بَاب رَحْمَةِ الْوَلَدِ وَتَقْبِيلِهِ وَمُعَانَقَتِهِ
 
وَقَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ
5994- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي يَعْقُوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ قَالَ: "كُنْتُ شَاهِداً لِابْنِ عُمَرَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ. فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا يَسْأَلُنِي عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنْ الدُّنْيَا" .
5995- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: "جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ تَسْأَلُنِي فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئاً فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْراً مِنْ النَّارِ" .
5996- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ حَدَّثَنَا أَبُو قَتَادَةَ قَالَ: "خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ عَلَى عَاتِقِهِ فَصَلَّى فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَفَعَهَا".
5997- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِساً فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَداً فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ" .
5998- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ" .
5999- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيّاً فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا: لاَ
(10/426)

وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ. فَقَالَ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا" .
قوله: "باب رحمة الولد وقبلته ومعانقته" قال ابن بطال: يجوز تقبيل الولد الصغير في كل عضو منه وكذا الكبير عند أكثر العلماء ما لم يكن عورة، وتقدم في مناقب فاطمة عليها السلام أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبلها، وكذا كان أبو بكر يقبل ابنته عائشة. قوله: "وقال ثابت عن أنس: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه" سقط هذا التعليق لأبي ذر عن غبر الكشميهني، وقد وصله المؤلف في الجنائز من طريق قريش بن حبان عن ثابت في حديث طويل. وإبراهيم هو ابن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية. حديث ابن عمر. قوله: "مهدي" هو ابن ميمون، وثبت ذلك في رواية أبي ذر. قوله: "ابن أبي يعقوب" هو محمد بن عبد الله الضبي البصري، وابن أبي نعم بضم النون وسكون المهملة هو عبد الرحمن، واسم أبيه لا يعرف، والسند كله إلى عبد الرحمن هذا بصريون، وهو كوفي عابد اتفقوا على توثيقه، وشذ ابن أبي خيثمة فحكى عن ابن معين أنه ضعفه. قوله: "كنت شاهدا لابن عمر" أي حاضرا عنده. قوله: "وسأله رجل" الجملة حالية، واسم الرجل السائل ما عرفته. قوله: "عن دم البعوض" تقدم في المناقب بلفظ: "الذباب" بضم المعجمة وموحدتين. قال الكرماني لعله سأل عنهما معا. قلت: أو أطلق الراوي الذباب على البعوض لقرب شبهه منه وإن كان في البعوض معنى زائد، قال الجاحظ: العرب تطلق على النحل والدبر وما أشبهه ذلك ذبابا. قوله: "وقد قتلوا ابن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني الحسين بن علي. قوله: "وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول" هي جملة حالية. قوله: "ريحانتاي" كذا للأكثر، ولأبي ذر عن المستملي والحموي "ريحاني" بكسر النون والتخفيف على الإفراد وكذا عند النسفي، ولأبي ذر عن الكشميهني: "ريحانتي" بزيادة تاء التأنيث، قال ابن التين: وهو وهم والصواب "ريحانتاي". قلت: كأنه قرأه بفتح المثناة وتشديد الياء الأخيرة على التثنية فجعله وهما، ويجوز أن يكون بكسر المثناة والتخفيف فلا يكون وهما، والمراد بالريحان هنا الرزق قاله ابن التين. وقال صاحب "الفائق": أي