بَاب الْوَلِيمَةِ وَلَوْ بِشَاةٍ
 
5167- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ كَمْ أَصْدَقْتَهَا قَالَ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَعَنْ حُمَيْدٍ سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ نَزَلَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الأَنْصَارِ فَنَزَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَ أُقَاسِمُكَ مَالِي وَأَنْزِلُ لَكَ عَنْ إِحْدَى امْرَأَتَيَّ قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ فَخَرَجَ إِلَى السُّوقِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى فَأَصَابَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ فَتَزَوَّجَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"
(9/231)

5168- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ مَا أَوْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ أَوْلَمَ بِشَاةٍ"
5169- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا بِحَيْسٍ"
5170- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ بَيَانٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ بَنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ فَأَرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ رِجَالًا إِلَى الطَّعَامِ"
قوله: "باب الوليمة ولو بشاة" أي لمن كان موسرا كما سيأتي البحث فيه، وذكر المصنف في الباب خمسة أحاديث كلها عن أنس: الأول والثاني قصة عبد الرحمن بن عوف، قطعها قطعتين. قوله: "حدثنا علي" هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، وقد صرح بتحديث حميد له وسماع حميد عن أنس فأمن تدليسهما، لكنه فرقه حديثين: فذكر في الأول سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن عن قدر الصداق، وفي الثاني أول القصة قال: "لما قدموا المدينة نزل المهاجرون على الأنصار" وعبر في هذا بقوله: "وعن حميد قال سمعت أنسا" وفي رواية الكشميهني أنه سمع أنسا كما قال في الذي قبله، وهذا معطوف فيما جزم به المزي وغيره على الأول، ويحتمل أن يكون معلقا والأول هو المعتمد. وقد أخرجه الإسماعيلي: "عن الحسن بن سفيان عن محمد بن خلاد عن سفيان حدثنا حميد سمعت أنسا" وساق الحديثين معا، وأخرجه الحميدي في مسنده ومن طريقه أبو نعيم في "المستخرج" عن سفيان بالحديث كله مفرقا وقال في كل منهما "حدثنا حميد أنه سمع أنسا" وقد أخرجه ابن أبي عمر في مسنده عن سفيان، ومن طريقه الإسماعيلي فقال عن حميد عن أنس وساق الجميع حديثا واحدا، وقدم القصة الثانية على الأولى كما في وراية غير سفيان؛ فقد تقدم في أوائل النكاح من طريق الثوري وفي "باب الصفرة للمتزوج" من رواية مالك وفي "فضل الأنصار" من طريق إسماعيل بن جعفر، وفي أول البيوع من رواية زهير بن معاوية، ويأتي في الأدب من رواية يحيى القطان كلهم عن حميد. وأخرجه محمد بن سعد في "الطبقات" عن محمد بن عبد الله الأنصاري عن حميد، وتقدم في "باب ما يدعى للمتزوج" من رواية ثابت، وفي "باب وآتوا النساء صدقاتهن" من رواية عبد العزيز بن صهيب وقتادة كلهم عن أنس، وأورده في أول كتاب البيوع من حديث عبد الرحمن بن عوف نفسه، وسأذكر ما في رواياتهم من فائدة زائدة. وتقدم في البيوع في الكلام على حديث أنس بيان من زاد في روايته فجعله من حديث أنس عن عبد الرحمن بن عوف، وأكثر الطرق تجعله من مسند أنس، والذي يظهر من مجموع الطرق أنه حضر القصة وإنما نقل عن عبد الرحمن منها ما لم يقع له عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "لما قدموا المدينة" أي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وفي رواية ابن سعد "لما قدم عبد الرحمن ابن عوف المدينة". قوله: "نزل المهاجرون على الأنصار" تقدم بيان ذلك في أول الهجرة. قوله: "فنزل عبد الرحمن بن عوف على سعد بن الربيع" في رواية زهير "لما قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري" وفي رواية إسماعيل بن جعفر "قدم علينا عبد الرحمن فآخى" ونحوه في حديث عبد الرحمن بن عوف نفسه. وفي رواية يحيى بن سعيد الأنصاري عن حميد عند النسائي والطبراني "آخى
