بَاب قَصِّ الشَّارِبِ 2
 
مستحب. الرابع: احتج أبو حامد وأتباعه كالماوردي بأنه قطع عضو لا يستخلف من الجسد تعبدا فيكون واجبا كقطع اليد في السرقة، وتعقب بأن قطع اليد إنما أبيح في مقابلة جرم عظيم. فلم يتم القياس. الخامس: قال الماوردي: في الختان إدخال ألم عظيم على النفس وهو لا يشرع إلا في إحدى ثلاث خصال: لمصلحة، أو عقوبة، أو وجوب. وقد انتفى الأولان فثبت الثالث. وتعقبه أبو شامة بأن في الختان عدة مصالح كمزيد الطهارة والنظافة فإن القلفة من المستقذرات عند العرب، وقد كثر ذم الأقلف في أشعارهم، وكان للختان عندهم قدر، وله وليمة خاصة به، وأقر الإسلام ذلك. السادس: قال الخطابي محتجا بأن الختان واجب بأنه من شعار الدين، وبه يعرف المسلم من الكافر، حتى لو وجد مختون بين جماعة قتلى غير مختونين صلى عليه ودفن في مقابر المسلمين. وتعقبه أبو شامة بأن شعار الدين ليست كلها واجبة، وما ادعاء في المقتول مردود لأن اليهود وكثيرا من النصارى يختنون فليقيد ما ذكر بالقرينة. قلت: قد بطل دليله. السابع: قال البيهقي: أحسن الحجج أن يحتج بحديث أبي هريرة الذي في الصحيحين مرفوعا: "اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم" وقد قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} وصح عن ابن عباس أن الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فأتمهن هي خصال الفطرة ومنهن الختان، والابتلاء غالبا إنما يقع بما يكون واجبا، وتعقب بأنه لا يلزم ما ذكر إلا إن كان إبراهيم عليه السلام فعله على سبيل الوجوب، فإنه من الجائز أن يكون فعله على سبيل الندب فيحصل امتثال الأمر باتباعه على وفق ما فعل، وقد قال الله تعالى في حق نبيه محمد {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وقد تقرر في الأصول أن أفعاله بمجردها لا تدل على الوجوب، وأيضا فباقي الكلمات العشر ليست واجبة. وقال الماوردي: إن إبراهيم عليه السلام لا يفعل ذلك في مثل سنة إلا عن أمر من الله اهـ، وما قاله بحثا قد جاء منقولا، فأخرج أبو الشيخ في العقيقة من طريق موسى بن علي بن رباح عن أبيه: أن إبراهيم عليه السلام أمر أن يختتن وهو حينئذ ابن ثمانين سنة فعجل واختتن بالقدوم فاشتد عليه الوجع فدعا ربه فأوحى الله إليه إنك عجلت قبل أن نأمرك بآلته، قال: يا رب كرهت أن أؤخر أمرك. قال الماوردي: القدوم جاء مخففا ومشددا وهو الفأس الذي اختتن به، وذهب غيره إلى أن المراد به مكان يسمى القدوم.
