بَاب الظِّهَارِ
 
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا- إِلَى قَوْلِهِ- فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} وَقَالَ لِي إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ ظِهَارِ الْعَبْدِ فَقَالَ نَحْوَ ظِهَارِ الْحُرِّ قَالَ مَالِكٌ وَصِيَامُ الْعَبْدِ شَهْرَانِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْحُرِّ ظِهَارُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ مِنْ الْحُرَّةِ وَالأَمَةِ سَوَاءٌ وَقَالَ عِكْرِمَةُ إِنْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ إِنَّمَا الظِّهَارُ مِنْ النِّسَاءِ وَفِي الْعَرَبِيَّةِ لِمَا قَالُوا أَيْ فِيمَا قَالُوا وَفِي بَعْضِ مَا قَالُوا وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْمُنْكَرِ وَقَوْلِ الزُّورِ
قوله: "باب الظهار" بكسر المعجمة، هو قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وإنما خص الظهر بذلك دون سائر الأعضاء لأنه محل الركوب غالبا، ولذلك سمى المركوب ظهرا، فشبهت الزوجة بذلك لأنها مركوب الرجل،
(9/432)

فلو أضاف لغير الظهر - كالبطن مثلا - كان ظهارا على الأظهر عند الشافعية. واختلف فيما إذا لم يعين الأم كأن قال: كظهر أختي مثلا فعن الشافعي في القديم لا يكون ظهارا بل يختص بالأم كما ورد في القرآن، وكذا في حديث خولة التي ظاهر منها أوس. وقال في الجديد: يكون ظهارا، وهو قول الجمهور لكن اختلفوا فيمن لم تحرم على التأبيد: فقال الشافعي لا يكون ظهارا، وعن مالك هو ظهار وعن أحمد روايتان كالمذهبين، فلو قال كظهر أبي مثلا فليس بظهار عند الجمهور، وعن أحمد رواية أنه ظهار، وطرده في كل من يحرم عليه وطؤه حتى في البهيمة. ويقع الظهار بكل لفظ يدل على تحريم الزوجة لكن بشرط اقترانه بالنية، وتجب الكفارة على قائله كما قال الله تعالى لكن بشرط العود عند الجمهور وعند الثوري وروى عن مجاهد: تجب الكفارة بمجرد الظهار. قوله: "وقول الله تعالى :{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى قوله :{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} كذا لأبي ذر والأكثر، وساق في رواية كريمة الآيات إلى الموضع المذكور وهو قوله: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} واستدل بقوله تعالى :{وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} على أن الظهار حرام. وقد ذكر المصنف في الباب آثارا اقتصر على الآية وعليها، وكأنه أشار بذكر الآية إلى الحديث المرفوع الوارد في سبب ذلك، وقد ذكر بعض طرقه تعليقا في أوائل كتاب التوحيد من حديث عائشة وسيأتي ذكره، وفيه تسمية المظاهر، وتسمية المجادلة وهي التي ظاهر منها وأن الراجح أنها خولة بنت ثعلبة؛ وأنه أول ظهار كان في الإسلام كما أخرجه الطبراني وابن مردويه من حديث ابن عباس قال: "كان الظهار في الجاهلية يحرم النساء، فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس بن الصامت، وكانت امرأته خولة" الحديث وقال الشافعي: سمعت من أرضي من أهل العلم بالقرآن يقول: كان أهل الجاهلية يطلقون بثلاث الظهار والإيلاء والطلاق، فأقر الله الطلاق طلاقا وحكم في الإيلاء والظهار بما بين في القرآن انتهى. وجاء من حديث خوله بنت ثعلبة نفسها عند أبي داود قالت: "ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه" الحديث. وأخرج أصحاب السنن من حديث سلمة بن صخر أنه ظاهر من امرأته، وقد تقدمت الإشارة إلى حديثه في كتاب الصيام في قصة المجامع في رمضان، وأن الأصح أن قصته كانت نهارا. ولأبي داود والترمذي من حديث ابن عباس "أن رجلا ظاهر من امرأته فوقع عليها قبل أن يكفر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فاعتزلها حتى تكفر عنك" وفي رواية أبي داود "فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله" وأسانيد هذه الأحاديث حسان.