بَاب الْعَزْلِ
 
5207- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
[الحديث 5207- طرفاه في: 5208، 5209]
5028- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ"
5209- وَعَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ"
5210- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ أَصَبْنَا سَبْيًا فَكُنَّا نَعْزِلُ فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ قَالَهَا ثَلاَثًا مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَّ هِيَ كَائِنَةٌ"
قوله: "باب العزل" أي النزع بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج، والمراد هنا بيان حكمه وذكر فيه حديثين. قوله: "يحيى بن سعيد" هو القطان. قوله: "عن ابن جريج عن عطاء عن جابر: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية أحمد عن بن يحيى بن سعيد الأموي عن ابن جريج عن عطاء أنه "سمع جابرا سئل عن العزل فقال: كنا نصنعه". قوله: "حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان" هو ابن عيينة" قال قال عمرو "هو ابن دينار" أخبرني عطاء أنه سمع جابرا يقول "هذا مما نزل فيه عمرو بن دينار، فإنه سمع الكثير من جابر نفسه؛ ثم أدخل في هذا بينهما واسطة، وقد تواردت الروايات من أصحاب سفيان على ذلك إلا ما وقع في "مسند أحمد" في النسخ المتأخرة فإنه ليس في الإسناد عطاء، لكنه أخرجه أبو نعيم من طريق المسند بإثباته وهو المعتمد. قوله: "كنا نعزل والقرآن ينزل، وعن عمرو عن عطاء عن جابر كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل" وقع في رواية الكشميهني: "كان يعزل" بضم أوله وفتح الزاي على البناء للمجهول، وكأن ابن عيينة حدث به مرتين: فمرة ذكر فيها الأخبار والسماع فلم يقل فيها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرة ذكره بالعنعنة فذكرها، وقد أخرجه الإسماعيلي من طرق عن سفيان صرح فيها بالتحديث قال: "حدثنا عمرو بن دينار" وزاد ابن أبي عمر في روايته عن سفيان "على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وزاد إبراهيم بن موسى في روايته عن سفيان أنه قال حين روى هذا الحديث: "أي لو كان حراما لنزل فيه:" وقد أخرج مسلم هذه الزيادة عن إسحاق بن راهويه عن سفيان فساقه بلفظ: "كنا نعزل والقرآن ينزل" قال سفيان: لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن، فهذا ظاهر في أن سفيان قاله استنباطا، وأوهم كلام صاحب "العمدة" ومن تبعه أن هذه الزيادة من نفس الحديث فأدرجها، وليس الأمر كذلك فإني تتبعته من المسانيد فوجدت أكثر رواته عن سفيان لا يذكرون هذه الزيادة، وشرحه ابن دقيق العيد على ما وقع
(9/305)

في "العمدة" فقال: استدلال جابر بالتقرير من الله غريب، ويمكن أن يكون استدل بتقرير الرسول لكنه مشروط بعلمه بذلك انتهى. ويكفي في علمه به قول الصحابي إنه فعله في عهده، والمسألة مشهورة في الأصول وفي علم الحديث وهي أن الصحابي إذا أضافه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حكم الرفع عند الأكثر، لأن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره لتوفر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الأحكام، وإذا لم يضفه فله حكم الرفع عند قوم، وهذا من الأول فإن جابرا صرح بوقوعه في عهده صلى الله عليه وسلم وقد وردت عدة طرق تصرح باطلاعه على ذلك، والذي