(9/232)

"سأل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف وتزوج امرأة من الأنصار "هذه الجملة حالية أي سأله حين تزوج، وهذه المرأة جزم الزبير بن بكار في "كتاب النسب" أنها بنت أبي الحيسر أنس بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل، وفي ترجمة عبد الرحمن بن عوف من "طبقات ابن سعد" أنها بنت أبي الحشاش وساق نسبه، وأظنهما ثنتين، فإن في رواية الزبير قال: "ولدت لعبد الرحمن القاسم وعبد الله" وفي رواية ابن سعد "ولدت له إسماعيل وعبد الله" وذكر ابن القداح في "نسب الأوس" أنها أم إياس بنت أبي الحيسر بفتح المهملتين بينهما تحتانية ساكنة وآخره راء واسمه أنس بن رافع الأوسي. وفي رواية مالك "فسأله فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار" وفي رواية زهير وابن علية وابن سعد وغيرهم "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: مهيم" ؟ ومعناه ما شأنك أو ما هذا؟ وهي كلمة استفهام مبنية على السكون، وهل هي بسيطة أو مركبة؟ قولان لأهل اللغة. وقال ابن مالك: هي اسم فعل بمعنى أخبر، ووقع في رواية للطبراني في الأوسط "فقال له مهيم؟ وكانت كلمته إذا أراد أن يسأل عن الشيء" ووقع في رواية ابن السكن "مهين" بنون آخره بدل الميم والأول هو المعروف. ووقع في رواية حماد بن زيد عن ثابت عند المصنف وكذا في رواية عبد العزيز بن صهيب عند أبي عوانة "قال ما هذا" وقال في جوابه "تزوجت امرأة من الأنصار" وللطبراني في "الأوسط" من حديث أبي هريرة بسند فيه ضعف "أن عبد الرحمن بن عوف أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خضب بالصفرة فقال: ما هذا الخضاب، أعرست؟ قال نعم" الحديث. قوله: "كم أصدقتها" كذا في رواية حماد بن سلمة ومعمر عن ثابت وفي رواية الطبراني "على كم". وفي رواية الثوري وزهير "ما سقت إليها" وكذا في رواية عبد الرحمن نفسه. وفي رواية مالك "كم سقت إليها". قوله: "وزن نواة" بنصب النون على تقدير فعل أي أصدقتها، ويجوز الرفع على تقدير مبتدأ أي الذي أصدقتها هو. قوله: "من ذهب" كذا وقع الجزم به في رواية ابن عيينة والثوري، وكذا في رواية حماد بن سلمة عن ثابت وحميد. وفي رواية زهير وابن علية "نواة من ذهب، أو وزن نواة من ذهب" وكذا في رواية عبد الرحمن نفسه بالشك. وفي رواية شعبة عن عبد العزيز بن صهيب "على وزن نواة" وعن قتادة "على وزن نواة من ذهب" ومثل الأخير في رواية حماد بن زيد عن ثابت، وكذا أخرجه مسلم من طريق أبي عوانة عن قتادة، ولمسلم من رواية شعبة عن أبي حمزة عن أنس "على وزن نواة. قال فقال رجل من ولد عبد الرحمن: من ذهب" ورجح الداودي رواية من قال: "على نواة من ذهب" واستنكر رواية من روى "وزن نواة" واستنكاره هو المنكر لأن الذين جزموا بذلك أئمة حفاظ، قال عياض لا وهم في الرواية لأنها إن كانت نواة تمر أو غيره أو كان للنواة قدر معلوم صلح أن يقال في كل ذلك وزن نواة، واختلف في المراد بقوله: "نواة" فقيل المراد واحدة نوى التمر كما يوزن بنوى الخروب وأن القيمة عنها يومئذ كانت خمسة دراهم، وقيل كان قدرها يومئذ ربع دينار، ورد بأن نوى التمر يختلف في الوزن فكيف يجعل معيارا لما يوزن به؟ وقيل: لفظ النواة من ذهب عبارة عما قيمته خمسة دراهم من الورق، وجزم به الخطابي واختاره الأزهري ونقله عياض عن أكثر العلماء، ويؤيده أن في رواية للبيهقي من طريق سعيد بن بشر عن قتادة "وزن نواة من ذهب قومت خمسة دراهم" وقيل وزنها من الذهب خمسة دراهم حكاه ابن قتيبة وجزم به ابن فارس، وجعله البيضاوي الظاهر، واستبعد لأنه يستلزم أن يكون ثلاثة مثاقيل ونصفا. ووقع في رواية حجاج بن أرطاة عن قتادة عند البيهقي "قومت ثلاثة دراهم وثلثا "وإسناده