هما من رزق الله الذي رزقنيه، يقال سبحان الله وريحانه أي أسبح الله وأسترزقه، ويجوز أن يريد بالريحان المشموم يقال حباني بطاقة ريحان، والمعنى أنهما مما أكرمني الله وحباني به، لأن الأولاد يشمون ويقبلون فكأنهم من جملة الرياحين. وقوله: "من الدنيا" أي نصيبي من الريحان الدنيوي. وقال ابن بطال يؤخذ من الحديث أنه يجب تقديم ما هو أوكد على المرء من أمر دينه لإنكار ابن عمر على من سأله عن دم البعوض مع تركه الاستغفار من الكبيرة التي ارتكبها بالإعانة على قتل الحسين فوبخه بذلك، وإنما خصه بالذكر لعظم قدر الحسين ومكانه من النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. والذي يظهر أن ابن عمر لم يقصد ذلك الرجل بعينه بل أراد التنبيه على جفاء أهل العراق وغلبة الجهل عليهم بالنسبة لأهل الحجاز، ولا مانع أن يكون بعد ذلك أفتى السائل عن خصوص ما سأل عنه لأنه لا يحل له كتمان العلم إلا إن حمل على أن السائل كان متعنتا. ويؤيد ما قلته أنه ليس في القصة ما يدل على أن السائل المذكور كان ممن أعان على قتل الحسين، فإن ثبت ذلك فالقول ما قال ابن بطال والله أعلم. قوله: "عبد الله بن أبي بكر" أي ابن محمد بن عمرو بن حزم، ومضى في الزكاة من رواية ابن المبارك عن معمر "عبد الله بن أبي بكر بن حزم" فنسب أباه لجد أبيه وإدخال الزهري بينه وبين عروة رجلا مما يؤذن بأنه قليل التدليس، وقد أخرجه الترمذي مختصرا من طريق عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن معمر بإسقاط عبد الله بن أبي بكر من السند، فإن كان محفوظا احتمل أن يكون الزهري سمعه من عروة مختصرا
(10/427)

وسمعه عنه مطولا وإلا فالقول ما قال ابن المبارك. قوله: "جاءتني امرأة ومعها بنتان" لم أقف على أسمائهن، وسقطت الواو لغير أبي ذر من قوله: "ومعها" وكذا هو في رواية ابن المبارك. قوله: "فلم تجد عندي غير تمرة واحدة فأعطيتها فقسمتها بين ابنتيها" زاد معمر "ولم تأكل منها شيئا". قوله: "ثم قامت فخرجت فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته" هكذا في رواية عروة. ووقع في رواية عراك بن مالك عن عائشة "جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهن تمرة، ورفعت تمرة إلى فيها لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها، فأعجبني شأنها" الحديث أخرجه مسلم. وللطبراني من حديث الحسن بن علي نحوه، ويمكن الجمع بأن مرادها بقوله في حديث عروة فلم تجد عندي غير تمرة واحدة أي أخصها بها، ويحتمل أنها لم يكن عندها في أول الحال سوى واحدة فأعطتها ثم وجدت ثنتين، ويحتمل تعدد القصة. قوله: "من يلي من هذه البنات شيئا" كذا للأكثر بتحتانية مفتوحة أوله من الولاية، وللكشميهني بموحدة مضمومة من البلاء. وفي رواية الكشميهني أيضا: "بشيء" وقواه عياض وأيده برواية شعيب بلفظ: "من ابتلي" وكذا وقع في رواية معمر عند الترمذي، واختلف في المراد بالابتلاء هل هو نفس وجودهن أو ابتلي بما يصدر منهن، وكذلك هل هو على العموم في البنات، أو المراد من اتصف منهن بالحاجة إلى ما يفعل به. قوله: "فأحسن إليهن" هذا يشعر بأن المراد بقوله في أول الحديث: "من هذه" أكثر من واحدة، وقد وقع في حديث أنس عند مسلم: "من عال جاريتين " ولأحمد من حديث أم سلمة " من أنفق على ابنتين أو أختين أو ذاتي قرابة يحتسب عليهما" والذي يقع في أكثر الروايات بلفظ الإحسان وفي رواية عبد المجيد فصبر عليهن، ومثله في حديث عقبة بن عامر في "الأدب المفرد" وكذا وقع في ابن ماجه وزاد: "وأطعمهن وسقاهن وكساهن" وفي حديث ابن عباس عند الطبراني فأنفق عليهن وزوجهن وأحسن أدبهن وفي حديث جابر عند أحمد وفي الأدب المفرد "يؤويهن ويرحمهن ويكفلهن" زاد الطبري فيه: "ويزوجهن" وله نحوه من حديث أبي هريرة في "الأوسط" وللترمذي وفي "الأدب المفرد" من حديث أبي سعيد " فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن" وهذه الأوصاف يجمعها لفظ: "الإحسان" الذي اقتصر عليه في حديث الباب، وقد اختلف في المراد بالإحسان هل يقتصر به على قدر الواجب أو بما زاد عليه؟ والظاهر الثاني، فإن عائشة أعطت المرأة التمرة فآثرت بها ابنتيها فوصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان بما أشار إليه من الحكم المذكور، فدل على أن من فعل معروفا لم يكن واجبا عليه أو زاد على قدر الواجب عليه عد محسنا، والذي يقتصر على الواجب وإن كان يوصف بكونه محسنا لكن المراد من الوصف المذكور قدر زائد، وشرط الإحسان أن يوافق الشرع لا ما خالفه، والظاهر أن الثواب المذكور إنما يحصل لفاعله إذا استمر إلى أن يحصل استغناؤهن عنه بزوج أو غيره كما أشير إليه في بعض ألفاظ الحديث، والإحسان إلى كل أحد بحسب حاله، وقد جاء أن الثواب المذكور يحصل لمن أحسن لواحدة فقط ففي حديث ابن عباس المتقدم "فقال رجل من الأعراب: أو اثنتين؟ فقال: أو اثنتين" وفي حديث عوف بن مالك عند الطبراني "فقالت امرأة" وفي حديث جابر "وقيل" وفي حديث أبي هريرة "قلنا" وهذا يدل على تعدد السائلين، وزاد في حديث جابر "فرأى بعض القوم أن لو قال وواحدة لقال وواحدة" وفي حديث أبي هريرة "قلنا: وثنتين؟ قال: وثنتين. قلنا: وواحدة؟ قال: وواحدة" وشاهده حديث ابن مسعود رفعه: " من كانت له ابنة فأدبها وأحسن أدبها وعلمها فأحسن تعليمها وأوسع عليها من نعمة الله التي أوسع عليه" أخرجه الطبراني بسند واه. قوله:
(10/428)

"كن له سترا من النار" كذا في أكثر الأحاديث التي أشرت إليها، ووقع في رواية عبد المجيد "حجابا" وهو بمعناه. وفي الحديث تأكيد حق البنات لما فيهن من الضعف غالبا عن القيام بمصالح أنفسهن، بخلاف الذكور لما فيهم من قوة البدن وجزالة الرأي وإمكان التصرف في الأمور المحتاج إليها في أكثر الأحوال. قال ابن بطال: وفيه جواز سؤال المحتاج، وسخاء عائشة لكونها لم تجد إلا تمرة فآثرت بها، وأن القليل لا يمتنع التصدق به لحقارته، بل ينبغي للمتصدق أن يتصدق بما تيسر له قل أو كثر. وفيه جواز ذكر المعروف إن لم يكن على وجه الفخر ولا المنة. وقال النووي تبعا لابن بطال: إنما سماه ابتلاء لأن الناس يكرهون البنات، فجاء الشرع بزجرهم عن ذلك، ورغب في إبقائهن وترك قتلهن بما ذكر من الثواب الموعود به من أحسن إليهن وجاهد نفسه في الصبر عليهن. وقال شيخنا في "شرح الترمذي": يحتمل أن يكون معنى الابتلاء هنا الاختبار، أي من اختبر بشيء من البنات لينظر ما يفعل أيحسن إليهن أو يسيء، ولهذا قيده في حديث أبي سعيد بالتقوى، فإن من لا يتقي الله لا يأمن أن يتضجر بمن وكله الله إليه، أو يقصر عما أمر بفعله، أولا يقصد بفعله امتثال أمر الله وتحصيل ثوابه والله أعلم. قوله: "وأمامة بنت أبي العاص" أي ابن الربيع، وهي ابنة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فإذا ركع وضع" كذا للأكثر بحذف المفعول، وللكشميهني: "وضعها" وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أوائل الصلاة في أبواب سترة المصلي، ووقع هنا بلفظ: "ركع" وهناك بلفظ: "سجد" ولا منافاة بينهما بل يحمل على أنه كان يفعل ذلك في حال الركوع والسجود، وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة، وهو رحمة الولد، وولد الولد ولد. ومن شفقته صلى الله عليه وسلم ورحمته لأمامة أنه كان إذا ركع أو سجد يخشى عليها أن تسقط فيضعها بالأرض وكأنها كانت لتعلقها به لا تصبر في الأرض فتجزع من مفارقته، فيحتاج أن يحملها إذا قام. واستنبط منه بعضهم عظم قدر رحمة الولد لأنه تعارض حينئذ المحافظة على المبالغة في الخشوع والمحافظة على مراعاة خاطر الولد فقدم الثاني، ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك لبيان الجواز. قوله: "أن أبا هريرة قال" كذا في رواية شعيب، ووقع عند مسلم من رواية سفيان بن عيينة ومعمر فرقهما كلاهما عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة. قوله: "وعنده الأقرع بن حابس" الجملة