يظهر لي أن الذي استنبط ذلك سواء كان هو جابرا أو سفيان أراد بنزول القرآن ما يقرأ، أعم من المتعبد بتلاوته أو غيره مما يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه يقول: فعلناه في زمن التشريع ولو كان حراما لم نقر عليه، وإلى ذلك يشير قول ابن عمر "كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا هيبة أن ينزل فينا شيء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم تكلمنا وانبسطنا" أخرجه البخاري. وقد أخرجه مسلم أيضا من طريق أبي الزبير عن جابر قال: "كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا" ومن وجه آخر عن أبي الزبير عن جابر "أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي جارية وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل، فقال: اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها. فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت، قال: قد أخبرتك" ووقعت هذه القصة عنده من طريق سفيان بن عيينة بإسناد له آخر إلى جابر وفي آخره: "فقال أنا عبد الله ورسوله" وأخرجه أحمد وابن ماجه وابن أبي شيبة بسند آخر على شرط الشيخين بمعناه، ففي هذه الطرق ما أغنى عن الاستنباط، فإن في إحداها التصريح باطلاعه صلى الله عليه وسلم وفي الأخرى إذنه في ذلك وإن كان السياق يشعر بأنه خلاف الأولى كما سأذكر البحث فيه. قوله: "جويرية" هو ابن أسماء الضبعي يشارك مالكا في الرواية عن نافع وتفرد عنه بهذا الحديث وبغيره، وهو من الثقات الأثبات، قال الدار قطني بعد أن أخرجه من طريقه: صحيح غريب تفرد به جويرية عن مالك. قلت: ولم أره إلا من رواية ابن أخيه عبد الله بن محمد بن أسماء عنه. قوله: "عن الزهري" لمالك فيه إسناد آخر أخرجه المصنف في العتق، وأبو داود وابن حبان من طريق عنه عن ربيعة عن محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز، وكذا هو في "الموطأ". قوله:" عن ابن محيريز" بحاء مهملة ثم راء ثم زاي مصغرا، اسمه عبد الله، ووقع كذلك في رواية يونس كما سيأتي في القدر عن الزهري "أخبرني عبد الله بن محيريز الجمحي" وهو مدني سكن الشام، ومحيريز أبوه هو ابن جنادة بن وهب وهو من رهط أبي محذورة المؤذن وكان يتيما في حجره، ووافق مالكا على هذا السند شعيب كما مضى في البيوع، ويونس كما سيأتي في القدر، وعقيل والزبيدي كلاهما عند النسائي، وخالفهم معمر فقال: "عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد" أخرجه النسائي، وخالف الجميع إبراهيم بن سعد فقال: "عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي سعيد" أخرجه النسائي أيضا، قال النسائي: رواية مالك ومن وافقه أولى بالصواب. قوله: "عن أبي سعيد" في رواية يونس "أن أبا سعيد الخدري أخبره" وفي رواية ربيعة في المغازي "عن محمد ابن يحيى بن حبان عن ابن محيريز أنه قال: دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه فسألته عن العزل" كذا عند البخاري، ووقع عند مسلم من هذا الوجه "دخلت أنا وأبو صرمة على أبي سعيد فسأله أبو صرمة فقال: يا أبا سعيد هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر العزل" ؟ وأبو صرمة بكسر المهملة وسكون الراء اسمه مالك وقيل قيس صحابي مشهور من الأنصار، وقد وقع في رواية للنسائي من طريق الضحاك ابن
(9/306)