(9/234)

ضعيف، ولكن جزم به أحمد، وقيل ثلاثة ونصف، وقيل ثلاثة وربع، وعن بعض المالكية النواة عند أهل المدينة ربع دينار، ويؤيد هذا ما وقع عند الطبراني في الأوسط في آخر حديث قال أنس جاء وزنها ربع دينار، وقد قال الشافعي: النواة ربع النش والنش نصف أوقية والأوقية أربعون درهما فيكون خمسة دراهم، وكذا قال أبو عبيد: إن عبد الرحمن بن عوف دفع خمسة دراهم، وهي تسمى نواة كما تسمى الأربعون أوقية، وبه جزم أبو عوانة وآخرون. قوله آخر الرواية الثانية "فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أولم ولو بشاة" ليست "لو" هذه الامتناعية وإنما هي التي للتقليل، وزاد في رواية حماد بن زيد "فقال بارك الله لك" قبل قوله: "أولم" ، وكذا في رواية حماد بن سلمة عن ثابت وحميد وزاد في آخر الحديث: "قال عبد الرحمن: فلقد رأيتني ولو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب ذهبا أو فضة، فكأنه قال ذلك إشارة إلى إجابة الدعوة النبوية بأن يبارك الله له. ووقع في حديث أبي هريرة بعد قوله أعرست" قال نعم. قال: أولمت؟ قال: لا. فرمى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنواة من ذهب فقال: أولم ولو بشاة" وهذا لو صح كان فيه أن الشاة من إعانة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يعكر على من استدل به على أن الشاة أقل ما يشرع للموسر، ولكن الإسناد ضعيف كما تقدم. وفي رواية معمر عن ثابت "قال أنس: فلقد رأيته قسم لكل امرأة من نسائه بعد موته مائة ألف". قلت: مات عن أربع نسوة فيكون جميع تركته ثلاثة آلاف ألف ومائتي ألف، وهذا بالنسبة لتركة الزبير التي تقدم شرحها في فرض الخمس قليل جدا، فيحتمل أن تكون هذه دنانير وتلك دراهم لأن كثرة مال عبد الرحمن مشهورة جدا، واستدل به على توكيد أمر الوليمة وقد تقدم البحث فيه. وعلى أنها تكون بعد الدخول، ولا دلالة فيه وإنما فيه أنها تستدرك إذا فاتت بعد الدخول، وعلى أن الشاة أقل ما تجزئ عن الموسر، ولولا ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم أولم على بعض نسائه كما سيأتي بأقل من الشاة لكان يمكن أن يستدل به على أن الشاة أقل ما تجزئ في الوليمة، ومع ذلك فلا بد من تقييده بالقادر عليها، وأيضا فيعكر على الاستدلال أنه خطاب واحد، وفيه اختلاف هل يستلزم العموم أو لا، وقد أشار إلى ذلك الشافعي فيما نقله البيهقي عنه قال: لا أعمله أمر بذلك غير عبد الرحمن، ولا أعلمه أنه صلى الله عليه وسلم ترك الوليمة فجعل ذلك مستندا في كون الوليمة ليست بحتم، ويستفاد من السياق طلب تكثير الوليمة لمن يقدر، قال عياض: وأجمعوا على أن لا حد لأكثرها، وأما أقلها فكذلك، ومهما تيسر أجزأ، والمستحب أنها على قدر حال الزوج، وقد تيسر على الموسر الشاة فما فوقها، وسيأتي البحث في تكرارها في الأيام بعد قليل. وفي الحديث أيضا منقبة لسعد بن الربيع في إيثاره على نفسه بما ذكر، ولعبد الرحمن بن عوف في تنزهه عن شيء يستلزم الحياء والمروءة اجتنابه ولو كان محتاجا إليه. وفيه استحباب المؤاخاة وحسن الإيثار من الغني للفقير حتى بإحدى زوجتيه، واستحباب رد مثل ذلك على من آثر به لما يغلب في العادة من تكلف مثل ذلك، فلو تحقق أنه لم يتكلف جاز. وفيه أن من ترك ذلك بقصد صحيح عوضه الله خيرا منه وفيه استحباب التكسب، وأن لا نقص على من يتعاطى من ذلك ما يليق بمروءة مثله، وكراهة قبول ما يتوقع منه الذل من هبة وغيرها، وأن العيش من عمل المرء بتجارة أو حرفة أولى لنزاهة الأخلاق من العيش بالهبة ونحوها. وفيه استحباب الدعاء للمتزوج، وسؤال الإمام والكبير أصحابه وأتباعه عن أحوالهم، ولا سيما إذا رأى منهم ما لم يعهد. وجواز خروج العروس وعليه أثر العرس من خلوق وغيره، واستدل به على جواز التزعفر للعروس، وخص به عموم النهي عن التزعفر للرجال كما سيأتي بيانه في كتاب اللباس، وتعقب باحتمال أن تكون تلك الصفرة
