باب مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}
 
5023- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ وَقَالَ صَاحِبٌ لَهُ يُرِيدُ يَجْهَرُ بِهِ"
الحديث 5023- أطرافه في: 5024، 7482، 7544]
5024- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ قَالَ سُفْيَانُ تَفْسِيرُهُ يَسْتَغْنِي بِهِ"
قوله:" باب من لم يتغن بالقرآن" هذه الترجمة لفظ حديث أورده المصنف في الأحكام من طريق ابن جريج عن ابن شهاب بسند حديث الباب بلفظ:" من لم يتغن بالقرآن فليس منا" وهو في السنن من حديث سعد بن أبي وقاص وغيره. قوله:" وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} أشار بهذه الآية إلى ترجيح تفسير ابن عيينة: يتغنى يستغنى، كما سيأتي هذا الباب عنه، وأخرجه أبو داود عن ابن عيينة ووكيع جميعا وقد بين إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة أنه استغناء خاص، وكذا قال أحمد عن وكيع: يستغنى به عن أخبار الأمم الماضية، وقد أخرج الطبري وغيره من طريق عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة قال:" جاء ناس من المسلمين بكتب وقد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كفى تقوم ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم، فنزل : أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم" وقد خفي وجه مناسبة تلاوة هذه الآية هنا على كثير من الناس كابن كثير فنفى أن يكون لذكرها وجه، على أن ابن بطال مع تقدمه قد أشار إلى المناسبة فقال: قال أهل التأويل في هذه الآية. فذكر ابن يحيى بن جعدة مختصرا قال: فالمراد بالآية الاستغناء عن أخبار الأمم الماضية، وليس المراد الاستغناء الذي هو ضد الفقر، قال: وإتباع البخاري الترجمة بالآية يدل على أنه يذهب إلى ذلك. وقال ابن التين: يفهم من الترجمة أن المراد بالتغني الاستغناء لكونه أتبعه الآية التي تتضمن الإنكار على من لم يستغن بالقرآن عن غيره، فحمله على الاكتفاء به وعدم الافتقار إلى غيره وحمله على ضد الفقر من جملة ذلك. قوله:" عن أبي هريرة" في رواية شعيب عن ابن شهاب" حدثني أبو سلمة أنه سمع أبا هريرة" أخرجه الإسماعيلي. قوله :" لم يأذن الله لنبي" كذا لهم بنون وموحدة، وعند الإسماعيلي:" لشيء" بشين معجمة وكذا عند مسلم من جميع طرقه. ووقع في رواية سفيان التي تلي هذه في الأصل كالجمهور. وفي رواية الكشميهني كرواية عقيل. قوله:" ما أذن لنبي" كذا للأكثر، وعند أبي ذر" للنبي" بزيادة اللام، فإن كانت محفوظة فهي للجنس، ووهم من ظنها للعهد وتوهم أن المراد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: ما أذن للنبي صلى الله عليه وسلم، وشرحه على ذلك. قوله :" أن يتغنى" كذا لهم، وأخرجه أبو نعيم من وجه آخر عن يحيى بن بكير شيخ البخاري فيه بدون" أن" وزعم ابن الجوزي أن الصواب حذف" أن" وأن إثباتها وهم من بعض الرواة لأنهم كانوا يروون بالمعنى فربما ظن بعضهم المساواة فوقع في الخطأ لأن الحديث لو كان بلفظ:" أن" لكان من الإذن بكسر الهمزة وسكون
(9/68)

الذال بمعنى الإباحة والإطلاق، وليس ذلك مرادا هنا وإنما هو من الأذن بفتحتين وهو الاستماع، وقوله أذن أي استمع، والحاصل أن لفظ أذن بفتحة ثم كسرة في الماضي وكذا في المضارع مشترك بين الإطلاق والاستماع، تقول أذنت آذن بالمد، فإن أردت الإطلاق فالمصدر بكسرة ثم سكون، وإن أردت الاستماع فالمصدر بفتحتين، قال عدي بن زيد:
