باب من جوز الطلاق الثلاث
 
بَاب مَنْ أَجَازَ طَلاَقَ الثَّلاَثِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي مَرِيضٍ طَلَّقَ لاَ أَرَى أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَتُهُ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ تَرِثُهُ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ تَزَوَّجُ إِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ الْآخَرُ فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ
5259- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلاَنِيَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الأَنْصَارِيِّ فَقَالَ لَهُ يَا عَاصِمُ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عَاصِمٌ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَاصِمٌ لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا قَالَ عُوَيْمِرٌ وَاللَّهِ لاَ أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسْطَ النَّاسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا قَالَ سَهْلٌ فَتَلاَعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ عُوَيْمِرٌ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا فَطَلَّقَهَا ثَلاَثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّةَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ"
5260- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلاَقِي وَإِنِّي نَكَحْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ الْقُرَظِيَّ وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ لاَ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ"
(9/361)

5261- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاَثًا فَتَزَوَّجَتْ فَطَلَّقَ فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَحِلُّ لِلْأَوَّلِ قَالَ لاَ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الأَوَّلُ"
قوله: "باب من جوز الطلاق الثلاث" كذا لأبي ذر، وللأكثر "من أجاز". وفي الترجمة إشارة إلى أن من السلف من لم يجز وقوع الطلاق الثلاث، فيحتمل أن يكون مراده بالمنع من كره البينونة الكبرى، وهي بإيقاع الثلاث أعم من أن تكون مجموعة أو مفرقة، ويمكن أن يتمسك له بحديث: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" وقد تقدم في أوائل الطلاق. وأخرج سعيد بن منصور عن أنس "أن عمر كان إذا أتى برجل طلق امرأته ثلاثا أوجع ظهره" وسنده صحيح. ويحتمل أن يكون مراده بعدم الجواز من قال لا يقع الطلاق إذا أوقعها مجموعة للنهي عنه وهو قول للشيعة وبعض أهل الظاهر، وطرد بعضهم ذلك في كل طلاق منهي كطلاق الحائض وهو شذوذ، وذهب كثير منهم إلى وقوعه مع منع جوازه، واحتج له بعضهم بحديث محمود بن لبيد قال: "أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم" ؟ الحديث أخرجه النسائي ورجاله ثقات، لكن محمود بن لبيد ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت له منه سماع، وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية، وقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع، وقد قال النسائي بعد تخريجه: لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة بن بكير يعني ابن الأشج عن أبيه ا هـ. ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل إنه لم يسمع من أبيه، وعلى تقدير صحة حديث محمود فليس فيه بيان أنه هل أمضى عليه الثلاث مع إنكاره عليه إيقاعها مجموعة أو لا؟ فأقل أحواله أن يدل على تحريم ذلك وإن لزم، وقد تقدم في الكلام على حديث ابن عمر في طلاق الحائض "أنه قال لمن طلق ثلاثا مجموعة: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك" وله ألفاظ أخرى نحو هذه عند عبد الرزاق وغيره. وأخرج أبو داود بسند صحيح من طريق مجاهد قال: "كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا، فسكت حتى ظننت أنه سيردها إليه فقال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس، إن الله قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك" وأخرج أبو داود له متابعات عن ابن عباس بنحوه. ومن القائلين بالتحريم واللزوم من قال: إذا طلق ثلاثا مجموعة وقعت واحدة، وهو قول محمد بن إسحاق صاحب المغازي، واحتج بما رواه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: "طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: كيف طلقتها؟ قال: ثلاثا في مجلس واحد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما تلك واحدة، فارتجعها إن شئت. فارتجعها" وأخرجه أحمد وأبو يعلى وصححه من طريق محمد ابن إسحاق. وهذا الحديث نص في المسألة لا يقبل التأويل الذي في غيره من الروايات الآتي ذكرها. وقد أجابوا عنه بأربعة أشياء: أحدها أن محمد بن إسحاق وشيخه مختلف فيهما، وأجيب بأنهم احتجوا في عدة من الأحكام بمثل هذا الإسناد كحديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على أبي العاص بن الربيع زينب ابنته بالنكاح الأول" وليس كل مختلف فيه مردودا. والثاني معارضته بفتوى ابن عباس بوقوع الثلاث كما تقدم من رواية مجاهد وغيره؛ فلا يظن بابن
(9/362)

عباس أنه كان عنده هذا الحكم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يفتي بخلافه إلا بمرجح ظهر له، وراوي الخبر أخبر من غيره بما روى. وأجيب بأن الاعتبار برواية الراوي لا برأيه لما يطرق رأيه من احتمال النسيان وغير ذلك، وأما كونه تمسك بمرجح فلم ينحصر في المرفوع لاحتمال التمسك بتخصيص أو تقييد أو تأويل، وليس قول مجتهد حجة على مجتهد آخر. الثالث أن أبا داود رجح أن ركانة إنما طلق امرأته البتة كما أخرجه هو من طريق آل بيت ركانة، وهو تعليل قوي لجواز أن يكون بعض رواته حمل البتة على الثلاث فقال طلقها ثلاثا، فهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس. الرابع أنه مذهب شاذ فلا يعمل به، وأجيب بأنه نقل عن علي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير مثله، نقل ذلك ابن مغيث في "كتاب الوثائق" له وعزاه لمحمد بن وضاح، ونقل الغنوي ذلك عن جماعة من مشايخ قرطبة كمحمد بن تقي بن مخلد ومحمد بن عبد السلام الخشني وغيرهما، ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس كعطاء وطاوس وعمرو بن دينار. ويتعجب من ابن التين حيث جزم بأن لزوم الثلاث لا اختلاف فيه، وإنما الاختلاف في التحريم مع ثبوت الاختلاف كما ترى، ويقوى حديث ابن إسحاق المذكور ما أخرجه مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم" ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه "أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس نعم" ومن طريق حماد بن زيد عن أيوب عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس "أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم" وهذه الطريق الأخيرة أخرجها أبو داود، لكن لم يسم إبراهيم بن ميسرة وقال بدله "عن غير واحد" ولفظ المتن "أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة" الحديث، فتمسك بهذا السياق من أعل الحديث وقال: إنما قال ابن عباس ذلك في غير المدخول بها، وهذا أحد الأجوبة عن هذا الحديث وهي متعددة، وهو جواب إسحاق بن راهويه وجماعة، وبه جزم زكريا الساجي من الشافعية، ووجهوه بأن غير المدخول بها تبين إذا قال لها زوجها أنت طالق، فإذا قال ثلاثا لغا العدد لوقوعه بعد البينونة. وتعقبه القرطبي بأن قوله أنت طالق ثلاثا كلام متصل غير منفصل، فكيف يصح جعله كلمتين وتعطى كل كلمة حكما؟ وقال النووي: أنت طالق معناه أنت ذات الطلاق، وهذا اللفظ يصح تفسيره بالواحدة وبالثلاث وغير ذلك. الجواب الثاني دعوى شذوذ رواية طاوس، وهي طريقة البيهقي، فإنه ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم الثلاث ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ويفتي بخلافه، فيتعين المصير إلى الترجيح، والأخذ بقول الأكثر أولى من الأخذ بقول الواحد إذا خالفهم. وقال ابن العربي: هذا حديث مختلف في صحته، فكيف يقدم على الإجماع؟ قال: ويعارضه حديث محمود بن لبيد - يعني الذي تقدم أن النسائي أخرجه - فإن فيه التصريح بأن الرجل طلق ثلاثا مجموعة ولم يرده النبي صلى الله عليه وسلم بل أمضاه، كذا قال، وليس في سياق الخبر تعرض لإمضاء ذلك ولا لرده. الجواب الثالث دعوى النسخ، فنقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: يشبه أن يكون ابن عباس علم شيئا نسخ ذلك، قال البيهقي: ويقويه ما
(9/363)

أخرجه أبو داود من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك. وقد أنكر المازري ادعاء النسخ فقال: زعم بعضهم أن هذا الحكم منسوخ وهو غلط فإن عمر لا ينسخ، ولو نسخ - وحاشاه - لبادر الصحابة إلى إنكار. وإن أراد القائل أنه نسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمتنع لكن يخرج عن ظاهر الحديث، لأنه لو كان كذلك لم يجز للراوي أن يخبر ببقاء الحكم في خلافة أبي بكر وبعض خلافة عمر. فإن قيل فقد يجمع الصحابة ويقبل منهم ذلك، قلنا إنما يقبل ذلك لأنه يستدل بإجماعهم على ناسخ، وأما أنهم ينسخون من تلقاء أنفسهم فمعاذ الله لأنه إجماع على الخطأ وهم معصومون عن ذلك. فإن قيل فلعل النسخ إنما ظهر في زمن عمر، قلنا: هذا أيضا غلط لأنه يكون قد حصل الإجماع على الخطأ في زمن أبي بكر، وليس انقراض العصر شرطا في صحة الإجماع على الراجح. قلت: نقل النووي هذا ا الفصل في شرح مسلم وأقره، وهو متعقب في مواضع: أحدها أن الذي ادعى نسخ الحكم لم يقل إن عمر هو الذي نسخ حتى يلزم منه ما ذكر، وإنما قال ما تقدم يشبه أن يكون علم شيئا من ذلك نسخ، أي اطلع على ناسخ للحكم الذي رواه مرفوعا، ولذلك أفتى بخلافه. وقد سلم المازري في أثناء كلامه أن جماعهم يدل على ناسخ، وهذا هو مراد من ادعى النسخ. الثاني إنكاره الخروج عن الظاهر عجيب، فإن الذي يحاول الجمع بالتأويل يرتكب خلاف الظاهر حتما. الثالث أن تغليطه من قال المراد ظهور النسخ عجيب أيضا، لأن المراد بظهوره انتشاره، وكلام ابن عباس أنه كان يفعل في زمن أبي بكر محمول على أن الذي كان يفعله من لم يبلغه النسخ فلا يلزم ما ذكر من إجماعهم على الخطأ، وما أشار إليه من مسألة انقراض العصر لا يجئ هنا، لأن عصر الصحابة لم ينقرض في زمن أبي بكر بل ولا عمر، فإن المراد بالعصر الطبقة من المجتهدين وهم في زمن أبي بكر وعمر بل وبعدهما طبقة واحدة. الجواب الرابع دعوى الاضطراب قال القرطبي في "المفهم" : وقع فيه مع الاختلاف على ابن عباس الاضطراب في لفظه، وظاهر سياقه يقتضي النقل عن جميعهم أن معظمهم كانوا يرون ذلك، والعادة في مثل هذا أن يفشو الحكم وينتشر فكيف ينفرد به واحد عن واحد؟ قال: فهذا الوجه يقتضي التوقف عن العمل بظاهره إن لم يقتض القطع ببطلانه. الجواب الخامس دعوى أنه ورد في صورة خاصة، فقال ابن سريج وغيره: يشبه أن يكون. ورد في تكرير اللفظ كأن يقول أنت طالق أنت طالق أنت طالق، وكانوا أولا على سلامة صدورهم يقبل منهم أنهم أرادوا التأكيد، فلما كثر الناس في زمن عمر وكثر فيهم الخداع ونحوه مما يمنع قبول من ادعى التأكيد حمل عمر اللفظ على ظاهر التكرار فأمضاه عليهم، وهذا الجواب ارتضاه القرطبي وقواه بقول عمر: إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، وكذا قال النووي إن هذا أصح الأجوبة. الجواب السادس تأويل قوله: "واحدة" وهو أن معنى قوله: "كأن الثلاث واحدة" إن الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يطلقون واحدة فلما كان زمن عمر كانوا يطلقون ثلاثا، ومحصله أن المعنى أن الطلاق الموقع في عهد عمر ثلاثا كان يوقع قبل ذلك واحدة لأنهم كانوا لا يستعملون الثلاث أصلا أو كانوا يستعملونها نادرا، وأما في عصر عمر فكثر استعمالهم لها، ومعنى قوله فأمضاه عليهم وأجازه وغير ذلك أنه صنع فيه من الحكم بإيقاع الطلاق ما كان يصنع قبله، ورجح هذا التأويل ابن العربي ونسبه إلى أبي زرعة الرازي، وكذا أورده البيهقي بإسناده الصحيح إلى أبي زرعة أنه قال: معنى هذا الحديث عندي أن ما تطلقون أنتم ثلاثا كانوا يطلقون واحدة، قال النووي: وعلى هذا فيكون الخبر وقع عن اختلاف عادة الناس خاصة لا عن تغير الحكم في الواحدة فالله أعلم. الجواب السابع
(9/364)

دعوى وقفه، فقال بعضهم: ليس في هذا السياق أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فيقره، والحجة إنما هي في تقريره. وتعقب بأن قول الصحابي "كنا نفعل كذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:" في حكم الرفع على الراجح حملا على أنه اطلع على ذلك فأقره لتوفر دواعيهم على السؤال عن جليل الأحكام وحقيرها. الجواب الثامن حمل قوله: "ثلاثا" على أن المراد بها لفظ البتة كما تقدم في حديث ركانة سواء. وهو من رواية ابن عباس أيضا، وهو قوي ويؤيده إدخال، البخاري في هذا الباب الآثار التي فيها البتة والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما وأن البتة إذا أطلقت حمل على الثلاث إلا إن أراد المطلق واحدة فيقبل، فكأن بعض رواته حمل لفظ البتة على الثلاث لاشتهار التسوية بينهما فرواها بلفظ الثلاث وإنما المراد لفظ البتة، وكانوا في العصر الأول يقبلون ممن قال أردت بالبتة الواحدة فلما كان عهد عمر أمضى الثلاث في ظاهر الحكم. قال القرطبي: وحجة الجمهور في اللزوم من حيث النظر ظاهرة جدا، وهو أن المطلقة ثلاثا لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعا، وما يتخيل من الفرق صوري ألغاه الشرع اتفاقا في النكاح والعتق والأقارير، فلو قال الولي أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد كما لو قال أنكحتك هذه وهذه وهذه، وكذا في العتق والإقرار وغير ذلك من الأحكام، واحتج من قال إن الثلاث إذا وقعت مجموعة حملت على الواحدة بأن من قال أحلف بالله ثلاثا لا يعد حلفه إلا يمينا واحدة، فليكن المطلق مثله. وتعقب باختلاف الصيغتين فإن المطلق ينشئ طلاق امرأته وقد جعل أمد طلاقها ثلاثا، فإذا قال أنت طالق ثلاثا فكأنه قال أنت طالق جميع الطلاق، وأما الحلف فلا أمد لعدد أيمانه فافترقا. وفي الجملة فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء، أعني قول جابر