(9/235)

كانت في ثيابه دون جسده، وهذا الجواب للمالكية على طريقتهم في جوازه في الثوب دون البدن، وقد نقل ذلك مالك عن علماء المدينة، وفيه حديث أبي موسى رفعه: "لا يقبل الله صلاة رجل في جسده شيء من خلوق" أخرجه أبو داود، فإن مفهومه أن ماعدا الجسد لا يتناوله الوعيد، ومنع من ذلك أبو حنيفة والشافعي ومن تبعهما في الثوب أيضا، وتمسكوا بالأحاديث في ذلك وهي صحيحة، وفيها ما هو صريح في المدعي كما سيأتي بيانه، وعلى هذا فأجيب عن قصة عبد الرحمن بأجوبة: أحدها أن ذلك كان قبل النهي وهذا يحتاج إلى تاريخ، ويؤيده أن سياق قصة عبد الرحمن يشعر بأنها كانت في أوائل الهجرة، وأكثر من روى النهي ممن تأخرت هجرته. ثانيها أن أثر الصفرة التي كانت على عبد الرحمن تعلقت به من جهة زوجته فكان ذلك غير مقصود له، ورجحه النووي وعزاه للمحققين، وجعله البيضاوي أصلا رد إليه أحد الاحتمالين أبداهما في قوله: "مهيم" فقال: معناه ما السبب في الذي أراه عليك؟ فلذلك أجاب بأنه تزوج قال ويحتمل أن يكون استفهام إنكار لما تقدم من النهي عن التضمخ بالخلوق، فأجاب بقوله تزوجت، أي فتعلق بي منها ولم أقصد إليه. ثالثها أنه كان قد احتاج إلى التطيب للدخول على أهله فلم يجد من طيب الرجال حينئذ شيئا فتطيب من طيب المرأة، وصادف أنه كان فيه صفرة فاستباح القليل منه عند عدم غيره جمعا بين الدليلين، وقد ورد الأمر في التطيب للجمعة ولو من طيب المرأة فبقي أثر ذلك عليه. رابعها كان يسيرا ولم يبق إلا أثره فلذلك لم ينكر. خامسها وبه جزم الباجي أن الذي يكره من ذلك ما كان من زعفران وغيره من أنواع الطيب، وأما ما كان ليس بطيب فهو جائز. سادسها أن النهي عن التزعفر للرجال ليس على التحريم بدلالة تقريره لعبد الرحمن بن عوف في هذا الحديث. سابعها أن العروس يستثنى من ذلك ولا سيما إذا كان شابا، ذكر ذلك أبو عبيد قال: وكانوا يرخصون للشاب في ذلك أيام عرسه، قال وقيل: كان في أول الإسلام من تزوج لبس ثوبا مصبوغا علامة لزواجه ليعان على وليمة عرسه، قال وهذا غير معروف. قلت: وفي استفهام النبي صلى الله عليه وسلم له عن ذلك دلالة على أنه لا يختص بالتزويج، لكن وقع في بعض طرقه عند أبي عوانة من طريق شعبة عن حميد بلفظ: "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فرأى علي بشاشة العرس فقال: أتزوجت؟ قلت: تزوجت امرأة من الأنصار" فقد يتمسك بهذا السياق للمدعي ولكن القصة واحدة، وفي أكثر الروايات أنه قال له "مهيم أو ما هذا" فهو المعتمد، وبشاشة العرس أثره وحسنه أو فرحه وسروره، يقال بش فلان بفلان أي أقبل عليه فرحا به ملطفا به، واستدل به على أن النكاح لا بد فيه من صداق لاستفهامه على الكمية، ولم يقل هل أصدقها أو لا؟ ويشعر ظاهره بأنه يحتاج إلى تقدير لإطلاق لفظ: "كم" الموضوعة للتقدير، كذا قال بعض المالكية، وفيه نظر لاحتمال أن يكون المراد الاستخبار عن الكثرة أو القلة فيخبره بعد ذلك بما يليق بحال مثله، فلما قال له القدر لم ينكر عليه بل أقره، واستدل به على استحباب تقليل الصداق لأن عبد الرحمن بن عوف كان من مياسير الصحابة وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على إصداقه وزن نواة من ذهب، وتعقب بأن ذلك كان في أول الأمر حين قدم المدينة وإنما حصل له اليسار بعد ذلك من ملازمة التجارة حتى ظهرت منه من الإعانة في بعض الغزوات ما اشتهر، وذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له كما تقدم. واستدل به على جواز المواعدة لمن يريد أن يتزوج بها إذا طلقها زوجها وأوفت العدة، لقول سعد بن الربيع "انظر أي زوجتي أعجب إليك حتى أطلقها فإذا انقضت عدتها تزوجتها" ووقع تقرير ذلك، ويعكر على هذا أنه لم ينقل أن المرأة علمت بذلك ولا سيما ولم يقع تعيينها، لكن الاطلاع على أحوالهم إذ ذاك يقتضي أنهما علمتا معا لأن ذلك كان قبل نزول آية الحجاب