عثمان "عن محمد بن يحيى عن ابن محيريز عن أبي سعيد وأبي صرمة قالا: أصبنا سبايا" والمحفوظ الأول. قوله: "أصبنا سبيا" في رواية شعيب في البيوع ويونس المذكورة أنه "بينما هو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم:" زاد يونس "جاء رجل من الأنصار" وفي رواية ربيعة المذكورة "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فسبينا كرائم العرب، وطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل، فقلنا نفعل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا لا نسأله، فسألناه". قوله: "فكنا نعزل" في رواية يونس وشعيب فقال: "إنا نصيب سبيا ونحب المال فكيف ترى في العزل" ووقع عند مسلم من طريق عبد الرحمن بن بشر "عن أبي سعيد قال: ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وما ذلكم؟ قالوا: الرجل تكون له المرأة ترضع له فيصيب منها ويكره أن تحمل منه، والرجل تكون له الأمة فيصيب منها ويكره أن تحمل منه، ففي هذه الرواية إشارة إلى أن سبب العزل شيئان أحدهما كراهة مجيء الولد من الأمة وهو إما أنفة من ذلك وإما لئلا يتعذر بيع الأمة إذا صارت أم ولد وإما لغير ذلك كما سأذكره بعده، والثاني كراهة أن تحمل الموطوءة وهي ترضع فيضر ذلك بالولد المرضع. قوله: "أوإنكم لتفعلون" ؟ هذا الاستفهام يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم ما كان اطلع على فعلهم ذلك، ففيه تعقب على من قال إن قول الصحابي كنا نفعل كذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوع معتلا بأن الظاهر اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، ففي هذا الخبر أنهم فعلوا العزل ولم يعلم به حتى سألوه عنه، نعم للقائل أن يقول كانت دواعيهم متوفرة على سؤاله عن أمور الدين، فإذا فعلوا الشيء وعلموا أنه لم يطلع عليه بادرا إلى سؤاله عن الحكم فيه فيكون الظهور من هذه الحيثية. ووقع في رواية ربيعة "لا عليكم أن لا تفعلوا"، ووقع في رواية مسلم من طريق أخرى عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن بشر عن أبي سعيد "لا عليكم أن لا تفعلوا ذلك" قال ابن سيرين: قوله: "لا عليكم" أقرب إلى النهي، وله من طريق ابن عون عن محمد بن سيرين نحوه دون قول محمد، قال ابن عون فحدثت به الحسن فقال: والله لكأن هذا زجر، قال القرطبي: كأن هؤلاء فهموا من "لا" النهي عما سألوه عنه فكأن عندهم بعد "لا" حذفا تقديره لا تعزلوا وعليكم أن لا تفعلوا، ويكون قوله: "وعليكم إلخ" تأكيدا للنهي. وتعقب بأن الأصل عدم هذا التقدير، وإنما معناه: ليس عليكم أن تتركوا، وهو الذي يساوي أن لا تفعلوا. وقال غيره: قوله: "لا عليكم أن لا تفعلوا" أي لا حرج عليكم أن لا تفعلوا، ففيه نفي الحرج عن عدم الفعل فأفهم ثبوت الحرج في فعل العزل، ولو كان المراد نفي الحرج عن الفعل لقال: لا عليكم أن تفعلوا إلا إن ادعى أن "لا" زائدة فيقال الأصل عدم ذلك؛ ووقع في رواية مجاهد الآتية في التوحيد تعليقا ووصلها مسلم وغيره: "ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ولم يفعل ذلك أحدكم" ؟ ولم يقل لا يفعل ذلك، فأشار إلى أنه لم يصرح لهم بالنهي، وإنما أشار أن الأولى ترك ذلك، لأن العزل إنما كان خشية حصول الولد فلا فائدة في ذلك، لأن الله إن كان قدر خلق الولد لم يمنع العزل ذلك فقد يسبق الماء ولا يعشر العازل فيحصل العلوق ويلحقه الولد ولا راد لما قضى الله، والفرار من حصول الولد يكون لأسباب: منها خشية علوق الزوجة الأمة لئلا يصير الولد رقيقا، أو خشية دخول الضرر على الولد المرضع إذا كانت الموطوءة ترضعه، أو فرارا من كثرة العيال إذا كان الرجل مقلا فيرغب عن قلة الولد لئلا يتضرر بتحصيل الكسب، وكل ذلك لا يغني شيئا. وقد أخرج أحمد والبزار وصححه ابن حبان من حديث أنس "أن رجلا سأل عن العزل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولدا" وبه شاهدان في "الكبير للطبراني" عن
