باب أكل المضطر
 
...
بَاب إِذَا أَكَلَ الْمُضْطَرُّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} وَقَالَ {فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} وَقَوْلِهِ {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَمَا لَكُمْ أَنْ لاَ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فُصِّلَ لَكُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلاَ {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلاَلًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}"
قوله: "باب إذا أكل المضطر" أي من الميتة، وكأنه أشار إلى الخلاف في ذلك وهو في موضعين: أحدهما
(9/673)

في الحالة التي يصح الوصف بالاضطرار فيها ليباح الأكل، والثاني في مقدار ما يؤكل، فأما الأول فهو أن يصل به الجوع إلى حد الهلاك أو إلى مرض يفضي إليه، هذا قول الجمهور، وعن بعض المالكية تحديد ذلك بثلاثة أيام، قال ابن أبي جمرة: الحكمة في ذلك أن في الميتة سمية شديدة فلو أكلها ابتداء لأهلكته، فشرع له أن يجوع ليصير في بدنه بالجوع سمية أشد من سمية الميتة فإذا أكل منها حينئذ لا يتضرر ا هـ، وهذا إن ثبت حسن بالغ في غاية الحسن، وأما الثاني فذكره في تفسير قوله تعالى :{ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} وقد فسره قتادة بالمتعدي وهو تفسير معنى. وقال غيره الإثم أن يأكل فوق سد الرمق، وقيل فوق العادة وهو الراجح لإطلاق الآية. ثم محل جواز الشبع أن لا يتوقع غير الميتة عن قرب، فإن توقع امتنع إن قوى على الجوع إلا أن يجده، وذكر إمام الحرمين أن المراد بالشبع ما ينتفي الجوع لا الامتلاء حتى لا يبقى لطعام آخر مساغ فإن ذلك حرام. واستشكل بما في حديث جابر في قصة العنبر حيث قال أبو عبيدة "وقد اضطررتم فكلوا، قال فأكلنا حتى سمنا" وقد تقدم البحث فيه مبسوطا. قوله: "لقوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ - إلى قوله- فَلا إِثْمَ} كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة ما حذف، وقوله: {غَيْرَ بَاغٍ} أي في أكل الميتة، وجعل الجمهور من البغي العصيان فمنعوا العاصي بسفره أن يأكل الميتة وقالوا: طريقه أن يتوب ثم يأكل، وجوزه بعضهم مطلقا. قوله: "وقال {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} أي مجاعة {غير مُتَجَانِفٍ} أي مائل. قوله: "وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} زاد في رواية كريمة الآية التي بعدها إلى قوله: {مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وفيه نسخة "إلي بالمعتدين" وبه تظهر مناسبة ذكر ذلك هنا، وإطلاق الاضطرار هنا تمسك به من أجاز أكل الميتة للعاصي وحمل الجمهور المطلق على المقيد في الآيتين الأخيرتين. قوله: "وقوله جل وعلا: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} ساق في رواية كريمة إلى آخر الآية وهي قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} وبذلك يظهر أيضا وجه المناسبة وهو قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ}. قوله: "وقال ابن عباس: مهراقا" أي فسر ابن عباس المسفوح بالمهراق، وهو موصول عند الطبراني من طريق علي بن أبي طلحة عنه. قوله: "وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً} كذا ثبت هنا لكريمة والأصيلي وسقط للباقين، وساق في نسخة الصغاني إلى قوله: "خنزير" ثم قال إلى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال الكرماني وغيره: عقد البخاري هذه للترجمة ولم يذكر فيها حديثا إشارة إلى أن الذي ورد فيها ليس فيه شيء على شرطه، فاكتفى بما ساق فيها من الآيات، ويحتمل أن يكون بيض فانضم بعض ذلك إلى بعض عند تبيض الكتاب. قلت: والثاني أوجه، واللائق بهذا الباب على شرطه حديث جابر في قصة العنبر، فلعله قصد أن يذكر له طريقا أخرى.
(9/674)