بَاب حُسْنِ الْخُلُقِ وَالسَّخَاءِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ الْبُخْلِ
 
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ.
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ لَمَّا بَلَغَهُ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ فَرَجَعَ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ
6033- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ يَقُولُ: لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ فَقَالَ لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْراً أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ" .
6034- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِراً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "مَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ: لاَ".
(10/455)

6035- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: "كُنَّا جُلُوساً مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يُحَدِّثُنَا إِذْ قَالَ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشاً وَلاَ مُتَفَحِّشاً وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقاً" .
6036- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: "جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ فَقَالَ الْقَوْمُ هِيَ الشَّمْلَةُ فَقَالَ سَهْلٌ هِيَ شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ فِيهَا حَاشِيَتُهَا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْسُوكَ هَذِهِ فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجاً إِلَيْهَا فَلَبِسَهَا فَرَآهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَنَ هَذِهِ فَاكْسُنِيهَا فَقَالَ: "نَعَمْ" فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَمَهُ أَصْحَابُهُ قَالُوا مَا أَحْسَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مُحْتَاجاً إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لاَ يُسْأَلُ شَيْئاً فَيَمْنَعَهُ فَقَالَ رَجَوْتُ بَرَكَتَهَا حِينَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِّي أُكَفَّنُ فِيهَا".
6037- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ وَيُلْقَى الشُّحُّ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ قَالُوا وَمَا الْهَرْجُ قَالَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ" .
6038- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ سَمِعَ سَلاَمَ بْنَ مِسْكِينٍ قَالَ سَمِعْتُ ثَابِتاً يَقُولُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ وَلاَ لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلاَ أَلاَ صَنَعْتَ؟".
قوله: "باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل" جمع في هذه الترجمة بين هذه الأمور الثلاثة لأن السخاء من جملة محاسن الأخلاق، بل هو من معظمها والبخل ضده، فأما الحسن فقال الراغب: هو عبارة عن كل مرغوب فيه إما من جهة العقل وإما من جهة العرض وإما من جهة الحسن، وأكثر ما يقال في عرف العامة فيما يدرك بالبصر، وأكثر ما جاء في الشرع فيما يدرك بالبصيرة، انتهى ملخصا. وأما الخلق فهو بضم الخاء واللام ويجوز سكونها، قال الراغب: الخلق والخلق يعني بالفتح وبالضم في الأصل بمعنى واحد كالشرب والشرب، لكن خص الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق الذي بالضم بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة انتهى. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي" أخرجه أحمد وصححه ابن حبان. وفي حديث علي الطويل في دعاء الافتتاح عند مسلم: "واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت " وقال القرطبي في "المفهم": الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودة ومذمومة، فالمحمودة على الإجمال أن تكون مع غيرك على نفسك فتنصف منها ولا تنصف لها، وعلى التفصيل العفو والحلم والجود والصبر وتحمل الأذى والرحمة والشفقة وقضاء الحوائج والتوادد ولين الجانب ونحو ذلك، والمذموم منها ضد ذلك،