إنها كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحدا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما، وقد دل إجماعهم على وجود ناسخ وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق والله أعلم. وقد أطلت في هذا الموضع لالتماس من التمس ذلك مني والله المستعان. قوله: "لقول الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} قد استشكل وجه استدلال المصنف بهذه الآية على ما ترجم به من تجويز الطلاق الثلاث، والذي يظهر لي أنه كان أراد بالترجمة مطلق وجود الثلاث مفرقة كانت أو مجموعة، فالآية واردة على المانع لأنها دلت على مشروعية ذلك من غير نكير، وإن كان أراد تجويز الثلاث مجموعة وهو الأظهر فأشار بالآية إلى أنها مما احتج به المخالف للمنع من الوقوع لأن ظاهرها أن الطلاق المشروع لا يكون بالثلاث دفعة بل على الترتيب المذكور، فأشار إلى أن الاستدلال بذلك على منع جميع الثلاث غير متجه إذ ليس في السياق المنع من غير الكيفية المذكورة، بل انعقد الإجماع على أن إيقاع المرتين ليس شرطا ولا راجحا، بل اتفقوا على أن إيقاع الواحدة أرجح من إيقاع الثنتين كما تقدم تقريره في الكلام على حديث ابن عمر، فالحاصل أن مراده دفع دليل المخالف بالآية لا الاحتجاج بها لتجويز الثلاث، هذا الذي ترجح عندي. وقال الكرماني: وجه استدلاله بالآية أنه تعالى قال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فدل على جواز جمع الثنتين وإذا جاز جمع الثنتين دفعة جاز جمع الثلاث دفعة كذا، قال: وهو قياس مع وضوح الفارق، لأن جمع الثنتين لا يستلزم البينونة الكبرى بل تبقى له الرجعة إن كانت رجعية وتجديد العقد بغير
(9/365)

انتظار عدة إن كانت بائنا، بخلاف جمع الثلاث. ثم قال الكرماني: أو التسريح بإحسان عام يتناول إيقاع الثلاث دفعة. قلت: وهذا لا بأس به لكن التسريج في سياق الآية إنما هو فيما بعد إيقاع الثنتين فلا يتناول إيقاع الطلقات الثلاث، فإن معنى قوله تعالى :{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فيما ذكر أهل العلم بالتفسير أي أكثر الطلاق الذي يكون بعده الإمساك أو التسريح مرتان، ثم حينئذ إما أن يختار استمرار العصمة فيمسك الزوجة أو المفارقة فيسرحها بالطلقة الثالثة، وهذا التأويل نقله الطبري وغيره عن الجمهور، ونقلوا عن السدي والضحاك أن المراد بالتسريج في الآية ترك الرجعة حتى تنقضي العدة فتحصل البينونة، ويرجح الأول ما أخرجه الطبري وغيره من طريق إسماعيل بن سميع عن أبي رزين قال: "قال رجل: يا رسول الله الطلاق مرتان، فأين الثالثة؟ قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" وسنده حسن، لكنه مرسل لأن أبا رزين لا صحبة له، وقد وصله الدار قطني من وجه آخر عن إسماعيل فقال: "عن أنس" لكنه شاذ، والأول هو المحفوظ، وقد رجح الكيا الهراسي من الشافعية في كتاب "أحكام القرآن" له قول السدي، ودفع الخبر لكونه مرسلا، وأطال في تقرير ذلك بما حاصله أن فيه زيادة فائدة، وهي بيان حال المطلقة وأنها تبين إذا انقضت عدتها، قال: وتؤخذ الطلقة الثالثة من قوله تعالى:{فإن طلقها" ا هـ والأخذ بالحديث أولى فإنه مرسل حسن يعتضد بما أخرجه الطبري من حديث ابن عباس بسند صحيح قال: "إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في الثالثة، فإما أن يمسكها فيحسن صحبتها أو يسرحها فلا يظلمها من حقها شيئا" وقال القرطبي في تفسيره: ترجم البخاري على هذه الآية من أجاز الطلاق الثلاث لقوله تعالى :{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وهذه إشارة