(9/236)

فكانوا يجتمعون، ولولا وثوق سعد بن الربيع من كل منهما بالرضا ما جزم بذلك. وقال ابن المنير: لا يستلزم المواعدة بين الرجلين وقوع المواعدة بين الأجنبي والمرأة، لأنها إذا منع وهي في العدة من خطبتها تصريحا ففي هذا يكون بطريق الأولى لأنها إذا طلقت دخلت العدة قطعا، قال: ولكنها وإن اطلعت على ذلك فهي بعد انقضاء عدتها بالخيار، والنهي إنما وقع عن المواعدة بين الأجنبي والمرأة أو وليها لا مع أجنبي آخر. وفيه جواز نظر الرجل إلى المرأة قبل أن يتزوجها. "تنبيه": حقه أن يذكر في مكانه من كتاب الأدب، لكن تعجلته هنا لتكميل فوائد الحديث، وذلك أن البخاري ترجم في كتاب الأدب "باب الإخاء والحلف" ثم ساق حديث الباب من طريق يحيى بن سعيد القطان عن حميد واختصره فاقتصر منه على قوله: "عن أنس قال: لما قدم علينا عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أولم ولو بشاة" فرأى ذلك المحب الطبري فظن أنه حديث مستقل فترجم في أبواب الوليمة: ذكر الوليمة للإخاء، ثم ساق هذا الحديث بهذا اللفظ وقال: أخرجه البخاري. وكون هذا طرفا من حديث الباب لا يخفى على من له أدنى ممارسة بهذا الفن، والبخاري يصنع ذلك كثيرا، والأمر لعبد الرحمن بن عوف بالوليمة إنما كان لأجل الزواج لا لأجل الإخاء، وقد تعرض المحب لشيء من ذلك لكنه أبداه احتمالا، ولا يحتمل جريان هذا الاحتمال ممن يكون محدثا، فالله أعلم بالصواب. حديث: "ما أولم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من نسائه ما أولم على زينب" هي بنت جحش كما في الباب الذي بعده، وحماد المذكور في إسناده هو ابن زيد وهذا الذي ذكره بحسب الاتفاق لا التحديد كما سأبينه في الباب الذي بعد، وقد يؤخذ من عبارة صاحب "التنبيه" من الشافعية أن الشاة حد لأكثر الوليمة لأنه قال: وأكملها شاة، لكن نقل عياض الإجماع على أنه لا حد لأكثرها. وقال ابن أبي عصرون: أقلها للموسر شاة، وهذا موافق لحديث عبد الرحمن بن عوف الماضي وقد تقدم ما فيه. قوله: "حدثنا عبد الوارث" في رواية الكشميهني: "عن عبد الوارث" وشعيب هو ابن الحبحاب، وقد تقدم شرح الحديث في "باب من جعل عتق الأمة صداقها" وقوله في آخره: "وأولم عليها بحيس" تقدم في "باب اتخاذ السراري" من طريق حميد عن أنس "أنه أمر بالأنطاع فألقى فيها من التمر والأقط والسمن فكانت وليمته" ولا مخالفة بينهما لأن هذه من أجزاء الحيس، قال أهل اللغة: الحيس يؤخذ التمر فينزع نواه ويخلط بالأقط أو الدقيق أو السويق ا ه. ولو جعل فيه السمن لم يخرج عن كونه حيسا. قوله: "زهير" هو ابن معاوية الجعفي. قوله: "عن بيان" هو ابن بشر الأحمسي، ووقع في رواية ابن خزيمة عن موسى بن عبد الرحمن المسروقي عن مالك بن إسماعيل شيخ البخاري فيه عن زهير "حدثنا بيان". قوله: "بامرأة" يغلب على الظن أنها زينب بنت جحش لما تقدم قريبا في رواية أبي عثمان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه يدعو رجالا إلى الطعام، ثم تبين ذلك واضحا من رواية الترمذي لهذا الحديث تاما من طريق أخرى عن بيان بن بشر فزاد بعد قوله إلى الطعام "فلما أكلوا وخرجوا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى رجلين جالسين" فذكر قصة نزول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية، وهذا في قصة زينب بنت جحش لا محالة كما تقدم سياقه مطولا وشرحه في تفسير الأحزاب
(9/237)