(10/456)

وأما السخاء فهو بمعنى الجود، وهو بذل ما يقتنى بغير عوض، وعطفه على حسن الخلق من عطف الخاص على العام، وإنما أفرد للتنويه به. وأما البخل فهو منع ما يطلب مما يقتنى، وشره ما كان طالبه مستحقا ولا سيما إن كان من غير مال المسئول. وأشار بقوله: "وما يكره من البخل" إلى أن بعض ما يجوز انطلاق اسم البخل عليه قد لا يكون مذموما. قوله: "وقال ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس" تقدم موصولا في كتاب الإيمان، وتقدم شرحه في كتاب الصيام، وفيه بيان السبب في أكثرية جوده في رمضان. قوله: "وقال أبو ذر لما بلغه مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه الخ" كذا للأكثر بتكرير قال. وفي رواية الكشميهني: "وكان أبو ذر الخ " وهي أولى، وهذا طرف من قصة إسلام أبي ذر، وقد تقدمت موصولة مطولة في المبعث النبوي مشروحة والغرض منه هنا قوله: "ويأمر بمكارم الأخلاق" والمكارم جمع مكرمة بضم الراء وهي من الكرم، قال الراغب: وهو اسم الأخلاق، وكذلك الأفعال المحمودة، قال ولا يقال للرجل كريم حتى يظهر ذلك منه، ولما كان أكرم الأفعال ما يقصد به أشرف الوجوه، وأشرفها ما يقصد به وجه الله تعالى، وإنما يحصل ذلك من المتقي قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وكل فائق في بابه يقال له كريم. حديث أنس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس" أي أحسنهم خلقا وخلقا "وأجود الناس" أي أكثرهم بذلا لما يقدر عليه "وأشجع الناس" أي أكثرهم إقداما مع عدم الفرار، وقد تقدم شرح الحديث المذكور في كتاب الهبة، واقتصار أنس على هذه الأوصاف الثلاث من جوامع الكلم لأنها أمهات الأخلاق، فإن في كل إنسان ثلاث قوى: أحدها: الغضبية وكمالها الشجاعة، ثانيها: الشهوانية وكمالها الجود، ثالثها: العقلية وكمالها النطق بالحكمة. وقد أشار أنس إلى ذلك بقوله: "أحسن الناس" لأن الحسن يشمل القول والفعل، ويحتمل أن يكون المراد بأحسن الناس حسن الخلقة وهو تابع لاعتدال المزاج الذي يتبع صفاء النفس الذي منه جودة القريحة التي تنشأ عنها الحكمة قاله الكرماني، وقوله: "فزع أهل المدينة" أي سمعوا صوتا في الليل فخافوا أن يهجم عليهم عدو، وقوله: "فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم، قد سبق الناس إلى الصوت" أي أنه سبق فاستكشف الخبر فلم يجد ما يخاف منه فرجع يسكنهم. وقوله: "لم تراعوا" هي كلمة تقال عند تسكين الروع تأنيسا، وإظهارا للرفق بالمخاطب. حديث جابر. قوله: "سفيان" هو الثوري. قوله: "عن ابن المنكدر" في رواية الإسماعيلي من طريق أبي الوليد الطيالسي ومن طريق عبد الله وهو ابن المبارك كلاهما عن سفيان "سمعت محمد بن المنكدر". قوله: "ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال لا" كذا للجميع، وكذا في "الأدب المفرد" من طريق ابن عيينة سمعت ابن المنكدر، ووقع في رواية الإسماعيلي من الطريقين المذكورين، وكذا عند مسلم من طريق سفيان بن عيينة عن ابن المنكدر بلفظ: "ما سئل شيئا قط فقال لا" قال الكرماني: معناه ما طلب منه شيء من أمر الدنيا فمنعه، قال الفرزدق: "ما قال لا قط إلا في تشهده" قلت: وليس المراد أنه يعطي ما يطلب منه جزما، بل المراد أنه لا ينطق بالرد، بل إن كان عنده أعطاه إن كان الإعطاء سائغا وإلا سكت. وقد ورد بيان ذلك في حديث مرسل لابن الحنفية أخرجه ابن سعد ولفظه: "إذا سئل فأراد أن يفعل قال نعم، وإذا لم يرد أن يفعل سكت" وهو قريب من حديث أبي هريرة الماضي في الأطعمة "ما عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه" وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: معناه لم يقل "لا" منعا للعطاء، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها اعتذارا كما في قوله تعالى: {قُلْتَ لا أَجِدُ