أيها القلب تعلل بددن
إن همي في سماع وأذن
أي في سماع واستماع. وقال القرطبي: أصل الأذن بفتحتين أن المستمع يميل بأذنه إلى جهة من يسمعه، وهذا المعنى في حق الله لا يراد به ظاهره وإنما هو على سبيل التوسع على ما جرى به عرف المخاطب، والمراد به في حق الله تعالى إكرام ا لقارئ وإجزال ثوابه، لأن ذلك ثمرة الإصغاء. ووقع عند مسلم من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة في هذا الحديث :" ما أذن لشيء كأذنه" بفتحتين، ومثله عند ابن أبي داود من طريق محمد بن أبي حفصة عن عمرو بن دينار عن أبي سلمة، وعند أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث فضالة بن عبيد الله" أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته". قلت: ومع ذلك كله فليس ما أنكره ابن الجوزي بمنكر بل هو موجه، وقد وقع عند مسلم في رواية أخرى كذلك ووجهها عياض بأن المراد الحث على ذلك والأمر به. قوله:" وقال صاحب له يجهر به" الضمير في" له" لأبي سلمة، والصاحب المذكور هو عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، بينه الزبيدي عن ابن شهاب في هذا الحديث أخرجه ابن أبي داود عن محمد بن يحيى الذهلي في" الزهريات" من طريقه بلفظ: " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن" قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الحميد بن عبد الرحمن عن أبي سلمة " يتغنى بالقرآن يجهر به" فكأن هذا التفسير لم يسمعه ابن شهاب من أبي سلمة وسمعه من عبد الحميد عنه فكان تارة يسميه وتارة يبهمه، وقد أدرجه عبد الرزاق عن معمر عنه، قال الذهلي: وهو غير محفوظ في حديث معمر، وقد رواه عبد الأعلى عن معمر بدون هذه الزيادة. قلت: وهي ثابتة عن أبي سلمة من وجه آخر أخرجه مسلم من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: " ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به" وكذا ثبت عنده من رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة. قوله:" عن سفيان" هو ابن عيينة. قوله:" عن الزهري" هو ابن شهاب المذكور في الطريق الأولى، ونقل ابن أبي داود عن علي بن المديني شيخ البخاري فيه قال: لم يقل لنا سفيان قط في هذا الحديث:" حدثنا ابن شهاب" قلت: قد رواه الحميدي في مسنده عن سفيان قال:" سمعت الزهري" ومن طريقه أخرجه أبو نعيم في" المستخرج"، والحميدي من أعرف الناس، بحديث سفيان وأكثرهم تثبتا عته للسماع من شيوخهم. قوله:" قال سفيان تفسيره يستغنى به" كذا فسره سفيان، ويمكن أن يستأنس بما أخرجه أبو داود وابن الضريس، وصححه أبو عوانة عن ابن أبي مليكة عن عبيد الله بن أبي نهيك قال:" لقيني سعد بن أبي وقاص وأنا في السوق فقال: تجار كسبة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ليس منا من لم يتغن بالقرآن" وقد ارتضى أبو عبيد تفسير يتغنى بيستغني وقال إنه جائز في كلام العرب، وأنشد الأعشى:
وكنت امرءا زمنا بالعراق
خفيف المناخ طويل التغني
(9/69)

أي كثير الاستغناء وقال المغيرة بن حبناء:
كلانا غنى عن أخيه حياته
ونحن إذا متنا أشد تغانيا