وقال أبو عبيد الهروي في الغريبين: يقال هو كان مقيله، وقيل اسم قرية بالشام. وقال أبو شامة: هو موضع بالقرب من القرية التي فيها قبره، وقيل بقرب حلب؛ وجزم غير واحد أن الآلة بالتخفيف، وصرح ابن السكيت بأنه لا يشدد وأثبت بعضهم الوجهين في كل منهما، وقد تقدم بعض هذا في شرح الحديث المذكور في ذكر إبراهيم عليه السلام من أحاديث الأنبياء، ووقع عند أبي الشيخ من طريق أخرى أن إبراهيم لما اختتن كان ابن مائة وعشرين سنة وأنه عاش بعد ذلك إلى أن أكمل مائتي سنة، والأول أشهر، وهو أنه اختتن وهو ابن ثمانين وعاش بعدها أربعين، والغرض أن الاستدلال بذلك متوقف كما تقدم على أنه كان في حق إبراهيم عليه السلام واجبا، فإن ثبت ذلك استقام الاستدلال به وإلا فالنظر باق. واختلف في الوقت الذي يشرع فيه الختان، قال الماوردي: له وقتان وقت وجوب ووقت استحباب، فوقت الوجوب البلوغ ووقت الاستحباب قبله، والاختيار في اليوم السابع من بعد الولادة، وقيل من يوم الولادة، فإن أخر ففي الأربعين يوما، فإن أخر ففي السنة السابعة، فإن بلغ وكان نضوا نحيفا يعلم من حاله أنه إذا اختتن تلف سقط الوجوب. ويستحب أن لا يؤخر عن وقت الاستحباب إلا لعذر، وذكر القاضي حسين أنه لا يجوز أن يختتن الصبي حتى يصير ابن عشر سنين لأنه حينئذ يوم ضربه على ترك الصلاة، وألم الختان فوق ألم
(10/342)

الضرب فيكون أولى بالتأخير، وزيفه النووي في "شرح المهذب" وقال إمام الحرمين: لا يجب قبل البلوغ لأن الصبي ليس من أهل العبادة المتعلقة بالبدن فكيف مع الألم، قال: ولا يرد وجوب العدة على الصبية لأنه لا يتعلق به تعب بل هو مضي زمان محض. وقال أبو الفرج السرخسي: في ختان الصبي وهو صغير مصلحة من جهة أن الجلد بعد التمييز يغلظ ويخشن فمن ثم جوز الأئمة الختان قبل ذلك، ونقل ابن المنذر عن الحسن ومالك كراهة الختان يوم السابع لأنه فعل اليهود. وقال مالك: يحسن إذا أثغر أي ألقى ثغره وهو مقدم أسنانه، وذلك يكون في السبع سنين وما حولها، وعن الليث يستحب ما بين سبع سنين إلى عشر سنين، وعن أحمد لم أسمع فيه شيئا. وأخرج الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس قال: "سبع من السنة في الصبي يسمى في السابع ويختن" الحديث وقد قدمت ذكره في كتاب العقيقة وأنه ضعيف. وأخرج أبو الشيخ من طريق الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن ابن المنكدر أو غيره عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم ختن حسنا وحسينا لسبعة أيام" قال الوليد فسألت مالكا عنه فقال: لا أدري، ولكن الختان طهرة فكلما قدمها كان أحب إلي. وأخرج البيهقي حديث جابر. وأخرج أيضا من طريق موسى بن علي عن أبيه: أن إبراهيم عليه السلام ختن إسحاق وهو ابن سبعة أيام. وقد ذكرت في أبواب الوليمة من كتاب النكاح مشروعية الدعوة في الختان، وما أخرجه أحمد من طريق الحسن عن عثمان بن أبي العاص أنه دعي إلى ختان فقال: "ما كنا نأتي الختان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ندعى له" وأخرجه أبو الشيخ من رواية فبين أنه كان ختان جارية. وقد نقل الشيخ أبو عبد الله بن الحاج في "المدخل" أن السنة إظهار ختان الذكر وإخفاء ختان الأنثى. والله أعلم. قوله: "والاستحداد" بالحاء المهملة استفعال من الحديد والمراد به استعمال الموسى في حلق الشعر من مكان مخصوص من الجسد، قيل وفي التعبير بهذه اللفظة مشروعية الكناية عما يستحي منه إذا حصل الإفهام بها وأغنى عن التصريح، والذي