حالية، وقد تقدم نسب الأقرع في تفسير سورة الحجرات، وهو من المؤلفة، وممن حسن إسلامه. قوله: "إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا" زاد الإسماعيلي في روايته: "ما قبلت إنسانا قط". قوله: "من لا يرحم لا يرحم" هو بالرفع فيهما على الخبر. وقال عياض: هو للأكثر. وقال أبو البقاء "من" موصولة ويجوز أن تكون شرطية فيقرأ بالجزم فيهما، قال السهيلي: جعله على الخبر أشبه بسياق الكلام، لأنه سيق للرد على من قال: "إن لي عشرة من الولد الخ" أي الذي يفعل هذا الفعل لا يرحم، ولو كانت شرطية لكان في الكلام بعض انقطاع لأن الشرط وجوابه كلام مستأنف. قلت: وهو أولى من جهة أخرى لأن يصير من نوع ضرب المثل، ورجح بعضهم كونها موصولة لكون الشرط إذا أعقبه نفي ينفى غالبا بلم، وهذا لا يقتضي ترجيحا إذا كان المقام لائقا بكونها شرطية. وأجاز بعض شراح "المشارق" الرفع في الجزءين والجزم فيهما والرفع في الأولى والجزم في الثاني وبالعكس فيحصل أربعة أوجه، واستبعد الثالث، ووجه بأنه يكون في الثاني بمعنى النهي أي لا ترحموا من لا يرحم الناس، وأما الرابع فظاهر وتقديره من لا يكن من أهل الرحمة فإنه لا يرحم، ومثله قول الشاعر:
فقلت له احمل فوق طوقك إنها ... مطوقة من يأتها لا يضيرها
(10/429)

وفي جواب النبي صلى الله عليه وسلم للأقرع إشارة إلى أن تقبيل الولد وغيره من الأهل المحارم وغيرهم من الأجانب إنما يكون للشفقة والرحمة لا للذة والشهوة، وكذا الضم والشم والمعانقة. قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي، وسفيان هو الثوري. قوله: "عن هشام" هو ابن عروة، ووقع في رواية الإسماعيلي: "عن هشام بن عروة عن أبيه". قوله: "جاء أعرابي" يحتمل أن يكون هو الأقرع المذكور في الذي قبله، ويحتمل أن يكون قيس بن عاصم التميمي ثم السعدي، فقد أخرج أبو الفرج الأصبهاني في "الأغاني" ما يشعر بذلك ولفظه: "عن أبي هريرة أن قيس بن عاصم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم" فذكر قصة فيها "فهل إلا أن تنزع الرحمة منك" فهذا أشبه بلفظ حديث عائشة. ووقع نحو ذلك لعيينة بن حصن بن حذيفة الفزاري أخرجه أبو يعلى في مسنده بسند رجاله ثقات إلى أبي هريرة قال: "دخل عيينة بن حصن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه يقبل الحسن والحسين فقال: أتقبلهما يا رسول الله؟ إن لي عشرة فما قبلت أحدا منهم" ويحتمل أن يكون وقع ذلك لجميعهم فقد وقع في رواية مسلم: "قدم ناس من الأعراب فقالوا". قوله: "تقبلون الصبيان" كذا للأكثر بحذف أداة الاستفهام، وثبتت في رواية الكشميهني. قوله: "فما نقبلهم" وفي رواية الإسماعيلي: "فوالله ما نقبلهم" وعند مسلم: "فقال: نعم. قالوا: لكنا والله ما نقبل". قوله: "أو أملك" هو بفتح الواو والهمزة الأولى للاستفهام الإنكاري ومعناه النفي، أي لا أملك، أي لا أقدر أن أجعل الرحمة في قلبك بعد أن نزعها الله منه. ووقع عند مسلم بحذف الاستفهام وهي مرادة، وعند الإسماعيلي: "وما أملك" وله في أخرى "ما ذنبي إن كان الخ". قوله: "أن نزع" بفتح الهمزة في الروايات كلها مفعول أملك وحكى بعض شراح "المصابيح" كسر الهمزة على أنها شرط والجزاء محذوف، وهو من جنس ما تقدم، أي إن نزع الله الرحمة من قلبك لا أملك لك ردها إليه. ووقع في قصة عيينة "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من لا يرحم لا يرحم" . قوله: "حدثنا ابن أبي مريم" هو سعيد، ومدار هذا الحديث في الصحيحين عليه. وأبو غسان هو محمد بن مطرف، والإسناد منه فصاعدا مدنيون. قوله: "قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي" في رواية الكشميهني: "بسبي" وبضم قاف "قدم" وهذا السبي هو سبي هوازن. قوله: "فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي" كذا للمستملي والسرخسي بسكون المهملة من تحلب وضم اللام وثديها بالنصب وتسقي بفتح المثناة وبقاف مكسورة، وللباقين "قد تحلب" بفتح