(9/307)

ابن عباس وفي "الأوسط" له عن ابن مسعود، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب القدر إن شاء الله تعالى، وليس في جميع الصور التي يقع العزل بسببها ما يكون العزل فيه راجحا سوى الصورة المتقدمة من عند مسلم في طريق عبد الرحمن بن بشر عن أبي سعيد وهي خشية أن يضر الحمل بالولد المرضع لأنه مما جرب فضر غالبا، لكن وقع في بقية الحديث عند مسلم أن العزل بسبب ذلك لا يفيد لاحتمال أن يقع الحمل بغير الاختيار، ووقع عند مسلم في حديث أسامة بن زيد "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي شفقة على ولدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان كذلك فلا، ما ضر ذلك فارس ولا الروم". وفي العزل أيضا إدخال ضرر على المرأة لما فيه من تفويت لذتها. وقد اختلف السلف في حكم العزل قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها، لأن الجماع من حقها، ولها المطالبة به وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل. ووافقه في نقل هذا الإجماع ابن هبيرة، وتعقب بأن المعروف عند الشافعية أن المرأة لا حق لها في الجماع أصلا، ثم في خصوص هذه المسألة عند الشافعية خلاف مشهور في جواز العزل عن الحرة بغير إذنها، قال الغزالي وغيره: يجوز، وهو المصحح عند المتأخرين، واحتج الجمهور لذلك بحديث عن عمر أخرجه أحمد وابن ماجه بلفظ: "نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها" وفي إسناده ابن لهيعة، والوجه الآخر للشافعية الجزم بالمنع إذا امتنعت، وفيما إذا رضيت وجهان أصحهما الجواز، وهذا كله في الحرة وأما الأمة فإن كانت زوجة فهي مرتبة على الحرة إن جاز فيها ففي الأمة أولى، وإن امتنع فوجهان أصحهما الجواز تحرزا من إرقاق الولد، وإن كانت سرية جاز بلا خلاف عندهم إلا في وجه حكاه الروياني في المنع مطلقا كمذهب ابن حزم، وإن كانت السرية مستولدة فالراجح الجواز فيه مطلقا لأنها ليست راسخة في الفراش، وقيل حكمها حكم الأمة المزوجة. هذا واتفقت المذاهب الثلاثة على أن الحرة لا يعزل عنها إلا بإذنها وأن الأمة يعزل عنها بغير إذنها، واختلفوا في المزوجة فعند المالكية يحتاج إلى إذن سيدها، وهو قول أبي حنيفة، والراجح عن محمد. وقال أبو يوسف وأحمد: الإذن لها، وهي رواية عن أحمد، وعنه بإذنها، وعنه يباح العزل مطلقا، وعنه المنع مطلقا. والذي احتج به من جنح إلى التفصيل لا يصح إلا عند عبد الرزاق عنه بسند صحيح عن ابن عباس قال: تستأمر الحرة في العزل ولا تستأمر الأمة السرية فإن كانت أمة تحت حر فعليه أن يستأمرها وهذا نص في المسألة، فلو كان مرفوعا لم يجز العدول عنه. وقد استنكر ابن العربي القول بمنع العزل عمن يقول بأن المرأة لا حق لها في الوطء، ونقل عن مالك أن لها حق المطالبة به إذا قصد بتركه إضرارها. وعن الشافعي وأبي حنيفة لا حق لها فيه إلا في وطئة واحدة يستقر بها المهر، قال فإذا كان الأمر كذلك فكيف