بَاب إِذَا قَالَ فَارَقْتُكِ أَوْ سَرَّحْتُكِ أَوْ الْخَلِيَّةُ أَوْ الْبَرِيَّةُ أَوْ مَا عُنِيَ بِهِ الطَّلاَقُ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} وَقَالَ: {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} وَقَالَ {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وَقَالَ: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وَقَالَتْ عَائِشَةُ قَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ
 
قوله: "باب إذا قال فارقتك أو سرحتك أو الخلية أو البرية أو ما عنى به الطلاق فهو على نيته" هكذا بت المصنف الحكم في هذه المسألة، فاقتضى أن لا صريح عنده إلا لفظ الطلاق أو ما تصرف منه، وهو قول الشافعي في القديم، ونص في الجديد على أن الصريح لفظ الطلاق والفراق والسراح لورود ذلك في القرآن بمعنى الطلاق. وحجة القديم أنه ورد في القرآن لفظ الفراق والسراح لغير الطلاق بخلاف الطلاق فإنه لم يرد إلا للطلاق، وقد رجح جماعة القديم كالطبري في "العدة" والمحاملي وغيرهما، وهو قول الحنفية، واختاره القاضي عبد الوهاب من المالكية، وحكى الدارمي عن ابن خير أن من لم يعرف إلا الطلاق فهو صريح في حقه فقط، وهو تفصيل قوي، ونحوه للروياني فإنه قال: لو قال عربي فارقتك ولم يعرف أنها صريحة لا يكون صريحا في حقه. واتفقوا على أن لفظ
(9/369)

الطلاق وما تصرف منه صريح، لكن أخرج أبو عبيد في "غريب الحديث:" من طريق عبد الله بن شهاب الخولاني عن عمر أنه "رفع إليه رجل قالت له امرأته. شبهني، فقال: كأنك ظبية، قالت: لا. قال: كأنك حمامة قالت: لا أرضى حتى تقول أنت خلية طالق، فقالها، فقال له عمر: خد بيدها فهي امرأتك" قال أبو عبيد قوله خلية طالق أي ناقة كانت معقولة ثم أطلقت من عقالها وخلى عنها فتسمى خلية لأنها خليت عن العقال؛ وطالق لأنها طلقت منه، فأراد الرجل أنها تشبه الناقة ولم يقصد الطلاق بمعنى الفراق أصلا، فأسقط عنه عمر الطلاق. قال أبو عبيد: وهذا أصل لكل من تكلم بشيء من ألفاظ الطلاق ولم يرد الفراق بل أراد غيره فالقول قوله فيه فيما بينه وبين الله تعالى ا هـ. وإلى هذا ذهب الجمهور، لكن المشكل من قصة عمر كونه رفع إليه وهو حاكم، فإن كان أجراه مجرى الفتيا ولم يكن هناك حكم فيوافق وإلا فهو من النوادر. وقد نقل الخطابي الإجماع على خلافه، لكن أثبت غيره الخلاف وعزاه لداود. وفي البويطي ما يقتضيه، وحكاه الروياني، ولكن أوله الجمهور وشرطوا قصد لفظ الطلاق لمعنى الطلاق ليخرج العجمي مثلا إذا لقن كلمة الطلاق فقالها وهو لا يعرف معناها أو العربي بالعكس، وشرطوا مع النطق بلفظ الطلاق تعمد ذلك احترازا عما يسبق به اللسان والاختيار ليخرج المكره، لكن إن أكره فقالها مع القصد إلى الطلاق وقع في الأصح. قوله: "وقول الله تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} كأنه يشير إلى أن في هذه الآية لفظ التسريح بمعنى الإرسال لا بمعنى الطلاق لأنه أمر من طلق قبل الدخول أن يمتع ثم يسرح، وليس المراد من الآية تطليقها بعد التطليق قطعا. قوله: "وقال: {وَأُسَرِّحْكُنَّ} يعني قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} والتسريح في هذه الآية محتمل للتطليق والإرسال، وإذا كانت صالحة للأمرين انتفى أن تكون صريحة في الطلاق، وذلك راجع إلى الاختلاف فيما خير به النبي صلى الله عليه وسلم نساءه: هل كان في الطلاق والإقامة، فإذا اختارت نفسها طلقت وإن اختارت الإقامة لم تطلق كما تقدم تقريره في الباب قبله؟ أو كان في التخيير بين الدنيا والآخرة، فمن اختارت الدنيا طلقها ثم متعها ثم سرحها، ومن اختارت الآخرة أقرها في عصمته؟ قوله: "وقال تعالى :{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} تقدم في الباب قبله بيان الاختلاف في المراد بالتسريح هنا وأن الراجح أن المراد به التطليق. قوله: "وقال: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} يريد أن هذه الآية وردت بلفظ الفراق في موضع ورودها في البقرة بلفظ السراح؛ والحكم فيهما واحد لأنه ورد في الموضعين بعد وقوع الطلاق، فليس المراد به الطلاق بل الإرسال. وقد اختلف السلف قديما وحديثا في هذه المسألة: فجاء عن علي بأسانيد يعضد بعضها بعضا وأخرجها ابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهما قال: "البرية والخلية والبائن والحرام والبت ثلاث ثلاث" وبه قال مالك وابن أبي ليلى والأوزاعي، لكن قال في الخلية إنها واحدة رجعية، ونقله عن الزهري وعن زيد بن ثابت في البرية والبتة والحرام ثلاث ثلاث، وعن ابن عمر في الخلية والبرية ثلاث وبه قال قتادة، ومثله عن الزهري في البرية فقط، واحتج بعض المالكية بأن قول الرجل لامرأته أنت بائن وبتة وبتلة وخلية وبرية يتضمن إيقاع الطلاق لأن معناه أنت طالق مني طلاقا تبينين به مني، أو تبت أي يقطع عصمتك مني، والبتلة بمعناه، أو تخلين به من زوجيتي أو تبرين منها، قال: وهذا لا يكون في المدخول بها إلا ثلاثا إذا لم يكن هناك خلع، وتعقب بأن الحمل على ذلك ليس صريحا والعصمة الثابتة لا ترفع بالاحتمال، وبأن من يقول إن من قال لزوجته أنت طالق طلقة بائنة إذا لم يكن هناك خلع أنها تقع رجعية مع التصريح كيف لا يقول يلغو مع التقدير
(9/370)