يظهر أن ذلك من تصرف الرواة. وقد وقع في رواية النسائي في حديث أبي هريرة هذا التعبير بحلق العانة، وكذا في حديث عائشة وأنس المشار إليهما من قبل عند مسلم، قال النووي: المراد بالعانة الشعر الذي فوق ذكر الرجل وحواليه، وكذا الشعر الذي حوالي فرج المرأة. ونقل عن أبي العباس بن سريج أنه الشعر النابت حول حلقة الدبر فتحصل من مجموع هذا استحباب حلق جميع ما على القبل والدبر وحولهما؛ قال وذكر الحلق لكونه هو الأغلب وإلا فيجوز الإزالة بالنورة والنتف وغيرهما. وقال أبو شامة: العانة الشعر النابت على الركب بفتح الراء والكاف وهو ما انحدر من البطن فكان تحت الثنية وفوق الفرج، وقيل لكل فخذ ركب، وقيل ظاهر الفرج وقيل الفرج بنفسه سواء كان من رجل أو امرأة، قال: ويستحب إماطة الشعر عن القبل والدبر بل هو من الدبر أولى خوفا من أن يعلق شيء من الغائط فلا يزيله المستنجي إلا بالماء ولا يتمكن من إزالته بالاستجمار، قال ويقوم التنور مكان الحلق وكذلك النتف والقص، وقد سئل أحمد عن أخذ العانة بالمقراض فقال أرجو أن يجزئ، قيل فالنتف؟ قال: وهل يقوى على هذا أحد؟ وقال ابن دقيق العيد قال أهل اللغة: العانة الشعر النابت على الفرج، وقيل هو منبت الشعر، قال وهو المراد في الخبر. وقال أبو بكر بن العربي: شعر العانة أولى الشعور بالإزالة لأنه يكثف ويتلبد فيه الوسخ، بخلاف شعر الإبط. قال: وأما حلق ما حول الدبر فلا يشرع، وكذا قال الفاكهي في "شرح العمدة" أنه لا يجوز، كذا قال ولم يذكر للمنع مستندا، والذي استند إليه أبو شامة قوي، بل ربما تصور الوجوب في حق من تعين ذلك في حقه، كمن لم يجد من الماء إلا القليل وأمكنه أن لو حلق الشعر أن لا يعلق به شيء من الغائط
(10/343)

يحتاج معه إلى غسله وليس معه ماء زائد على قدر الاستنجاء. وقال ابن دقيق العيد: كأن الذي ذهب إلى استحباب حلق ما حول الدبر ذكره بطريق القياس، قال: والأولى في إزالة الشعر هنا الحلق اتباعا، ويجوز النتف، بخلاف الإبط فإنه بالعكس لأنه تحتبس تحته الأبخرة بخلاف العانة، والشعر من الإبط بالنتف يضعف وبالحلق يقوى فجاء الحكم في كل من الموضعين بالمناسب. وقال النووي وغيره: السنة في إزالة شعر العانة الحلق بالموسى في حق الرجل والمرأة معا، وقد ثبت الحديث الصحيح عن جابر في النهي عن طروق النساء ليلا حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة، وقد تقدم شرحه في النكاح، لكن يتأدى أصل السنة بالإزالة بكل مزيل. وقال النووي أيضا: والأولى في حق الرجل الحلق وفي حق المرأة النتف. واستشكل بأن فيه ضررا على المرأة بالألم وعلى الزوج باسترخاء المحل فإن النتف يرخي المحل باتفاق الأطباء، ومن ثم قال ابن دقيق للعيد: إن بعضهم مال إلى ترجيح الحلق في حق المرأة لأن النتف يرخي المحل، لكن قال ابن العربي: إن كانت شابة فالنتف في حقها أولى لأنه يربو مكان النتف، وإن كانت كهلة فالأولى في حقها الحلق لأن النتف يرخى المحل، ولو قيل الأولى في حقها التنور مطلقا لما كان بعيدا. وحكى النووي في وجوب الإزالة عليها إذا طلب ذلك منها وجهين أصحهما الوجوب، ويفترق الحكم في نتف الإبط وحلق العانة أيضا بأن نتفت الإبط وحلقه يجوز أن يتعاطاه الأجنبي، بخلاف حلق العانة فيحرم إلا في حق من يباح له المس والنظر كالزوج والزوجة. وأما التنور فسئل عنه أحمد فأجازه، وذكر أنه يفعله، وفيه حديث عن أم سلمة أخرجه ابن ماجه والبيهقي ورجاله ثقات، ولكنه أعله بالإرسال، وأنكر أحمد صحته ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا طلى ولي عانته بيده" ومقابله حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتنور، وكان إذا كثر شعره حلقه" ولكن سنده ضعيف جدا. قوله: "ونتف الإبط" في رواية الكشميهني: "الآباط" بصيغة الجمع، والإبط بكسر الهمزة والموحدة وسكونها وهو المشهور وصوبه الجواليقي، وهو يذكر ويؤنث، وتأبط الشيء وضعه تحت إبطه. والمستحب البداءة فيه باليمنى، ويتأدى أصل السنة بالحلق ولا سيما من يؤلمه النتف. وقد أخرج ابن أبي حاتم في "مناقب الشافعي" عن يونس بن عبد الأعلى قال دخلت على الشافعي ورجل يحلق إبطه فقال: إني علمت أن السنة النتف، ولكن لا أقوى على الوجع. قال الغزالي: هو في الابتداء موجع ولكن يسهل على من اعتاده، قال: والحلق كاف لأن المقصود النظافة. وتعقب بأن الحكمة في نتفه أنه محل للرائحة الكريهة، وإنما ينشأ ذلك من الوسخ الذي يجتمع بالعرق فيه فيتلبد ويهيج، فشرع فيه النتف الذي يضعفه فتخف الرائحة به، بخلاف الحلق فإنه يقوي الشعر ويهبجه فتكثر الرائحة لذلك. وقال ابن دقيق العيد: من نظر إلى اللفظ وقف مع النتف، ومن نظر إلى المعنى أجازه بكل مزيل، لكن بين أن النتف مقصود من جهة المعنى فذكر نحو ما تقدم، قال: وهو معنى ظاهر لا يهمل فإن مورد النص إذا احتمل معنى مناسبا يحتمل أن يكون مقصودا في الحكم لا يترك والذي يقوم مقام النتف في ذلك التنور لكنه يرق الجلد فقد يتأذى صاحبه به ولا سيما إن كان جلده رقيقا وتستحب البداءة في إزالته باليد اليمنى، ويزيل ما في اليمنى بأصابع اليسرى وكذا اليسرى إن أمكن وإلا فباليمنى. قوله: "وتقليم الأظفار" وهو تفعيل من القلم وهو القطع. ووقع في حديث ابن عمر "قص الأظفار" كما في حديث الباب، ووقع في حديثه في الباب الذي يليه بلفظ: "تقليم" وفي حديث عائشة وأنس "قص الأظفار" والتقليم أعم، والأظفار جمع ظفر بضم الظاء والفاء وبسكونها، وحكى أبو زيد كسر أوله، وأنكره ابن سيده، وقد قيل إنها قراءة الحسن، وعن أبي السماك أنه
(10/344)

قرئ بكسر أوله وثانيه، والمراد إزالة ما يزيد على ما يلابس رأس الإصبع من الظفر، لأن الوسخ يجتمع فيه فيستقذر، وقد ينتهي إلى حد يمنع من وصول الماء إلى ما يجب غسله في الطهارة، وقد حكى أصحاب الشافعي فيه وجهين: فقطع المتولي بأن الوضوء حينئذ لا يصح، وقطع الغزالي في "الإحياء" بأنه يعفى عن مثل ذلك، واحتج بأن غالب الأعراب لا يتعاهدون ذلك، ومع ذلك لم يرد في شيء من الآثار أمرهم بإعادة الصلاة وهو ظاهر، لكن قد يعلق بالظفر إذا طال النجو لمن استنجى بالماء ولم يمعن غسله فيكون إذا صلى حاملا للنجاسة، وقد أخرج البيهقي في "الشعب" من طريق قيس بن أبي حازم قال: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة فأوهم فيها، فسئل فقال: ما لي لا أوهم ورفع أحدكم بين ظفره وأنملته" رجاله ثقات مع إرساله، وقد وصله الطبراني من وجه آخر. والرفغ بضم الراء وبفتحها وسكون الفاء بعدها غين معجمة يجمع على أرفاغ وهي مغابن الجسد كالإبط وما بين الأنثيين والفخذين وكل موضع يجتمع فيه الوسخ، فهو من تسمية الشيء باسم ما جاوره، والتقدير وسخ رفغ أحدكم، والمعنى أنكم لا تقلمون أظفاركم ثم تحكون بها أرفاغكم فيتعلق بها ما في الأرفاغ من الأوساخ المجتمعة، قال أبو عبيد: أنكر عليهم طول الأظفار وترك قصها. قلت: وفيه إشارة إلى الندب إلى تنظيف المغابن كلها، ويستحب الاستقصاء في إزالتها إلى حد لا يدخل منه ضرر على الأصبع، واستحب أحمد