بَاب قَوْلِ اللَّهِ عز وجَلَّ : {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ} الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ حَلِيمٌ} أَوْ أَكْنَنْتُمْ أَضْمَرْتُمْ وَكُلُّ شَيْءٍ صُنْتَهُ وَأَضْمَرْتَهُ فَهُوَ مَكْنُونٌ.
 
5124- وَقَالَ لِي طَلْقٌ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} يَقُولُ إِنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ وَلَوَدِدْتُ أَنَّهُ تَيَسَّرَ لِي امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ وَقَالَ الْقَاسِمُ يَقُولُ إِنَّكِ عَلَيَّ كَرِيمَةٌ وَإِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إِلَيْكِ خَيْرًا أَوْ نَحْوَ هَذَا وَقَالَ عَطَاءٌ يُعَرِّضُ وَلاَ يَبُوحُ يَقُولُ إِنَّ لِي حَاجَةً وَأَبْشِرِي وَأَنْتِ بِحَمْدِ اللَّهِ نَافِقَةٌ وَتَقُولُ هِيَ قَدْ أَسْمَعُ مَا تَقُولُ وَلاَ تَعِدُ شَيْئًا وَلاَ يُوَاعِدُ وَلِيُّهَا بِغَيْرِ عِلْمِهَا وَإِنْ وَاعَدَتْ رَجُلًا فِي عِدَّتِهَا ثُمَّ نَكَحَهَا بَعْدُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَقَالَ الْحَسَنُ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا الزِّنَا وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ"
قوله: "باب قول الله عز وجل: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ}
(9/178)

الآية إلى قوله: {غَفُورٌ حَلِيمٌ} كذا للأكثر، وحذف ما بعد {أَكْنَنْتُمْ} من رواية أبي ذر، ووقع في شرح ابن بطال سياق الآية والتي بعدها إلى قوله: "أجله" الآية. قال ابن التين: تضمنت الآية أربعة أحكام: اثنان مباحان التعريض والإكنان، واثنان ممنوعان النكاح في العدة والمواعدة فيها. قوله: "أضمرتم في أنفسكم، وكل شيء صنته وأضمرته فهو مكنون" كذا للجميع، وعند أبي ذر بعده إلى آخر الآية. والتفسير المذكور لأبي عبيدة. قوله: "وقال لي طلق" هو ابن غنام بفتح المعجمة وتشديد النون. قوله: "عن ابن عباس فيما عرضتم" أي أنه قال في تفسير هذه الآية. قوله: "يقول إني أريد التزويج إلخ" وهو تفسير للتعريض المذكور في الآية، قال الزمخشري: التعريض أن يذكر المتكلم شيئا يدل به على شيء لم يذكره. وتعقب بأن هذا التعريف لا يخرج المجاز، وأجاب سعد الدين بأنه لم يقصد التعريف، ثم حقق التعريض بأنه ذكر شيء مقصود بلفظ حقيقي أو مجازي أو كنائي ليدل به على شيء آخر لم يذكر في الكلام، مثل أن يذكر المجيء للتسليم ومراده التقاضي، فالسلام مقصوده والتقاضي عرض، أي أميل إليه الكلام عن عرض أي جانب. وامتاز عن الكناية فلم يشتمل على جميع أقسامها. والحاصل أنهما يجتمعان ويفترقان، فمثل جئت لأسلم عليك كناية وتعريض، ومثل طويل النجاد كناية لا تعريض، ومثل آذيتني فستعرف خطابا لغير المؤذى تعريض بتهديد المؤذى لا كناية انتهى ملخصا. وهو تحقيق بالغ. قوله: "ولوددت أنه ييسر" بضم التحتانية وفتح أخرى مثلها بعدها وفتح المهملة. وفي رواية الكشميهني: "يسر" بتحتانية واحدة وكسر المهملة، وهكذا اقتصر المصنف في هذا الباب على حديث ابن عباس الموقوف. وفي الباب حديث صحيح مرفوع وهو قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس "إذا حللت فآذنيني" وهو عند مسلم، وفي لفظ: "لا تفوتينا بنفسك" أخرجه أبو داود. واتفق العلماء على أن المراد بهذا الحكم من مات عنها زوجها، واختلفوا في المعتدة من الطلاق البائن، وكذا من وقف نكاحها، وأما الرجعية فقال الشافعي: لا يجوز لأحد أن يعرض لها بالخطبة فيها. والحاصل أن التسريح بالخطبة حرام لجميع المعتدات والتعريض مباح للأولى، حرام في الأخيرة، مختلف فيه في البائن. قوله: "وقال القاسم" يعني ابن محمد "إنك على كريمة" أي يقول ذلك، وهو تفسير آخر للتعريض، وكلها أمثلة، ولهذا قال في آخره أو نحو وهذا الأثر وصله مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه كان يقول قول الله عز وجل :{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها: إن إلى آخره. وقوله في الأمثلة إني فيك لراغب يدل على أن تصريحه بالرغبة فيها لا يمتنع ولا يكون صريحا في خطبتها حتى يصرح بمتعلق الرغبة كأن يقول: إنى في نكاحك لراغب، وقد نص الشافعي على أن ذلك من صور التعريض أعنى ما ذكره القاسم، وأما ما مثلت به فحكى الروياني فيه وجها، وعبر النووي في الروضة بقوله رب راغب فيك، فأوهم أنه لا يصرح بالرغبة مطلقا، وليس كذلك. وأخرج البيهقي من طريق مجاهد من صور التصريح: لا تسبقيني بنفسك فإني ناكحك، ولو لم يقل فإني ناكحك فهو من صور التعريض لحديث فاطمة بنت قيس كما بينته قريبا. وقد ذكر الرافعي من صور التصريح لا تفوتي على نفسك وتعقبوه. وروى الدار قطني من طريق عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل عن عمته سكينة قالت: استأذن على أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ولم تنقض عدتي من مهلك زوجي فقال: قد عرفت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن على وموضعي في العرب فقلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، أنت رجل يؤخذ عنك تخطبني في عدتي؟ قال: إنما أخبرتك بقرابتي من
(9/179)

رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن على. قوله: "وقال عطاء يعرض ولا يبوح" أي لا يصرح "يقول إن لي حاجة وأبشري". قوله: "نافقة" بنون وفاء وقاف أي رائجة بالتحتانية والجيم. قوله: "ولا تعد شيئا" بكسر المهملة وتخفيف الدال، وأثر عطاء هذا وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه مفرقا، وأخرجه الطبري من طريق ابن المبارك عن ابن جريج قال: قلت لعطاء كيف يقول الخاطب؟ قال يعرض تعريضا ولا يبوح بشيء، فذكر مثله إلى قوله ولا تعد شيئا. قوله: "وإن واعدت رجلا في عدتها ثم نكحها" أي تزوجها "بعد" أي عند انقضاء العدة "لم يفرق بينهما" أي لم يقدح ذلك في صحة النكاح وإن وقع الإثم. وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عقب أثر عطاء قال: وبلغني عن ابن عباس قال خير لك أن تفارقها. واختلف فيمن صرح بالخطبة في العدة لكن لم يعقد إلا بعد انقضائها "فقال مالك: يفارقها دخل بها أو لم يدخل. وقال الشافعي: صح العقد وإن ارتكب النهي بالتصريح المذكور لاختلاف الجهة. وقال المهلب: علة المنع من التصريح في العدة أن ذلك ذريعة إلى الموافقة في العدة التي هي محبوسة فيها على ماء الميت أو المطلق ا هـ. وتعقب بأن هذه العلة تصلح أن تكون لمنع العقد لا لمجرد التصريح، إلا أن يقال التصريح ذريعة إلى العقد والعقد ذريعة إلى الوقاع. وقد اختلفوا لو وقع العقد في العدة ودخل فاتفقوا على أنه يفرق بينهما. وقال مالك والليث والأوزاعي: لا يحل له نكاحها بعد. وقال الباقون بل يحل له إذا انقضت العدة أن يتزوجها إذا شاء. قوله: "وقال الحسن لا تواعدوهن سرا الزنا" وصله عبد بن حميد من طريق عمران بن حدير عنه بلفظه، وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن قال: هو الفاحشة. قال قتادة قوله: "سرا" أي لا تأخذ عهدها في عدتها أن لا تتزوج غيره. وأخرجه إسماعيل القاضي في "الأحكام" وقال: هذا أحسن من قول من فسره بالزنا، لأن ما قبل الكلام وما بعده لا يدل عليه، ويجوز في اللغة أن يسمى الجماع سرا فلذلك ويجوز إطلاقه على العقد، ولا شك أن المواعدة على ذلك تزيد على التعريض المأذون فيه، واستدل بالآية على أن التعريض في القذف لا يوجب الحد لأن خطة المعتدة حرام، وفرق فيها بين التصريح والتعريض فمنع التصريح وأجيز التعريض، مع أن المقصود مفهوم منهما، فكذلك فرق في إيجاب حد القذف بين التصريح والتعريض. واعترض ابن بطال فقال: يلزم الشافعية على هذا أن يقولوا بإباحة التعريض بالقذف، وهذا ليس بلازم لأن المراد أن التعريض دون التصريح في الإفهام فلا يلتحق به في إيجاب الحد، لأن للذي يعرض أن يقول لم أرد القذف بخلاف المصرح. قوله: "ويذكر عن ابن عباس حتى يبلغ الكتاب أجله انقضاء العدة" وصله الطبري من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى :{وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} يقول: حتى تنقضي العدة
(9/180)