وبأن كل لفظة من المذكورات إذا قصد بها الطلاق ووقع وانقضت العدة أنه يتم المعنى المذكور، فلم ينحصر الأمر فيما ذكروا وإنما النظر عند الإطلاق، فالذي يترجح أن الألفاظ المذكورات وما في معناها كنايات لا يقع الطلاق بها إلا مع القصد إليه، وضابط ذلك أن كل كلام أفهم الفرقة ولو مع دقته يقع به الطلاق مع القصد، فأما إذا لم يفهم الفرقة من اللفظ فلا يقع الطلاق ولو قصد إليه، كما لو قال كلي أو اشربي أو نحو ذلك، وهذا تحرير مذهب الشافعي في ذلك. وقاله قبله الشعبي وعطاء وعمرو بن دينار وغيرهم، وبهذا قال الأوزاعي وأصحاب الرأي، واحتج لهم الطحاوي بحديث أبي هريرة الآتي قريبا "تجاوز الله عن أمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم" فإنه يدل على أن النية وحدها لا تؤثر إذا تجردت عن الكلام أو الفعل. وقال مالك: إذا خاطبها بأي لفظ كان وقصد الطلاق طلقت حتى لو قال يا فلانة يريد به الطلاق، وبه قال الحسن بن صالح بن حي. قوله: "وقالت عائشة: قد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه" هذا التعليق طرف من حديث التخيير، وقد تقدم عن عائشة في آخر حديث عمر في "باب موعظة الرجل ابنته" من كتاب النكاح، وبيان الاختلاف على الزهري في إسناده، وأرادت عائشة بالفراق هنا الطلاق جزما، ولا نزاع في الحمل عليه إذا قصد إليه، وإنما النزاع في الإطلاق إذا تقدم1
(9/371)