا إذا صار رقيبا عليه فهو مهيمن، قال أبو عبيدة. لم يجيء في كلام العرب على هذا البناء إلا أربعة ألفاظ: مبيطر ومسيطر ومهيمن ومبيقر. قوله: "وقال سفيان: ما في القرآن آية أشد علي من {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} يعني أن من لم يعمل بما أنزل الله في كتابه فليس على شيء، ومقتضاه أن من أخل ببعض الفرائض فقد أخل بالجميع، ولأجل ذلك أطلق كونها أشد من غيرها، ويحتمل أن يكون هذا مما كان على أهل الكتاب من الإصر. وقد روى ابن أبي حاتم أن الآية نزلت في سبب خاص، فأخرج بإسناد حسن من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "جاء مالك بن الصيف وجماعة من الأحبار فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم، تؤمن بما في التوراة، تشهد أنها حق؟ قال: بلى، ولكنكم كتمتم منها ما أمرتم ببيانه، فأنا أبرأ مما أحدثتموه. قالوا: فإنا نتمسك بما في أيدينا من الهدى والحق ولا نؤمن بك ولا بما جئت به، فأنزل الله هذه الآية. وهذا يدل على أن المراد بما أنزل إليكم
(8/269)

من ربكم أي القرآن. ويؤيد هذا التفسير قوله تعالى في الآية التي قبلها {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} - إلى قوله: {أَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ} ا لآية
" تنبيه " : سفيان المذكور وقع في بعض النسخ أنه الثوري، ولم يقع لي إلى الآن موصولا. قوله: {مَنْ أحْيَاهَا} يعني من حرم قتلها إلا بحق حيا الناس منه جميعا" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس. قوله: "شرعة ومنهاجا سبيلا وسنة" وقد تقدم في الإيمان. وقال أبو عبيدة {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} أي سنة "ومنهاجا" أي سبيلا بينا واضحا. قوله: "عثر ظهر الأوليان وأحدهما أولى" أي أحق به طعامهم وذبائحهم، كذا ثبت في بعض النسخ هنا، وقد تقدم في الوصايا إلا الأخير فسيأتي في الذبائح.
(8/270)