للمسافر أن يبقي شيئا لحاجته إلى الاستعانة لذلك غالبا. ولم يثبت في ترتيب الأصابع عند القص شيء من الأحاديث، لكن جزم النووي في "شرح مسلم" بأنه يستحب البداءة بمسبحة اليمنى ثم بالوسطى ثم البنصر ثم الخنصر ثم الإبهام، وفي اليسرى بالبداعة بخنصرها ثم بالبنصر إلى الإبهام ويبدأ في الرجلين بخنصر اليمنى إلى الإبهام، وفي اليسرى بإبهامها إلى الخنصر، ولم يذكر للاستحباب مستندا. وقال في "شرح المهذب" بعد أن نقل عن الغزالي وأن المازري اشتد إنكاره عليه فيه: لا بأس بما قاله الغزالي إلا في تأخير إبهام اليد اليمنى فالأولى أن تقدم اليمنى بكمالها على اليسرى، قال: وأما الحديث الذي ذكره الغزالي فلا أصل له. اهـ. وقال ابن دقيق العيد: يحتاج من ادعى استحباب تقديم اليد في القص على الرجل إلى دليل، فإن الإطلاق يأبى ذلك. قلت: يمكن أن يؤخذ بالقياس على الوضوء والجامع التنظيف، وتوجيه البداءة باليمنى لحديث عائشة الذي مر في الطهارة "كان يعجبه التيمن في طهوره وترجله وفي شأنه كله" والبداءة بالمسبحة منها لكونها أشرف الأصابع لأنها آلة التشهد، وأما اتباعها بالوسطى فلأن غالب من يقلم أظفاره يقلمها قبل ظهر الكف فتكون الوسطى جهة يمينه فيستمر إلى أن يختم بالخنصر ثم يكمل اليد بقص الإبهام، وأما اليسرى فإذا بدأ بالخنصر لزم أن يستمر على جهة اليمين إلى الإبهام، قال شيخنا في "شرح الترمذي" وكان ينبغي أن لو أخر إبهام اليمنى ليختم بها ويكون قد استمر على الانتقال إلى جهة اليمنى، ولعل الأول لحظ فصل كل يد عن الأخرى، وهذا التوجيه في اليمين يعكر على ما نقله في الرجلين إلا أن يقال غالب من يقلم أظفار رجليه يقلمها من جهة باطن القدمين فيستمر التوجيه. وقد قال صاحب "الإقليد" قضية الأخذ في ذلك بالتيامن أن يبدأ بخنصر اليمنى إلى أن ينتهي إلى خنصر اليسرى في اليدين والرجلين معا، وكأنه لحظ أن القص يقع من باطن الكفين أيضا، وذكر الدمياطي أنه تلقى عن بعض المشايخ أن من قص أظفاره مخالفا لم يصبه رمد وأنه جرب ذلك مدة طويلة. وقد نص أحمد على استحباب قصها مخالفا، وبين ذلك أبو عبد الله بن بطة من أصحابهم فقال: يبدأ بخنصره اليمنى ثم الوسطى ثم الإبهام ثم البنصر ثم السبابة، ويبدأ بإبهام اليسرى على العكس من اليمنى، وقد أنكر ابن دقيق العيد الهيئة التي ذكرها الغزالي ومن تبعه وقال: كل ذلك لا أصل له وإحداث استحباب
(10/345)

لا دليل عليه، وهو قبيح عندي بالعالم، ولو تخيل متخيل أن البداءة بمسبحة اليمنى من أجل شرفها فبقية الهيئة لا يتخيل فيه ذلك. نعم البداءة بيمنى اليدين ويمنى الرجلين له أصل وهو كان يعجبه التيامن اهـ. ولم يثبت أيضا في استحباب قص الظفر يوم الخميس حديث، وقد أخرجه جعفر المستغفري بسند مجهول، ورويناه في "مسلسلات التيمي" من طريقه، وأقرب ما وقفت عليه في ذلك ما أخرجه البيهقي من مرسل أبي جعفر الباقر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب أن يأخذ من أظفاره وشاربه يوم الجمعة" وله شاهد موصول عن أبي هريرة، لكن سنده ضعيف أخرجه البيهقي أيضا في "الشعب"، وسئل أحمد عنه فقال: يسن في يوم الجمعة قبل الزوال، وعنه يوم الخميس، وعنه يتخير، وهذا هو المعتمد أنه يستحب كيف ما احتاج إليه؛ وأما ما أخرج مسلم من حديث أنس "وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا يترك أكثر من أربعين يوما" كذا وقت فيه على البناء للمجهول، وأخرجه أصحاب السنن بلفظ: "وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأشار العقيلي إلى أن جعفر بن سليمان الضبعي تفرد به، وفي حفظه شيء، وصرح ابن عبد البر بذلك فقال: لم يروه غيره، وليس بحجة وتعقب بأن أبا داود والترمذي أخرجاه من رواية صدقة بن موسى عن ثابت، وصدقة بن موسى وإن كان فيه مقال لكن تبين أن جعفرا لم ينفرد به وقد أخرج ابن ماجه نحوه من طريق علي بن جدعان عن أنس، وفي علي أيضا ضعف. وأخرجه ابن عدي من وجه ثالث من جهة عبد الله بن عمران شيخ مصري عن ثابت عن أنس، لكن أتى فيه بألفاظ مستغربة قال: أن يحلق الرجل عانته كل أربعين يوما، وأن ينتف إبطه كلما طلع، ولا يدع شاربيه يطولان: وأن يقلم أظفاره من الجمعة إلى الجمعة. وعبد الله والراوي عنه مجهولان. قال القرطبي في "المفهم" ذكر الأربعين تحديد لأكثر المدة، ولا يمنع تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة، والضابط في ذلك الاحتياج. وكذا قال النووي: المختار أن ذلك كله يضبط بالحاجة. وقال في "شرح المهذب" ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأشخاص، والضابط الحاجة في هذا وفي جميع الخصال المذكورة. قلت: لكن لا يمنع من التفقد يوم الجمعة، فإن المبالغة في التنظف فيه مشروع والله أعلم. وفي "سؤالات مهنا" عن أحمد قلت له: "يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه؟ قال: يدفنه. قلت: بلغك فيه شيء؟ قال: كان ابن عمر يدفنه" وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن الشعر والأظفار وقال: لا يتلعب به سحرة بني آدم. قلت: وهذا الحديث أخرجه البيهقي من حديث وائل بن حجر نحوه. وقد استحب أصحابنا دفنها لكونها أجزاء من الآدمي والله أعلم. "فرع": لو استحق قص أظفاره فقص بعضا أبدى فيه ابن دقيق العيد احتمالا من منع لبس إحدى النعلين وترك الأخرى كما تقدم في بابه قريبا. قوله: "وقص الشارب" تقدم القول في القص أول الباب، وأما الشارب فهو الشعر النابت على الشفة العليا. واختلف في جانبيه وهما السبالان فقيل: هما من الشارب ويشرع قصهما معه، وقيل هما من جملة شعر اللحية وأما القص فهو الذي في أكثر الأحاديث كما هنا، وفي حديث عائشة وحديث أنس كذلك كلاهما عند مسلم، وكذا حديث حنظلة عن ابن عمر في أول الباب، وورد الخبر بلفظ: "الحلق" وهي رواية النسائي عن محمد بن عبد الله بن يزيد عن سفيان بن عيينة بسند هذا الباب، ورواه جمهور أصحاب ابن عيينة بلفظ: "القص" وكذا سائر الروايات عن شيخه الزهري. ووقع عند النسائي من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: "تقصير الشارب" نعم وقع الأمر بما يشعر بأن رواية الحلق محفوظ كحديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ: "جزوا
(10/346)

الشوارب" وحديث ابن عمر المذكور في الباب الذي يليه بلفظ: "أحفوا الشوارب " وفي الباب الذي يليه بلفظ: "انهكوا الشوارب" فكل هذه الألفاظ تدل على أن المطلوب المبالغة في الإزالة، لأن الجز وهو بالجيم والزاي الثقيلة قص الشعر والصوف إلى أن يبلغ الجلد، والإحفاء بالمهملة والفاء الاستقصاء ومنه "حتى أحفوه بالمسألة" قال أبو عبيد الهروي معناه ألزقوا الجز بالبشرة. وقال الخطابي: هو بمعنى الاستقصاء، والنهك بالنون والكاف المبالغة في الإزالة، ومنه ما تقدم في الكلام على الختان قوله صلى الله عليه وسلم للخافضة "أشمي ولا تنهكي" أي لا تبالغي في ختان المرأة وجرى على ذلك أهل اللغة. وقال ابن بطال: النهك التأثير في الشيء وهو غير الاستئصال، قال النووي: المختار في قص الشارب أنه