منه إلى أن هذا العدد إنما هو بطريق الفسحة لهم، فمن ضيق على نفسه لزمه، كذا قال ولم يظهر لي وجه اللزوم المذكور، والله المستعان. قوله: "وقال ابن الزبير: لا أرى أن ترث مبتوتة" كذا لأبي ذر، ولغيره: "مبتوتته" بزيادة ضمير للرجل، وكأنه حذف للعلم به، وهذا التعليق عن عبد الله بن الزبير وصله الشافعي وعبد الرزاق من طريق ابن أبي مليكة قال: سألت عبد الله بن الزبير عن الرجل يطلق امرأته فيبتها ثم يموت وهي في عدتها، قال: أما عثمان فورثها، وأما أنا فلا أرى أن أورثها لبينونته إياها. قوله: "وقال الشعبي ترثه" وصله سعيد بن منصور عن أبي عوانة عن مغيرة عن إبراهيم والشعبي في رجل طلق ثلاثا في مرضه قال: تعتد عدة المتوفي عنها زوجها وترثه ما كانت في العدة. قوله: "وقال ابن شبرمة" هو عبد الله قاضي الكوفة.قوله: "تزوج" بفتح أوله وضم آخره، وهو استفهام محذوف الأداة. قوله: "إذا انقضت العدة؟ قال: نعم" هذا ظاهره أن الخطاب دار بين الشعبي وابن شبرمة، لكن الذي رأيت في "سنن سعيد بن منصور" أنه كان مع غيره فقال سعيد: حدثنا حماد بن زيد عن أبي هاشم في الرجل يطلق امرأته وهو مريض إن مات في مرضه ذلك ورثته؟ فقال له ابن شبرمة: أرأيت إن انقضت العدة. قوله: "قال أرأيت إن مات الزوج الآخر فرجع عن ذلك" هكذا وقع عند البخاري مختصرا، والذي في رواية سعيد بن منصور المذكورة فقال ابن شبرمة: أتتزوج؟ قال: نعم. قال: فإن مات هذا ومات الأول أترث زوجين؟ قال: لا. فرجع إلى العدة فقال ترثه ما كانت في العدة. ولعله سقط ذكر الشعبي من الرواية. وأبو هاشم المذكور هو الرماني بضم الراء وتشديد الميم اسمه يحيى، وهو واسطي كان يتردد إلى الكوفة، وهو ثقة. ومحل المسألة المذكورة كتاب الفرائض، وإنما ذكرت هنا استطرادا. والمبتوتة بموحدة ومثناتين من قيل لها أنت طالق البتة وتطلق على من أبينت بالثلاث، ثم أورد المصنف في الباب ثلاثة أحاديث. الحديث الأول
(9/366)

حديث سهل ابن سعد في قصة المتلاعنين وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب اللعان، والغرض منه هنا قوله في آخر الحديث، "فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الحديث، وقد تعقب بأن المفارقة في الملاعنة وقعت بنفس اللعان فلم يصادف تطليقه إياها ثلاثا موقعا، وأجيب بأن الاحتجاج به من كون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه إيقاع الثلاث مجموعة، فلو كان ممنوعا لأنكره، ولو وقعت الفرقة بنفس اللعان. حديث عائشة في قصة رفاعة القرظي وامرأته، سيأتي شرحه مستوفى في "باب إذا طلقها ثلاثا ثم تزوجت بعد العدة زوجا غيره فلم يمسها" وشاهد الترجمة منه قوله: "فبت طلاقي" فإنه ظاهر في أنه قال لها أنت طالق البتة، ويحتمل أن يكون المراد أنه طلقها طلاقا حصل به قطع عصمتها منه، وهو أعم من أن يكون طلقها ثلاثا مجموعة أو مفرقة، ويؤيد الثاني أنه سيأتي في كتاب الأدب من وجه آخر أنها قالت طلقني آخر ثلاث تطليقات، وهذا يرجح أن المراد بالترجمة بيان من أجاز الطلاق الثلاث ولم يكرهه، ويحتمل أن يكون مراد الترجمة أعم من ذلك، وكل حديث يدل على حكم فرد من ذلك. حديث عائشة أيضا: "أن رجلا طلق امرأته ثلاثا، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم: أتحل للأول؟ قال: لا" الحديث، وهو وإن كان مختصرا من قصة رفاعة فقد ذكرت توجيه المراد به، وإن كان في قصة أخرى فالتمسك بظاهر قوله: "طلقها ثلاثا" فإنه ظاهر في كونها مجموعة، وسيأتي في شرح قصة رفاعة أن غيره وقع له مع امرأة نظير ما وقع لرفاعة، فليس التعدد في ذلك ببعيد.
(9/367)