بَاب قَوْلِ الإِمَامِ لِلْمُتَلاَعِنَيْنِ إِنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ
 
5312- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ حَدِيثِ الْمُتَلاَعِنَيْنِ فَقَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِلْمُتَلاَعِنَيْنِ حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ لاَ سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا قَالَ مَالِي قَالَ لاَ مَالَ لَكَ إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ قَالَ سُفْيَانُ حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو وَقَالَ أَيُّوبُ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رَجُلٌ لاَعَنَ امْرَأَتَهُ فَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ وَفَرَّقَ سُفْيَانُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلاَنِ وَقَالَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَالَ سُفْيَانُ حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو وَأَيُّوبَ كَمَا أَخْبَرْتُكَ"
قوله: "باب قول الإمام للمتلاعنين إن أحدكما كاذب" فيه تغليب المذكر على المؤنث. وقال عياض وتبعه
(9/457)

النووي: في "قوله أحدكما" رد على من قال من النحاة إن لفظ أحد لا يستعمل إلا في النفي، وعلى من قال منهم لا يستعمل إلا في الوصف، وأنها لا توضع موضع واحد ولا توقع موقعه. وقد أجازه المبرد. وجاء في هذا الحديث في غير وصف ولا نفي وبمعنى واحد ا هـ. قال الفاكهي: هذا من أعجب ما وقع للقاضي مع براعته وحذقه، فإن الذي قاله النحاة إنما هو في "أحد" التي للعموم نحو ما في الدار من أحد وما جاءني من أحد، وأما أحد بمعنى واحد فلا خلاف في استعمالها في الإثبات نحو {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ونحو {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} ونحو "أحدكما كاذب". قوله: "فهل منكما من تائب" ؟ يحتمل أن يكون إرشادا لا أنه لم يحصل منهما ولا من أحدهما اعتراف، ولأن الزوج لو أكذب نفسه كانت توبة منه. قوله: "سفيان قال عمرو" هو ابن دينار. وفي رواية الحميدي "عن سفيان أنبأنا عمرو" فذكره. وقد بينت ما فيه في الذي قبله. قوله: "قال سفيان حفظته من عمرو" هذا كلام علي بن عبد الله يريد بيان سماع سفيان له من عمرو. قوله: "قال أيوب" هو موصول بالسند المبدأ به وليس بتعليق، وحاصله أن الحديث كان عند سفيان عن عمرو بن دينار وعن أيوب جميعا عن ابن عمر، وقد وقع في رواية الحميدي عن سفيان "قال وحدثنا أيوب في مجلس عمرو بن دينار فحدثه عمرو بحديثه هذا فقال له أيوب: أنت أحسن حديثا مني" وقد بينت في الذي قبله سبب ذلك، وهو أن فيه عند عمرو ما ليس عند أيوب. قوله: "فقال بإصبعيه" هو من إطلاق القول على الفعل، وقوله: "وفرق سفيان بين السبابة والوسطى" جملة معترضة أراد بها بيان الكيفية، والذي يظهر أنه لا يجزم بذلك إلا عن توقيف، وقوله فرق النبي صلى الله عليه وسلم إلخ هو جواب السؤال. قوله: "وقال: الله يعلم أن أحدكما كاذب" قال عياض ظاهره أنه قال هذا الكلام بعد فراغهما من اللعان، فيؤخذ منه عرض التوبة على المذنب ولو بطريق الإجمال، وأنه يلزم من كذبه التوبة من ذلك. وقال الداودي: قال ذلك قبل اللعان تحذيرا لهما منه، والأول أظهر وأولى بسياق الكلام. قلت: والذي قاله الداودي أولى من جهة أخرى وهي مشروعية الموعظة قبل الوقوع في المعصية، بل هو أحرى مما بعد الوقوع، وأما سياق الكلام فمحتمل في رواية ابن عمر للأمرين، وأما حديث ابن عباس فسياقه ظاهر فيما قال الداودي، ففي رواية جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس عند الطبري والحاكم والبيهقي في قصة هلال بن أمية "قال فدعاهما حين نزلت آية الملاعنة فقال: الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ فقال هلال: والله إني لصادق" الحديث، وقد قدمت أن حديث ابن عباس من رواية عكرمة في قصة غير القصة التي في حديث سهل بن سعد وابن عمر، فيصح الأمران معا باعتبار التعدد.
(9/458)

