بَاب مَنْ وَصَلَ وَصَلَهُ اللَّهُ
 
5987- حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ قَالَ سَمِعْتُ عَمِّي سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَالَتْ الرَّحِمُ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ قَالَ نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ قَالَتْ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَهُوَ لَكِ" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} .
5988- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الرَّحِمَ شَجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَقَالَ اللَّهُ مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ" .
5989- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الرَّحِمُ شِجْنَةٌ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ" .
قوله: "باب من وصل وصله الله" أي من وصل رحمه. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك، ومعاوية هو ابن أبي مزرد بضم الميم وفتح الزاي وتشديد الراء بعدها مهملة، تقدم ضبطه وتسميته في أول الزكاة، ولمعاوية بن أبي مزرد في هذا الباب حديث آخر وهو ثالث أحاديث الباب من طريق عائشة. قوله: "إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ" تقدم تأويل فرغ في تفسير القتال، قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون المراد بالخلق جميع المخلوقات، ويحتمل أن يكون المراد به المكلفين. وهذا القول يحتمل أن يكون بعد خلق السماوات والأرض وإبرازها في الوجود، ويحتمل أن يكون بعد خلقها كتبا في اللوح المحفوظ ولم يبرز بعد إلا اللوح والقلم، ويحتمل أن يكون بعد انتهاء خلق أرواح بني آدم عند قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} لما أخرجهم من صلب آدم عليه السلام مثل الذر. قوله: "قامت الرحم فقالت " قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون بلسان الحال ويحتمل أن يكون بلسان المقال قولان مشهوران، والثاني أرجح. وعلى الثاني فهل تتكلم كما هي أو بخلق الله لها عند كلامها حياة وعقلا؟ قولان أيضا مشهوران، والأول أرجح لصلاحية القدرة العامة لذلك، ولما في الأولين من تخصيص عموم لفظ القرآن والحديث بغير دليل، ولما يلزم منه من حصر قدرة القادر التي لا يحصرها شيء. قلت: وقد تقدم في تفسير القتال حمل عياض له على المجاز، وأنه من باب ضرب المثل، وقوله أيضا يجوز أن يكون الذي نسب إليه القول ملكا يتكلم على لسان الرحم، وتقدم أيضا ما يتعلق بزيادة في هذا الحديث من وجه آخر عن معاوية بن أبي مزرد وهي قوله: "فأخذت بحقو الرحمن " ووقع في حديث ابن عباس عند الطبراني "إن الرحم أخذت بحجزة الرحمن" وحكى
(10/417)

شيخنا في "شرح الترمذي" أن المراد بالحجزة هنا قائمة العرش، وأيد ذلك بما أخرجه مسلم من حديث عائشة "إن الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش" وتقدم أيضا ما يتعلق بقوله: "هذا مقام العائذ بك من القطيعة" في تفسير القتال، ووقع في رواية حبان بن موسى عن ابن المبارك بلفظ: "هذا مكان" بدل "مقام" وهو تفسير المراد أخرجه النسائي. قوله: "أصل من وصلك وأقطع من قطعك" في ثاني أحاديث الباب من وجه آخر عن أبي هريرة "من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته" قال ابن أبي جمرة: الوصل من الله كناية عن عظيم إحسانه، وإنما خاطب الناس بما يفهمون، ولما كان أعظم ما يعطيه المحبوب لمحبة الوصال وهو القرب منه وإسعافه بما يريد ومساعدته على ما يرضيه، وكانت حقيقة ذلك مستحيلة في حق الله تعالى، عرف أن ذلك كناية عن عظيم إحسانه لعبده. قال: وكذا القول في القطع، هو كناية عن حرمان الإحسان. وقال القرطبي: وسواء قلنا إنه يعني القول المنسوب إلى الرحم على سبيل المجاز أو الحقيقة أو إنه على جهة التقدير والتمثيل كأن يكون المعنى: لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت كذا، ومثله {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً} الآية، وفي آخرها {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} فمقصود هذا الكلام الإخبار بتأكد أمر صلة الرحم، وأنه تعالى أنزلها منزلة من استجار به فأجاره فأدخله في حمايته، وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من صلى الصبح فهو في ذمة الله، وإن من يطلبه الله بشيء من ذمته يدركه ثم يكبه على وجهه في النار" أخرجه مسلم. قوله: "حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن بلال حدثنا عبد الله بن دينار" لسليمان في هذا المعنى ثلاثة أحاديث: أحدها: هذا، والآخر: الحديث الذي قبله - وقد سبق من طريقه في تفسير القتال ويأتي في التوحيد. قوله: "الرحم شجنة" بكسر المعجمة وسكون الجيم بعدها نون، وجاء بضم أوله وفتحه رواية ولغة. وأصل الشجنة عروق الشجر المشتبكة، والشجن بالتحريك واحد الشجون وهي طرق الأودية، ومنه قولهم: "الحديث ذو شجون" أي يدخل بعضه في بعض. وقوله: "من الرحمن" أي أخذ اسمها من هذا الاسم كما في حديث عبد الرحمن بن عوف في السنن مرفوعا: "أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي" والمعنى أنها أثر من آثار الرحمة مشتبكة بها؛ فالقاطع لها منقطع من رحمة الله. وقال الإسماعيلي: معنى الحديث أن الرحم اشتق اسمها من اسم الرحمن فلها به علقة، وليس معناه أنها من ذات الله تعالى الله عن ذلك. قال القرطبي: الرحم التي توصل عامة وخاصة، فالعامة رحم الدين وتجب مواصلتها بالتوادد والتناصح والعدل والإنصاف والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة. وأما الرحم الخاصة فتزيد للنفقة على القريب وتفقد أحوالهم والتغافل عن زلاتهم. وتتفاوت مراتب استحقاقهم في ذلك كما في الحديث الأول من كتاب الأدب "الأقرب فالأقرب" وقال ابن أبي جمرة: تكون صلة الرحم بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء. والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة، وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة، فإن كانوا كفارا أو فجارا فمقاطعتهم في الله هي صلتهم، بشرط بذل الجهد في وعظهم، ثم إعلامهم إذا أصروا أن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق، ولا يسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا إلى الطريق المثلى. قوله: "فقال الله" زاد الإسماعيلي في روايته: "لها" وهذه الفاء عاطفة على شيء محذوف، وأحسن ما يقدر له ما في الحديث الذي قبله " فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال الله الخ". حديث عائشة، وهو
(10/418)

بلفظ حديث أبي هريرة الذي قبله إلا أنه بلفظ الغيبة. وفي الأحاديث الثلاثة تعظيم أمر الرحم، وأن صلتها مندوب مرغب فيه وأن قطعها من الكبائر لورود الوعيد الشديد فيه. واستدل به على أن الأسماء توقيفية، وعلى رجحان القول الصائر إلى أن المراد بقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} أسماء جميع الأشياء سواء كانت من الذوات أو من الصفات، والله أعلم.
(10/419)