قال: فعلى هذا يكون المعنى من لم يستغن بالقرآن عن الإكثار من الدنيا فليس منا، أي على طريقتنا. واحتج أبو عبيد أيضا بقول ابن مسعود" من قرأ سورة آل عمران فهو غني" ونحو ذلك. وقال ابن الجوزي: اختلفوا في معنى قوله يتغنى على أربعة أقوال. أحدها تحسين الصوت، والثاني الاستغناء، والثالث التحزن قاله الشافعي، والرابع التشاغل به تقول العرب تغنى بالمكان أقام به. قلت: وفيه قول آخر حكاه ابن الأنباري في" الزاهر" قال. المراد به التلذذ الاستحلاء له كما يستلذ أهل الطرب بالغناء، فأطلق عليه تغنيا من حيث أنه يفعل عنده ما يفعل عند الغناء، وهو كقول النابغة:
بكاء حمامة تدعو هديلا
مفجعة على فنن تغنى
أطلق على صوتها غناء لأنه يطرب كما يطرب الغناء وإن لم يكن غناء حقيقة، وهو كقولهم" العمائم تيجان العرب، لكونها تقوم مقام التيجان، وفيه قول آخر حسن وهو أن يجعله هجيراه كما يجعل المسافر والفارغ هجيراه الغناء، قال ابن الأعرابي: كانت العرب إذا ركبت الإبل تتغنى وإذا جلست في أفنيتها وفي أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هجيراهم القراءة مكان التغني. ويؤيد القول الرابع بيت الأعشى المتقدم فإنه أراد بقوله:" طويل التغني" طول الإقامة لا الاستغناء لأنه أليق بوصف الطول من الاستغناء، يعني أنه كان ملازما لوطنه بين أهله كانوا يتمدحون بذلك قال حسان:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم
قبر ابن مارية الكريم المفضل
أراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتجاع ولا يبرحون من أوطانهم، فيكون معنى الحديث الحث على ملازمة القرآن وأن لا يتعدى إلى غيره، وهو يئول من حيث المعنى إلى ما اختاره البخاري من تخصيص الاستغناء وأنه يستغنى به عن غيره من الكتب، وقيل المراد من لم يغنه القرآن وينفعه في إيمانه ويصدق بما فيه من وعد ووعيد وقيل معناه من لم يرتح لقراءته وسماعه، وليس المراد ما اختاره أبو عبيد أنه يحصل به الغنى دون الفقر، لكن الذي اختاره أبو عبيد غير مدفوع إذا أريد به الغنى المعنوي وهو غنى النفس وهو القناعة لا الغنى المحسوس الذي هو ضد الفقر، لأن ذلك لا يحصل بمجرد ملازمة القراءة إلا إن كان ذلك بالخاصية، وسياق الحديث يأبى الحمل على ذلك فإن فيه إشارة إلى الحث على تكلف ذلك، وفي توجيهه تكلف كأنه قال ليس منا من لم يتطلب الغنى بملازمة تلاوته، وأما الذي نقله عن الشافعي فلم أره صريحا عنه تفسير الخبر. وإنما قال في مختصر المزني: وأحب أن يقرأ حدرا وتخزينا انتهى. قال أهل اللغة: حدرت القراءة أدرجتها ولم أمططها، وقرأ فلان تحزينا إذا رفق صوته وصيره كصوت الحزين. وقد روى ابن أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة أنه قرأ سورة فحزنها شبه الرثى، وأخرجه أبو عوانة عن الليث بن سعد قال يتغنى به يتحزن به ويرقق به قلبه. وذكر الطبري عن الشافعي أنه سئل عن تأويل ابن عيينة للتغني بالاستغناء فلم يرتضه وقال: لو أراد الاستغناء لقال لم يستغن، وإنما أراد تحسين الصوت. قال ابن بطال: وبذلك فسره ابن أبي مليكة وعبد الله بن المبارك والنضر بن شميل، ويؤيده
(9/70)