يقصه حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفه من أصله، وأما رواية: "أحفوا" فمعناها أزيلوا ما طال على الشفتين، قال ابن دقيق العيد: ما أدري هل نقله عن المذهب أو قاله اختيارا منه لمذهب مالك. قلت: صرح "في شرح المهذب" بأن هذا مذهبنا. وقال الطحاوي لم أر عن الشافعي في ذلك شيئا منصوصا، وأصحابه الذين رأيناهم كالمزني والربيع كانوا يحفون، وما أظنهم أخذوا ذلك إلا عنه وكان أبو حنيفة وأصحابه يقولون: الإحفاء أفضل من التقصير. وقال ابن القاسم عن مالك: إحفاء الشارب عندي مثلة، والمراد بالحديث المبالغة في أخذ الشارب حتى يبدو حرف الشفتين وقال أشهب: سألت مالكا عمن يحفي شاربه فقال: أرى أن يوجع ضربا. وقال لمن يحلق شاربه: هذه بدعة ظهرت في الناس. اهـ. وأغرب ابن العربي فنقل عن الشافعي أنه يستحب حلق الشارب، وليس ذلك معروفا عند أصحابه، قال الطحاوي: الحلق هو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد اهـ. وقال الأثرم: كان أحمد يحفي شاربه إحفاء شديدا، ونص على أنه أولى من القص. وقال القرطبي: وقص الشارب أن يأخذ ما طال على الشفة بحيث لا يؤذي الأكل ولا يجتمع فيه الوسخ. قال: والجز والإحفاء هو القص المذكور، وليس بالاستئصال عند مالك. قال: وذهب الكوفيون إلى أنه الاستئصال، وبعض العلماء إلى التخيير في ذلك. قلت: هو الطبري، فإنه حكى قول مالك وقول الكوفيين ونقل عن أهل اللغة أن الإحفاء الاستئصال ثم قال: دلت السنة على الأمرين، ولا تعارض، فإن القص يدل على أخذ البعض والإحفاء يدل على أخذ الكل وكلاهما ثابت فيتخير فيما شاء. وقال ابن عبد البر: الإحفاء محتمل لأخذ الكل، والقص مفسر للمراد، والمفسر مقدم على المجمل اهـ. ويرجح قول الطبري ثبوت الأمرين معا في الأحاديث المرفوعة، فأما الاقتصار على القص ففي حديث المغيرة بن شعبة "ضفت النبي صلى الله عليه وسلم وكان شاربي وفي فقصه على سواك" أخرجه أبو داود. واختلف في المراد بقوله: "على سواك" فالراجح أنه وضع سواكا عند الشفة تحت الشعر وأخذ الشعر بالمقص، وقيل المعنى قصه على أثر سواك، أي بعدما تسوك. ويؤيد الأول ما أخرجه البيهقي في هذا الحديث قال فيه: "فوضع السواك تحت الشارب وقص عليه" وأخرج البزار من حديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا وشاربه طويل فقال: ائتوني بمقص وسواك، فجعل السواك على طرفه ثم أخذ ما جاوزه" وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس وحسنه "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص شاربه" وأخرج البيهقي والطبراني من طريق شرحبيل بن مسلم الخولاني قال: "رأيت خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصون شواربهم: أبو أمامة الباهلي، والمقدام بن معدي كرب الكندي، وعتبة بن عوف السلمي والحجاج بن عامر الثمالي، وعبد الله بن بسر. وأما الإحفاء ففي رواية ميمون بن مهران عن عبد الله بن عمر قال: "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس فقال: إنهم يوفون سبالهم، ويحلقون لحالهم فخالفوهم" قال: فكان ابن عمر يستقرض سبلته فيجزها كما يجز
(10/347)