وحكم كفارة الظهار منصوص بالقرآن، واختلف السلف في أحكامه في مواضع ألم البخاري ببعضها في الآثار التي أوردها في الباب، واستدل بآية الظهار وبآية اللعان على القول بالعموم ولو ورد في سبب خاص، واتفقوا على دخول السبب، وأن أوس بن الصامت شمله حكم الظهار، لكن استشكله السبكي من جهة تقدم السبب وتأخر النزول فكيف ينعطف على ما مضى مع أن الآية لا تشمل إلا من وجد منه الظهار بعد نزولها، لأن الفاء في قوله تعالى :{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يدل على أن المبتدأ تضمن معنى الشرط والخبر تضمن معنى الجزاء ومعنى الشرط مستقبل، وأجاب عنه بأن دخول الفاء في الخبر يستدعي العموم في كل مظاهر، وذلك يشمل الحاضر والمستقبل، قال: وأما دلالة الفاء على الاختصاص بالمستقبل ففيه نظر، كذا قال، ويمكن أن يحتج للإلحاق بالإجماع. قوله: "وقال لي إسماعيل" هو ابن أبي أويس كذا للأكثر، ووقع في رواية النسفي "وقال إسماعيل" بدون حرف الجر والأول أولى، وهو موصول، فعند جماعة أنه يستعمل هذه الصيغة فيما تحمله عن شيوخه مذاكرة، والذي ظهر لي بالاستقراء أنه إنما يستعمل ذلك فيما
(9/433)

يورده موصولا من الموقوفات أو مما لا يكون من المرفوعات على شرطه. وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق القعنبي عن مالك أنه سأل ابن شهاب فذكر مثله وزاد: "وهو عليه واجب". قوله: "قال مالك" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "وصيام العبد شهران" يحتمل أن يكون ابن شهاب الذي نقل مالك عنه أن ظهار العبد نحو ظهار الحر كأن يعطي العبد في ذلك جميع أحكام الحر، ويحتمل أن يكون أراد بالتشبيه مطلق صحة الظهار من العبد كما يصح من الحر ولا يلزم أن يعطي جميع أحكامه، لكن نقل ابن بطال الإجماع على أن العبد إذا ظاهر لزمه، وأن كفارته بالصيام شهران كالحر نعم اختلفوا في الإطعام والعتق، فقال الكوفيون والشافعي: لا يجزئه إلا الصيام فقط. وقال ابن القاسم عن مالك: إن أطعم بإذن مولاه أجزأه. وما ادعاه من الإجماع مردود فقد نقل الشيخ الموفق في "المغني" عن بعضهم أنه لا يصح ظهار العبد لأن الله تعالى قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} والعبد لا يملك الرقاب، وتعقبه بأن تحرير الرقبة إنما هو على من يجدها فكان كالمعسر ففرضه الصيام. وأما ما ذكره من قدر صيامه فقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن إبراهيم: لو صام شهرا أجزأ عنه. وعن الحسن يصوم شهرين. وعن ابن جريج عن عطاء في رجل ظاهر من زوجة أمة قال: شطر الصوم. قوله: "وقال الحسن بن الحر" كذا للأكثر. وفي رواية أبي ذر عن المستملي: "الحسن بن حي" وفي رواية: "وقال الحسن" فقط، فأما الحسن بن الحر فهو بضم المهملة وتشديد الراء ابن الحكم النخعي الكوفي نزيل دمشق، ثقة عندهم، وليس له في البخاري ذكر إلا هذا الموضع إن ثبت ذلك، وأما الحسن بن حي فبفتح المهملة وتشديد التحتانية نسب لجد أبيه وهو الحسن بن صالح بن صالح بن حي واسم حي حيان كوفي ثقة فقيه عابد من طبقة سفيان الثوري، وقد تقدم ذكر أبيه في أوائل هذا الكتاب، وقد أخرج الطحاوي في كتاب "اختلاف العلماء" هذا الأثر "عن الحسن بن حي" وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن إبراهيم النخعي قال: "الظهار من الأمة كالظهار من الحرة" وقد وقع لنا الكلام المذكور من قول الحسن البصري وذلك فيما أخرجه ابن الأعرابي في معجمه من طريق همام "سئل قتادة عن رجل ظاهر من سريته، فقال: قال الحسن وابن المسيب وعطاء وسليمان بن يسار: مثل ظهار الحرة، وهو قول الفقهاء السبعة، وبه قال مالك وربيعة والثوري والليث، واحتجوا بأنه فرج حلال فيحرم بالتحريم. وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن الحسن: إن وطئها فهو ظهار، وإن لم يكن وطئها فلا ظهار عليه، وهو قول الأوزاعي. قوله: "وقال عكرمة: إن ظاهر من أمته فليس بشيء، إنما الظهار من النساء" وصله إسماعيل القاضي بسند لا بأس به، وجاء أيضا عن مجاهد مثله أخرجه سعيد بن منصور من رواية داود بن أبي هند سألت مجاهدا عن الظهار من الأمة فكأنه لم يره شيئا فقلت: أليس الله يقول: {مِنْ نِسَائِهِمْ} أفليست من النساء؟ فقال: قال الله تعالى :{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أو ليس العبيد من الرجال؟ أفتجوز شهادة العبيد؟ وقد جاء عن عكرمة خلافه، قال عبد الرزاق أنبأنا ابن جريج أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة مولى ابن عباس قال، يكفر عن ظهار الأمة مثل كفارة الحرة، وبقول عكرمة الأول قال الكوفيون والشافعي والجمهور، واحتجوا بقوله تعالى :{مِنْ نِسَائِهِمْ} وليست الأمة من النساء، واحتجوا أيضا بقول ابن عباس: إن الظهار كان طلاقا ثم أحل بالكفارة، فكما لا حظ للأمة في الطلاق لا حظ لها في الظهار، ويحتمل أن يكون المنقول عن عكرمة في الأمة المزوجة قلا يكون بين قوليه اختلاف. قوله: "وفي العربية لما قالوا أي فيما قالوا" أي يستعمل في كلام العرب
(9/434)

عاد لكذا بمعنى أعاد فيه وأبطله. قوله: "وفي نقض ما قالوا" كذا للأكثر بنون وقاف. وفي رواية الأصيلي والكشميهني: "بعض" بموحدة ثم مهملة والأول أصح، والمعنى أنه يأتي بفعل ينقض قوله الأول. وقد اختلف العلماء هل يشترط الفعل فلا يجوز له وطؤها إلا بعد أن يكفر، أو يكفي العزم على وطئها، أو العزم على إمساكها وترك فراقها؟ والأول قول الليث والثاني قول الحنفية ومالك، وحكى عنه أنه الوطء بعينه يشرط أن يقدم عليه الكفارة، وحكى عنه العزم على الإمساك والوطء معا وعليه أكثر أصحابه، والثالث قول الشافعي ومن تبعه، وثم قول رابع سنذكره هنا. قوله: "وهذا أولى لأن الله تعالى لم يدل على المنكر وقول الزور" هذا كلام البخاري ومراده الرد على من زعم أن شرط العود هنا أن يقع بالقول وهو إعادة لفظ الظهار، فأشار إلى هذا القول وجزم بأنه مرجوح وإن كان هو ظاهر الآية وهو قول أهل الظاهر، وقد روى ذلك عن أبي العالية ويكبر بن الأشج من التابعين وبه قال الفراء النحوي، ومعنى قوله: { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا لِمَا قَالُوا} أي إلى قول ما قالوا: وقد بالغ ابن العربي في إنكاره ونسب قائله إلى الجهل لأن الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزور فكيف يقال إذا أعاد القول المحرم المنكر يجب عليه أن يكفر ثم تحل له المرأة؟ انتهى. وإلى هذا أشار البخاري بقوله: "لأن الله لم يدل على المنكر والزور" وقال إسماعيل القاضي: لما وقع بعد قوله: " ثُمَّ يَعُودُونَ} {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} دل على أن المراد وقوع ضد ما وقع منه من المظاهرة، فإن رجلا لو قال إذا أردت أن تمس فأعتق رقبة قبل أن تمس لكان كلاما صحيحا، بخلاف ما لو قال إذا لم ترد أن تمس فأعتق رقبة قبل أن تمس.وقد جرى بحث بين أبي العباس بن سريج ومحمد بن داود الظاهري فاحتج عليه ابن سريج بالإجماع، فأنكره ابن داود وقال: الذين خالفوا القرآن لا أعد خلافهم خلافا. وأنكر ابن العربي أن يصح عن بكير الأشج، واختلف المعربون في معنى اللام في قوله: {لِمَا قَالُوا} فقيل معناها ثم يعودون إلى الجماع فتحرير رقبة لما قالوا أي فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا، فادعوا أن اللام في قوله: {لِمَا قَالُوا} متعلق بالمحذوف وهو قوله عليهم قاله الأخفش، وقيل المعنى الذين كانوا يظاهرون في الجاهلية ثم يعودون لما قالوا أي إلى المظاهرة في الإسلام، وقيل اللام بمعنى عن أي يرجعون عن قولهم، وهذا موافق قول من يوجب الكفارة بمجرد وقوع كلمة الظهار. وقال ابن بطال: يشبه أن تكون ما بمعنى من، أي اللواتي قالوا لهن أنتن علينا كظهور أمهاتنا، قال ويجوز أن يكون قالوا بتقدير المصدر أي يعودون للقول فسمى المقول فيهن باسم المصدر وهو القول كما قالوا درهم ضرب الأم وهو مضروب الأم، والله أعلم بالصواب.
(9/435)