بلا ترجمة، وسقط ذلك للباقين، والأول أنسب، وفيه حديث ابن عمر من طريق عبيد الله بن عمر العمري عن نافع من وجهين، ولفظ الأول "فرق بين رجل وامرأة قذفها فأحلفهما" ولفظ الثاني "لاعن بين رجل وامرأة فأحلفهما" ويؤخذ منه أن إطلاق يحيى بن معين وغيره تخطئة الرواية بلفظ: "فرق بين المتلاعنين" إنما المراد به في حديث سهل بن سعد بخصوصه، فقد أخرجه أبو داود من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عنه بهذا اللفظ وقال بعده "لم يتابع ابن عيينة على ذلك أحد" ثم أخرج من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عمر "فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان" قال ابن عبد البر: لعل ابن عيينة دخل عليه حديث في حديث. وذكر ابن أبي خيثمة أن يحيى بن معين سئل عن الحديث فقال: إنه غلط. قال ابن عبد البر: إن أراد من حديث سهل فسهل، وإلا فهو مردود. قلت: تقدم أيضا في حديث سهل من طريق ابن جريج "فكانت سنة في المتلاعنين لا يجتمعان أبدا" ولكن ظاهر سياقه أنه من كلام الزهري فيكون مرسلا، وقد بينت من وصله وأرسله في "باب اللعان ومن طلق"، وعلى تقدير ذلك فقد ثبت هذا اللفظ من هذا الوجه فتمسك به من قال إن الفرقة بين المتلاعنين لا تقع بنفس اللعان حتى يوقعها الحاكم، ورواية ابن جريج المذكورة تؤيد أن الفرقة تقع بنفس اللعان، وعلى تقدير إرسالها فقد جاء عن ابن عمر بلفظه عند الدار قطني، ويتأيد بذلك قول من حمل التفريق في حديث الباب على أنه بيان حكم لا إيقاع فرقة، واحتجوا أيضا بقوله في الرواية الأخرى "لا سبيل لك عليها" وتعقب بأن ذلك وقع جوابا لسؤال الرجل عن ماله الذي أخذته منه، وأجيب بأن العبرة بعموم اللفظ وهو نكرة في سياق النفي فيشمل المال والبدن، ويقتضي نفي تسليطه عليها بوجه من الوجوه. ووقع في آخر حديث ابن عباس عند أبي داود "وقضى أن ليس عليه نفقة ولا سكنى من أجل أنهما يفترقان بغير طلاق ولا متوفى عنها" وهو ظاهر في أن الفرقة وقعت بينهما بنفس اللعان، ويستفاد منه أن قوله في حديث سهل "فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقها" أن الرجل إنما طلقها قبل أن يعلم أن الفرقة تقع بنفس اللعان فبادر إلى تطليقها لشدة نفرته منها، واستدل بقوله: "لا يجتمعان أبدا" على أن فرقة اللعان على التأبيد "وأن الملاعن لو أكذب نفسه لم يحل له أن يتزوجها بعد. وقال بعضهم: يجوز له أن يتزوجها، وإنما يقع باللعان طلقة واحدة بائنة، هذا قول حماد وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن، وصح عن سعيد بن المسيب، قالوا: ويكون الملاعن إذا أكذب نفسه خاطبا من الخطاب، وعن الشعبي والضحاك: إذا أكذب نفسه ردت إليه امرأته. قال ابن عبد البر: هذا عندي قول ثالث. قلت: ويحتمل أن يكون معنى قوله: "ردت إليه" أي بعد العقد الجديد فيوافق الذي قبله، قال ابن السمعاني: لم أقف على دليل لتأبيد الفرقة من حيث النظر، وإنما المتبع في ذلك النص. وقال ابن عبد البر أبدى بعض أصحابنا له فائدة وهو أن لا يجتمع ملعون مع غير ملعون، لأن أحدهما ملعون في الجملة بخلاف ما إذا تزوجت المرأة غير الملاعن فإنه لا يتحقق، وتعقب بأنه لو كان كذلك لامتنع عليهما معا التزويج لأنه يتحقق أن أحدهما ملعون، ويمكن أن يجاب بأن في هذه الصورة افترقا في الجملة. قال السمعاني: وقد أورد بعض الحنفية أن قوله: "المتلاعنان" يقتضي أن فرقة التأبيد يشترط لها أن يقع التلاعن من الزوجين، والشافعية يكتفون في التأبيد بلعان الزوج فقط كما تقدم، وأجاب بأنه لما كان لعانه بسبب لعانها وصريح لفظ اللعن يوجد في جانبه دونها سمي الموجود منه ملاعنة، ولأن لعانه سبب في إثبات الزنا عليها فيستلزم انتفاء نسب الولدية فينتفي الفراش فإذا انتفى الفراش انقطع النكاح، فإن قيل إذا أكذب الملاعن نفسه يلزم ارتفاع الملاعنة حكما وإذا
(9/459)

ارتفعت صارت المرأة محل استمتاع، قلنا: اللعان عندكم شهادة، والشاهد إذا رجع بعد الحكم لم يرتفع الحكم، وأما عندنا فهو يمين واليمين إذا صارت حجة وتعلق بها الحكم لا ترتفع، فإذا أكذب نفسه فقد زعم أنه لم يوجد منه ما يسقط الحد عنه فيجب عليه الحد ولا يرتفع موجب اللعان.
(9/460)