الحاء وتشديد اللام أي تهيأ لأن يحلب، وثديها بالرفع ففي رواية الكشميهني بالإفراد وللباقين "ثدياها" بالتثنية، وللكشميهني: "بسقي" بكسر الموحدة وفتح المهملة وسكون القاف وتنوين التحتانية وللباقين "تسعى" بفتح العين المهملة من السعي وهو المشي بسرعة. وفي رواية مسلم عن الحلواني وابن عسكر كلاهما عن ابن أبي مريم "تبتغي" بموحدة ساكنة ثم مثناة مفتوحة ثم غين معجمة من الابتغاء وهو الطلب، قال عياض: وهو وهم، والصواب ما في رواية البخاري. وتعقبه النووي بأن كلا من الروايتين صواب، فهي ساعية وطالبة لولدها. وقال القرطبي: لا خفاء بحسن رواية: "تسعى" ووضوحها، ولكن لرواية تبتغي وجها وهو تطلب ولدها، وحذف المفعول للعلم به، فلا يغلط الراوي مع هذا التوجيه. قوله: "إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها" كذا للجميع ولمسلم، وحذف منه شيء بينته رواية الإسماعيلي ولفظه: "إذا وجدت صبيا أخذته فأرضعته فوجدت صبيا فأخذته فألزمته بطنها" وعرف من سياقه أنها كانت فقدت صبيها وتضررت باجتماع اللبن في ثديها، فكانت إذا وجدت صبيا أرضعته ليخف عنها، فلما وجدت صبيها بعينه أخذته فالتزمته. ولم أقف على اسم هذا الصبي ولا على اسم أمه. قوله: "أترون؟"
(10/430)

بضم المثناة أي أتظنون؟ قوله: "قلنا لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه" أي لا تطرحه طائعة أبدا. وفي رواية الإسماعيلي: "فقلنا لا والله الخ". قوله: "لله" بفتح أوله لام تأكيد، وصرح بالقسم في رواية الإسماعيلي فقال: "والله لله أرحم الخ". قوله: "بعباده" كأن المراد بالعباد هنا من مات على الإسلام، ويؤيده ما أخرجه أحمد والحاكم من حديث أنس قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه وصبي على الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني، وسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار، فقال: ولا الله بطارح حبيبه في النار" فالتعبير بحبيبه يخرج الكافر. وكذا من شاء إدخاله ممن لم يتب من مرتكبي الكبائر. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: لفظ العبد علم ومعناه خاص بالمؤمنين، وهو كقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} فهي عامة من جهة الصلاحية وخاصة بمن كتبت له قال: ويحتمل أن يكون المراد أن رحمة الله لا يشبهها شيء لمن سبق له منها نصيب من أي العباد كان حتى الحيوانات. وفيه إشارة إلى أنه ينبغي للمرء أن يجعل تعلقه في جميع أموره بالله وحده، وأن كل من فرض أن فيه رحمة ما حتى يقصد لأجلها فالله سبحانه وتعالى أرحم منه، فليقصد العاقل لجاجته من هو أشد له رحمة، قال: وفي الحديث جواز نطر النساء المسبيات، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه عن النظر إلى المرأة المذكورة، بل في سياق الحديث ما يقتضي إذنه في النظر إليها. وفيه ضرب المثل بما يدرك بالحواس لما لا يدرك بها لتحصيل معرفة الشيء على وجهه، وإن كان الذي ضرب به المثل لا يحاط بحقيقته لأن رحمة الله لا تدرك بالعقل، ومع ذلك فقربها النبي صلى الله عليه وسلم للسامعين بحال المرأة المذكورة. وفيه جواز ارتكاب أخف الضررين، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه المرأة عن إرضاع للأطفال الذين أرضعتهم مع احتمال أن يكبر بعضهم فيتزوج بعض من أرضعته المرأة معه، لكن لما كانت حالة الإرضاع ناجزة، وما يخشى من المحرمية متوهم اغتفر. قلت: ولفظ الصبي بالتذكير في الخبر ينازع في ذلك، قال: وفيه أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وقد يستدل به على عكس ذلك، فأما الأول فمن جهة أن الأطفال لولا أنهم كان بهم ضرورة إلى الإرضاع قي تلك الحالة ما تركها النبي صلى الله عليه وسلم ترضع أحدا منهم، وأما الثاني وهو أقوى فلأنه أقرها على إرضاعهم من قبل أن تتبين الضرورة ا هـ ملخصا، ولا يخفي ما فيه.
(10/431)

باب جعل الله الرحمة في مائة جزء
...