الشاة أو البعير" أخرجه الطبري والبيهقي، وأخرجا من طريق عبد الله بن رافع قال: "رأيت أبا سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وابن عمر ورافع بن خديج وأبا أسيد الأنصاري وسلمة بن الأكوع وأبا رافع ينهكون شواربهم كالحلق" لفظ الطبري. وفي رواية البيهقي "يقصون شواربهم مع طرف الشفة" وأخرج الطبري من طرق عن عروة وسالم والقاسم وأبي سلمة أنهم كانوا يحلقون شواربهم. وقد تقدم في أول الباب أثر ابن عمر أنه كان يحفي شاربه حتى ينظر إلى بياض الجلد، لكن كل ذلك محتمل لأن يراد استئصال جميع الشعر النابت على الشفة العليا، ومحتمل لأن يراد استئصال ما يلاقي حمرة الشفة من أعلاها ولا يستوعب بقيتها، نظرا إلى المعنى في مشروعية ذلك وهو مخالفة المجوس والأمن من التشويش على الأكل وبقاء زهومة المأكول فيه، وكل ذلك يحصل بما ذكرنا، وهو الذي يجمع مفترق الأخبار الواردة في ذلك، وبذلك جزم الداودي في شرح أثر ابن عمر المذكور، وهو مقتضى تصرف البخاري لأنه أورد أثر ابن عمر وأورد بعده حديثه وحديث أبي هريرة في قص الشارب، فكأنه أشار إلى أن ذلك هو المراد من الحديث. وعن الشعبي أنه كان يقص شاربه حتى يظهر حرف الشفة العلياء وما قاربه من أعلاه ويأخذ ما يزيد مما فوق ذلك وينزع ما قارب الشفة من جانبي الفم ولا يزيد على ذلك، وهذا أعدل ما وقفت عليه من الآثار. وقد أبدى ابن العربي لتخفيف شعر الشارب معنى لطيفا فقال: إن الماء النازل من الأنف يتلبد به الشعر لما فيه من اللزوجة ويعسر تنقيته عند غسله، وهو بإزاء حاسة شريفة وهي الشم، فشرع تخفيفه ليتم الجمال والمنفعة به. قلت: وذلك يحصل بتخفيفه ولا يستلزم إحفافه وإن كان أبلغ، وقد رجح الطحاوي الحلق على القص بتفضيله صلى الله عليه وسلم الحلق على التقصير في النسك، ووهى ابن التين الحلق بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من حلق" وكلاهما احتجاج بالخبر في غير ما ورد فيه ولا سيما الثاني، ويؤخذ مما أشار إليه ابن العربي مشروعية تنظيف داخل الأنف وأخذ شعره إذا طال، والله أعلم. وقد روى مالك عن زيد بن أسلم "أن عمر كان إذا غضب فتل شاربه" فدل على أنه كان يوفره. وحكى ابن دقيق العيد عن بعض الحنفية أنه قال: لا بأس بإبقاء الشوارب في الحرب إرهابا للعدو، وزيفه. "فصل": في فوائد تتعلق بهذا الحديث: الأولى - قال النووي: يستحب أن يبدأ في قص الشارب باليمين. الثانية يتخير بين أن يقص ذلك بنفسه أو يولي ذلك غيره لحصول المقصود من غير هتك مروءة بخلاف الإبط، ولا ارتكاب حرمة بخلاف العانة. قلت: محل ذلك حيث لا ضرورة، وأما من لا يحسن الحلق فقد يباح له إن لم تكن له زوجة تحسن الحلق أن يستعين بغيره بقدر الحاجة، لكن محل هذا إذا لم يجد ما يتنور به فإنه يغني عن الحلق ويحصل به المقصود وكذا من لا يقوى على النتف ولا يتمكن من الحلق إذا استعان بغيره في الحلق لم تهتك المروءة من أجل الضرورة كما تقدم عن الشافعي، وهذا لمن لم يقو على التنور من أجل أن النورة تؤذي الجلد الرقيق كجلد الإبط، وقد يقال مثل ذلك في حلق العانة من جهة المغابن التي بين الفخذ والأنثيين، وأما الأخذ من الشارب فينبغي فيه التفصيل بين من يحسن أخذه بنفسه بحيث لا يتشوه وبين من لا يحسن فيستعين بغيره، ويلتحق به من لا يجد مرآة ينظر وجهه فيها عند أخذه. الثالثة: قال النووي: يتأدى أصل السنة بأخذ الشارب بالمقص وبغيره. وتوقف ابن دقيق العيد في قرضه بالسن ثم قال: من نظر إلى اللفظ منع ومن نظر إلى المعنى أجاز. الرابعة: قال ابن دقيق العيد: لا أعلم أحدا قال بوجوب قص الشارب من حيث هو هو، واحترز بذلك من وجوبه بعارض حيث يتعين
(10/348)

كما تقدمت الإشارة إليه من كلام ابن العربي، وكأنه لم يقف على كلام ابن حزم في ذلك فإنه قد صرح بالوجوب في ذلك وفي إعفاء اللحية.
(10/349)

باب تقيلم الأظافر
...