باب {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}
 
4787- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَة"
[الحديث 4787- طرفه في: 7420]
قوله: "باب {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} لم تختلف الروايات أنها نزلت في قصة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش. قوله: "حدثنا معلى بن منصور" هو الرازي، وليس له عند البخاري سوى هذا الحديث وآخر في البيوع، وقد قال في "التاريخ الصغير" : دخلنا عليه سنة عشر، فكأنه لم يكثر عنه ولهذا حدث عنه في هذين الموضعين بواسطة. قوله: "حدثنا ثابت" كذا قال معلى بن منصور عن حماد، وتابعه محمد بن أبي بكر المقدمي وعارم وغيرهما. وقال الصلت بن مسعود وروح بن عبد المؤمن وغيرهما:"عن حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس" فلعل لحماد فيه إسنادين. وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق سليمان بن أيوب صاحب البصري عن حماد بن زيد بالإسنادين معا. قوله: "إن هذه الآية {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة" هكذا اقتصر على هذا القدر من هذه القصة، وقد أخرجه في التوحيد من وجه آخر عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال: "جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك، قال أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا لكتم هذه الآية" قال: "وكانت تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم:"الحديث. وأخرجه أحمد عن مؤمل بن إسماعيل عن حماد بن زيد بهذا الإسناد بلفظ: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم منزل زيد بن حارثة فجاءه زيد يشكوها إليه، فقال له: " أمسك عليك زوجك واتق الله" ، فنزلت إلى قوله: {زَوَّجْنَاكَهَا} قال: يعني زينب بنت جحش" . وقد أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة من طريق السدي فساقها سياقا واضحا حسنا ولفظه: "بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش، وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه فكرهت ذلك، ثم إنها رضيت بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها إياه، ثم أعلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بعد أنها من أزواجه فكان يستحي أن يأمر بطلاقها، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسك عليه زوجه وأن يتقي الله، وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ويقولوا تزوج امرأة ابنه، وكان قد تبنى زيدا" . وعنده من طريق علي بن زيد عن علي بن الحصين
(8/523)

بن علي قال: أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد يشكوها إليه وقال له: اتق الله وأمسك عليك زوجك قال الله: قد أخبرتك أني مزوجكها، وتخفي في نفسك ما الله مبديه. وقد أطنب الترمذي الحكيم في تحسين هذه الرواية وقال: إنها من جواهر العلم المكنون. وكأنه لم يقف على تفسير السدي الذي أوردته، وهو أوضح سياقا وأصح إسنادا إليه لضعف علي بن زيد بن جدعان. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: جاء زيد بن حارثة فقال: يا رسول الله إن زينب اشتد علي لسانها، وأنا أريد أن أطلقها، فقال له: "اتق الله وأمسك عليك زوجك" ، قال: والنبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يطلقها ويخشى قالة الناس. ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبري ونقلها كثير من المفسرين لا ينبغي التشاغل بها، والذي أوردته منها هو المعتمد. والحاصل أن الذي كان يخفيه النبي صلى الله عليه وسلم هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه من أحكام التبني بأمر لا أبلغ في الإبطال منه وهو تزوج امرأة الذي يدعي ابنا. ووقوع ذلك من إمام المسلمين ليكون أدعى لقبولهم. وإنما وقع الخبط في تأويل متعلق الخشية والله أعلم، وقد أخرج الترمذي من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن عائشة قالت: "لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية" وإذ تقول للذي أنعم الله عليه - يعني بالإسلام - وأنعمت عليه - بالعتق - أمسك عليك زوجك" إلى قوله: "قدرا مقدورا" وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية، وكان تبناه وهو صغير. قلت: حتى صار رجلا يقال له زيد ابن محمد، فأنزل الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} إلى قوله: {وَمَوَالِيكُمْ}. قال الترمذي: روي عن داود عن الشعبي عن مسروق عن عائشة إلى قوله: "لكتم هذه الآية" ولم يذكر ما بعده. قلت: وهذا القدر أخرجه مسلم كما قال الترمذي، وأظن الزائد بعده مدرجا في الخبر، فإن الراوي له عن داود لم يكن بالحافظ. وقال ابن العربي: إنما قال عليه الصلاة والسلام لزيد: "أمسك عليك زوجك" اختبارا لما عنده من الرغبة فيها أو عنها، فلما أطلعه زيد على ما عنده منها من النفرة التي نشأت من تعاظمها عليه وبذاءة لسانها أذن له في طلاقها، وليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع الآمر به والله أعلم. وروى أحمد ومسلم والنسائي من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: "لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لزيد: "اذكرها علي" ، قال: فانطلقت فقلت: يا زينب، أبشري، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك. فقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل عليها بغير إذن" وهذا أيضا من أبلغ ما وقع في ذلك، وهو أن يكون الذي كان زوجها هو الخاطب، لئلا يظن أحد أن ذلك وقع قهرا بغير رضاه. وفيه أيضا اختبار ما كان عنده منها هل بقي منه شيء أم لا؟ وفيه استحباب فعل المرأة الاستخارة ودعائها عند الخطبة قبل الإجابة، وأن من وكل أمره إلى الله عز وجل يسر الله له ما هو الأحظ له والأنفع دنيا وأخرى.
(8/524)

باب {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك}
...