رواية عبد الأعلى عن معمر عن ابن شهاب في حديث الباب بلفظ: " ما أذن لنبي في الترنم في القرآن" أخرجه الطبري، وعنده في رواية عبد الرزاق عن معمر " ما أذن لنبي حسن الصوت" وهذا اللفظ عند مسلم من رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة، وعند ابن أبي داود والطحاوي من رواية عمرو بن دينار عن أبي سلمة عن أبي هريرة" حسن الترنم بالقرآن" قال الطبري: والترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه القارئ وطرب به، قال ولو كان معناه الاستغناء لما كان لذكر الصوت ولا لذكر الجهر معنى. وأخرج ابن ماجه والكجي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث فضالة بن عبيد مرفوعا:" الله أشد أذنا - أي استماعا - للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته" والقينة المغنية، وروى ابن أبي شيبة من حديث عقبة بن عامر رفعه:" تعلموا القرآن وغنوا به وأفشوه" كذا وقع عنده والمشهور عند غيره في الحديث:" وتغنوا به" والمعروف في كلام العرب أن التغني الترجيع بالصوت كما قال حسان:
تغن بالشعر إما أنت قائله
إن الغناء بهذا الشعر مضمار
قال: ولا نعلم في كلام العرب تغنى بمعنى استغنى ولا في أشعارهم، وبيت الأعشى لا حجة فيه لأنه أراد طول الإقامة، ومنه قوله تعالى :{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} وقال: بيت المغيرة أيضا لا حجة فيه، لأن التغاني تفاعل بين اثنين وليس هو بمعنى تغنى، قال: وإنما يأتي" تغني" من الغنى الذي هو ضد الفقر بمعنى تفعل أي يظهر خلاف ما عنده، وهذا فاسد المعنى. قلت: ويمكن أن يكون بمعنى تكلفه أي تطلبه وحمل نفسه عليه ولو شق عليه كما تقدم قريبا، ويؤيده حديث: " فإن لم تبكوا فتباكوا" وهو في حديث سعد بن أبي وقاص عند أبي عوانة. وأما إنكاره أن يكون تغنى بمعنى استغنى في كلام العرب فمردود، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وقد تقدم في الجهاد في حديث الخيل " ورجل ربطها تعففا وتغنيا" وهذا من الاستغناء بلا ريب، والمراد به يطلب الغنى بها عن الناس بقرينة قوله تعففا. وممن أنكر تفسير يتغنى بيستغني أيضا الإسماعيلي فقال: الاستغناء به لا يحتاج إلى استماع، لأن الاستماع أمر خاص زائد على الاكتفاء به، وأيضا فالاكتفاء به عن غيره أمر واجب على الجميع، ومن لم يفعل ذلك خرج عن الطاعة. ثم ساق من وجه آخر عن ابن عيينة قال: يقولون إذا رفع صوته فقد تغنى. قلت: الذي نقل عنه أنه بمعنى يستغنى أتقن لحديثه، وقد نقل أبو داود عنه مثله، ويمكن الجمع بينهما بأن تفسير يستغنى من جهته ويرفع عن غيره. وقال عمر بن شبة: ذكرت لأبي عاصم النبيل تفسير ابن عيينة فقال: لم يصنع شيئا حدثني ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير قال:" كان داود عليه السلام يتغنى - يعني حين يقرأ - ويبكي ويبكي" وعن ابن عباس: أن داود كان يقرأ الزبور بسبعين لحنا، ويقرأ قراءة يطرب منها المحموم. وكان إذا أراد أن يبكي نفسه لم تبق دابة في بر ولا بحر إلا أنصتت له واستمعت وبكت. وسيأتي حديث: " إن أبا موسى أعطى مزمارا من مزامير داود" في" باب حسن الصوت بالقراءة". وفي الجملة ما فسر به ابن عيينة ليس بمدفوع، وإن كانت ظواهر الأخبار ترجح أن المراد تحسين الصوت ويؤيده قوله:" يجهر به" فإنها إن كانت مرفوعة قامت الحجة، وإن كانت غير مرفوعة فالراوي أعرف بمعنى الخبر من غيره ولا سيما إذا كان فقها، وقد جزم الحليمي بأنها من قول أبي هريرة والعرب تقول: سمعت فلانا يتغنى بكذا. أي يجهر به. وقال أبو عاصم: أخذ بيدي ابن جريج فأوقفني على