(10/457)

مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} ولا يخفى الفرق بين قول لا أجد ما أحملكم وبين لا أجملكم. قلت: وهو نظير ما تقدم في حديث أبي موسى الأشعري لما سأل الأشعريون الحملان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما عندي ما أحملكم" لكن يشكل على ما تقدم أن في حديث الأشعري المذكور أنه صلى الله عليه وسلم حلف لا يحملهم فقال: "والله لا أحملكم" فيمكن أن يخص من عموم حديث جابر بما إذا سئل ما ليس عنده والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذلك، أو حيث كان المقام لا يقتضي الاقتصار على السكوت من الحالة الواقعة أو من حال السائل، كأن يكون لم يعرف العادة، فلو اقتصر في جوابه على السكوت مع حاجة السائل لتمادى على السؤال مثلا ويكون القسم على ذلك تأكيدا لقطع طمع السائل، والسر في الجمع بين قوله: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ} وقوله: "والله لا أحملكم" أن الأول لبيان أن الذي سأله لم يكن موجودا عنده، والثاني أنه لا يتكلف الإجابة إلى ما سئل بالقرض مثلا أو بالاستيهاب إذ لا اضطرار حينئذ إلى ذلك، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الأيمان والنذور. وفهم بعضهم من لازم عدم قول "لا" إثبات "نعم" ورتب عليه أنه يلزم منه تحريم البخل، لأن من القواعد أنه صلى الله عليه وسلم إذا واظب على شيء كان ذلك علامة وجوبه، والترجمة تقتضي أن البخل مكروه. وأجيب بأنه إذا تم هذا البحث حملت الكراهة على التحريم، لكنه لا يتم لأن الذي يحرم من البخل ما يمنع الواجب سلمنا أنه يدل على الوجوب لكن على من هو في مقام النبوة، إذ مقابله نقص منزه عنه الأنبياء فيختص الوجوب بالنبي صلى الله عليه وسلم، والترجمة تتضمن أن من البخل ما يكره، ومقابله أن منه ما يحرم كما أن فيه ما يباح بل ويستحب بل ويجب، فلذلك اقتصر المصنف على قوله يكره. حديث مسروق "كنا جلوسا عند عبد الله بن عمرو بن العاص" ورجاله إلى الصحابة كوفيون، وقد دخلها كما تقدم صريحا في هذا الحديث في "باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "لم يكن فاحشا" تقدم شرحه في الباب المذكور وهو الحديث السادس عشر منه، وقوله فيه: "إن خياركم أحاسنكم أخلاقا" في رواية الكشميهني: "أحسنكم" ووقع في الرواية الماضية "إن من خياركم" وهي مرادة هنا. وقد أخرج أبو يعلى من حديث أنس رفعه: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" وللترمذي وحسنه والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة رفعه: "إن من أكمل المؤمنين أحسنهم خلقا " ولأحمد بسند رجاله ثقات من حديث جابر بن سمرة نحوه بلفظ: "أحسن الناس إسلاما" وللترمذي من حديث جابر رفعه: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا" وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ولأحمد والطبراني وصححه ابن حبان من حديث أبي ثعلبة نحوه وقال: "أحاسنكم أخلاقا" وسياقه أتم، وللبخاري في الأدب المفرد وابن حبان والحاكم والطبراني من حديث أسامة بن شريك "قالوا: يا رسول الله من أحب عباد الله إلى الله؟ قال: أحسنهم خلقا" وفي رواية عنه "ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال: خلق حسن" ومن الأحاديث الصحيحة في حسن الخلق حديث النواس بن سمعان رفعه: "البر حسن الخلق" أخرجه مسلم والبخاري في "الأدب المفرد"، وحديث أبي الدرداء رفعه: "ما شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود والترمذي وصححه هو وابن حبان وزاد الترمذي فيه وهو عند البزار "وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ درجة صاحب الصوم والصلاة" وأخرجه أبو داود وابن حبان أيضا والحاكم من حديث عائشة نحوه، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" والحاكم من حديث أبي هريرة، وأخرجه الطبراني من حديث أنس نحوه، وأحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو. وأخرج الترمذي وابن حبان وصححاه وهو عند البخاري في "الأدب المفرد" من