يكون لها حق في العزل، فإن خصوه بالوطئة الأولى فيمكن وإلا فلا يسوغ فيما بعد ذلك إلا على مذهب مالك بالشرط المذكور ا هـ. وما نقله عن الشافعي غريب، والمعروف عند أصحابه أنه لا حق لها أصلا، نعم جزم ابن حزم بوجوب الوطء وبتحريم العزل، واستند إلى حديث جذامة بنت وهب "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل فقال : ذلك الوأد الخفي" أخرجه مسلم، وهذا معارض بحديثين أحدهما أخرجه الترمذي والنسائي وصححه من طريق معمر عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر قال: "كانت لنا جواري وكنا نعزل، فقالت اليهود إن تلك الموءودة الصغرى، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : كذبت اليهود، لو أراد الله خلقه لم تستطع رده" وأخرجه النسائي من طريق هشام وعلي بن المبارك وغيرهما عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي مطيع بن رفاعة عن أبي
(9/308)

سعيد نحوه، ومن طريق أبي عامر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحوه، ومن طريق سليمان الأحول أنه سمع عمرو بن دينار يسأل أبا سلمة بن عبد الرحمن عن العزل فقال: زعم أبو سعيد، فذكر نحوه، قال فسألت أبا سلمة أسمعته من أبي سعيد؟ قال لا، ولكن أخبرني رجل عنه. والحديث الثاني في النسائي من وجه آخر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وهذه طرق يقوى بعضها ببعض، وجمع بينها وبين حديث جذامة بحمل حديث جذامة على التنزيه وهذه طريقة البيهقي، ومنهم من ضعف حديث جذامة بأنه معارض بما هو أكثر طرقا منه، وكيف يصرح بتكذيب اليهود في ذلك ثم يثبته؟ وهذا دفع للأحاديث الصحيحة بالتوهم، والحديث صحيح لا ريب فيه والجمع ممكن، ومنهم من ادعى أنه منسوخ، ورد بعدم معرفة التاريخ. وقال الطحاوي: يحتمل أن يكون حديث جذامة على وفق ما كان عليه الأمر أولا من موافقة أهل الكتاب، وكان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه، ثم أعلمه الله بالحكم فكذب اليهود فيما كانوا يقولونه. وتعقبه ابن رشد ثم ابن العربي بأنه لا يجزم بشيء تبعا لليهود ثم يصرح بتكذيبهم فيه، ومنهم من رجح حديث جذامة بثبوته في الصحيح، وضعف مقابله بأنه حديث واحد اختلف في إسناده فاضطرب، ورد بأن الاختلاف إنما يقدح حيث لا يقوى بعض الوجوه فمتى قوى بعضها عمل به، وهو هنا كذلك والجمع ممكن. ورجح ابن حزم العمل بحديث جذامة بأن أحاديث غيرها توافق أصل الإباحة وحديثها يدل على المنع قال: فمن ادعى أنه أبيح بعد أن منع فعليه البيان. وتعقب بأن حديثها ليس صريحا في المنع إذ لا يلزم من تسميته وأدا خفيا على طريق التشبيه أن يكون حراما، وخصه بعضهم بالعزل عن الحامل لزوال المعنى الذي كان يحذره الذي يعزل من حصول الحمل، لكن فيه تضييع الحمل لأن المني يغذوه فقد يؤدي العزل إلى موته أو إلى ضعفه المفضي إلى موته فيكون وأدا خفيا، وجمعوا أيضا بين تكذيب اليهود في قولهم الموءودة الصغرى وبين إثبات كونه وأدا خفيا في حديث جذامة بأن قولهم الموءودة الصغرى يقتضي أنه وأد ظاهر، لكنه صغير بالنسبة إلى دفن المولود بعد وضعه حيا، فلا يعارض قوله إن العزل وأد خفي فإنه يدل على أنه ليس في حكم الظاهر أصلا فلا يترتب عليه حكم، وإنما جعله وأدا من جهة اشتراكهما في قطع الولادة. وقال بعضهم: قوله الوأد الخفي ورد على طريق التشبيه لأنه قطع طريق الولادة قبل مجيئه فأشبه قتل الولد بعد مجيئه، قال