(9/71)

أشعب فقال: غن ابن أخي ما بلغ من طمعك؟ فذكر قصة. فقوله غن أي أخبرني جهرا صريحا. ومنه قول ذي الرمة:
أحب المكان القفر من أجلي أنني
به أتغنى باسمها غير معجم
أي أجهر ولا أكنى، والحاصل أنه يمكن الجمع بين أكثر التأويلات المذكورة، وهو أنه يحسن به صوته جاهرا به مترنما على طريق التحزن، مستغنيا به عن غيره من الأخبار، طالبا به غنى النفس راجيا به غنى اليد، وقد نظمت ذلك في بيتين:
تغن بالقرآن حسن به الصو
ت حزينا جاهرا رنم
واستغن عن كتب الألى طالبا
غنى يد والنفس ثم الزم
وسيأتي ما يتعلق بحسن الصوت بالقرآن في ترجمة مفردة. ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم، لأن للتطريب تأثيرا في رقة القلب وإجراء الدمع. وكان بين السلف اختلاف في جواز القرآن بالألحان، أما تحسين الصوت وتقديم حسن الصوت على غيره فلا نزاع في ذلك، فحكى عبد الوهاب المالكي عن مالك تحريم القراءة بالألحان، وحكاه أبو الطيب الطبري والماوردي وابن حمدان الحنبلي عن جماعة من أهل العلم، وحكى ابن بطال وعياض والقرطبي من المالكية والماوردي والبندنيجي والغزالي من الشافعية، وصاحب الذخيرة من الحنفية الكراهة، واختاره أبو يعلى وابن عقيل من الحنابلة، وحكى ابن بطال عن جماعة من الصحابة والتابعين الجواز، وهو المنصوص للشافعي ونقله الطحاوي عن الحنفية. وقال الفوراني من الشافعية في الإبانة يجوز بل يستحب، ومحل هذا الاختلاف إذا لم يختل شيء من الحروف عن مخرجه، فلو تغير قال النووي في" التبيان" أجمعوا على تحريمه ولفظه: أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط، فإن خرج حتى زاد حرفا أو أخفاه حرم، قال: وأما القراءة بالألحان فقد نص الشافعي في موضع على كراهته وقال في موضع آخر لا بأس به، فقال أصحابه: ليس على اختلاف قولين، بل على اختلاف حالين، فإن لم يخرج بالألحان على المنهج القويم جاز وإلا حرم. وحكى الماوردي عن الشافعي أن القراءة بالألحان إذا انتهت إلى إخراج بعض الألفاظ عن مخارجها حرم وكذا حكى ابن حمدان الحنبلي في" الرعاية". وقال الغزالي والبندنيجي وصاحب الذخيرة من الحنفية: إن لم يفرط في التمطيط الذي يشوش النظم استحب وإلا فلا. وأغرب الرافعي فحكى عن" أمالي السرخسي" أنه لا يضر التمطيط مطلقا، وحكاه ابن حمدان رواية عن الحنابلة، وهذا شذوذ لا يعرج عليه. والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب، فإن لم يكن حسنا فليحسنه ما استطاع كما قال ابن أبي مليكة أحد رواة الحديث، وقد أخرج ذلك عنه أبو داود بإسناد صحيح. ومن جملة تحسينه أن يراعي فيه قوانين النغم فإن الحسن الصوت يزداد حسنا بذلك، وإن خرج عنها أثر ذلك في حسنه، وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، فإن خرج عنها لم يف تحسين الصوت بقبح الأداء، ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعي الأداء، فإن وجد من يراعيهما معا فلا شك في أنه أرجح من غيره لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت ويجتنب الممنوع من حرمة الأداء والله أعلم
(9/72)