ابن القيم: الذي كذبت فيه اليهود زعمهم أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلا وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد، فأكذبهم وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه، وإذا لم يرد خلقه لم يكن وأدا حقيقة، وإنما سماه وأدا خفيا في حديث جذامة لأن الرجل إنما يعزل هربا من الحمل فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد، لكن الفرق بينهما أن الوأد ظاهر بالمباشرة اجتمع فيه القصد والفعل، والعزل يتعلق بالقصد صرفا فلذلك وصفه بكونه خفيا، فهذه عدة أجوبة يقف معها الاستدلال بحديث جذامة على المنع. وقد جنح إلى المنع من الشافعية ابن حبان فقال في صحيحه "ذكر الخبر الدال على أن هذا الفعل مزجور عنه لا يباح استعماله" ثم ساق حديث أبي ذر رفعه: "ضعه في حلاله وجنبه حرامه وأقرره، فإن شاء الله أحياه وإن شاء أماته ولك أجر" ا هـ. ولا دلالة فيما ساقه على ما ادعاه من التحريم بل هو أمر إرشاد لما دلت عليه بقية الأخبار والله أعلم. ومن عند عبد الرزاق وجه آخر عن ابن عباس أنه أنكر أن يكون العزل وأدا وقال: المني يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم يكسى لحما، قال: والعزل قبل ذلك كله. وأخرج الطحاوي من طريق عبد الله بن عدي بن
(9/309)

الخيار عن علي نحوه في قصة حرب عند عمر وسنده جيد. واختلفوا في علة النهي عن العزل: فقيل لتفويت حق المرأة، وقيل لمعاندة القدر، وهذا الثاني هو الذي يقتضيه معظم الأخبار الواردة في ذلك، والأول مبني على صحة الخبر المفرق بين الحرة والأمة. وقال إمام الحرمين: موضع المنع أنه ينزع بقصد الإنزال خارج الفرج خشية العلوق ومتى فقد ذلك لم يمنع، وكأنه راعى سبب المنع فإذا فقد بقي أصل الإباحة فله أن ينزع متى شاء حتى لو نزع فأنزل خارج الفرج اتفاقا لم يتعلق به النهي والله أعلم. وينتزع من حكم العزل حكم معالجة المرأة إسقاط النطفة قبل نفخ الروح، فمن قال بالمنع هناك ففي هذه أولى، ومن قال بالجواز يمكن أن يلتحق به هذا، ويمكن أن يفرق بأنه أشد لأن العزل لم يقع فيه تعاطي السبب ومعالجة السقط تقع بعد تعاطي السبب، ويلتحق بهذه المسألة تعاطي المرأة ما يقطع الحبل من أصله، وقد أفتى بعض متأخري الشافعية بالمنع، وهو مشكل على قولهم بإباحة العزل مطلقا. والله أعلم. واستدل بقوله في حديث أبي سعيد "وأصبنا كرائم العرب وطالت علينا العزبة وأردنا أن نستمتع وأحببنا الفداء" لمن أجاز استرقاق العرب وقد تقدم بيانه في "باب من ملك من العرب رقيقا" في كتاب العتق، ولمن أجاز وطء المشركات بملك اليمين وإن لم يكن من أهل الكتاب لأن بني المصطلق كانوا أهل أوثان، وقد انفصل عنه من منع باحتمال أن يكونوا ممن دان بدين أهل الكتاب وهو باطل، وباحتمال أن يكون ذلك في أول الأمر ثم نسخ، وفيه نظر إذ النسخ لا يثبت بالاحتمال، وباحتمال أن تكون المسبيات أسلمن قبل الوطء وهذا لا يتم مع قوله في الحديث وأحببنا الفداء فإن المسلمة لا تعاد للمشرك، نعم يمكن حمل الفداء على معنى أخص وهو أنهن يفدين أنفسهن فيعتقن من الرق، ولا يلزم منه إعادتهن للمشركين، وحمله بعضهم على إرادة الثمن لأن الفداء المتخوف من فوته هو الثمن، ويؤيد هذا الحمل قوله في الرواية الأخرى "فقال يا رسول الله إنا أصبنا سبيا ونحب الأثمان فكيف ترى في العزل" ؟ وهذا أقوى من جميع ما تقدم، والله أعلم.
(9/310)