(10/458)

حديث أبي هريرة "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: تقوى الله وحسن الخلق" وللبزار بسند حسن من حديث أبي هريرة رفعه: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق" والأحاديث في ذلك كثيرة. وحكى ابن بطال تبعا للطبري خلافا: هل حسن الخلق غريزة، أو مكتسب؟ وتمسك من قال بأنه غريزة بحديث ابن مسعود "إن الله قسم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم" الحديث وهو عند البخاري في "الأدب المفرد" وسيأتي الكلام على ذلك مبسوطا في كتاب القدر. وقال القرطبي في "المفهم" الخلق جبلة في نوع الإنسان، وهم في ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها إن كان محمودا وإلا فهو مأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودا، وكذا إن كان ضعيفا فيرتاض صاحبه حني يقوى. قلت: وقد وقع في حديث الأشج العصري عند أحمد والنسائي والبخاري في "الأدب المفرد" وصححه ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة. قال: يا رسول الله، قديما كانا في أو حديثا؟ قال: قديما. قال: الحمد الله الذي جبلني على خلقين يحبهما" فترديده السؤال وتقريره عليه يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي، وما هو مكتسب. حديث سهل بن سعد في قصة البردة التي سأل الصحابي لتكون كفنه، والغرض منه قولهم للذي طلبها: "سألته إياها وقد عرفت أنه لا يسأل شيئا فيمنعه" وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أوائل الجنائز، وفي قولهم: "سألته إياها" استعمال ثاني الضميرين منفصلا وهو المتعين هنا فرارا من الاستثقال، إذ لو قاله متصلا فإنه يصير هكذا سألتموها، قال ابن مالك: والأصل أن لا يستعمل المنفصل إلا عند تعذر المتصل؛ لأن الاتصال أخصر وأبين، لكن إذا اختلف الضميران وتقاربا فالأحسن الانفصال نحو هذا، فإن اختلفا في الرتبة جاز الاتصال والانفصال مثل أعطيتكه وأعطيتك إياه. حديث أبي هريرة "يتقارب الزمان" وسيأتي شرحه في كتاب الفتن وقوله فيه: "وينقص العمل" وقع في رواية الكشميهني: "وينقص العلم" وهو المعروف في هذا الحديث وللآخر وجه. وقوله فيه: "ويلقى الشح" وهو مقصود الباب وهو أخص من البخل فإنه بخل مع حرص. واختلف في ضبط "يلقى" فالأكثر على أنه بسكون اللام أي يوضع في القلوب فيكثر، وهو على هذا بالرفع، وقيل: بفتح اللام وتشديد القاف أي يعطي القلوب الشح، وهو على هذا بالنصب حكاه صاحب "المطالع" وقال الحميدي: لم تضبط الرواة هذا الحرف، ويحتمل أن يكون "تلقى" بالتشديد أي يتلقى ويتواصى به ويدعوه إليه من قوله: "وما يلقاها إلا الصابرون" أي ما يعلمها وينبه عليها، قال ولو قيل: يلقى مخففة لكان بعيدا لأنه لو ألقي لترك وكان مدحا والحديث مساق للذم، ولو كان بالفاء بمعنى يوجد لم يستقم لأنه لم يزل موجودا. اهـ. وقد ذكرت توجيه القاف. حديث أنس. قوله: "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين" تقدم نظيره في الوليمة من وجه آخر عن أنس، ومثله عند أحمد وغيره عن ثابت عن أنس، وكذا هو في معظم الروايات، ووقع عند مسلم من طريق إسحاق بن طلحة عن أنس "والله لقد خدمته تسع سنين" ولا مغايرة بينهما لأن ابتداء خدمته له كان بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة وبعد تزويج أمه أم سليم بأبي طلحة، فقد مضى في الوصايا من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي" الحديث وفيه: "إن أنسا غلام كيس فليخدمك، قال فخدمته في السفر والحضر" وأشار بالسفر إلى ما وقع في المغازي وغيرها من طريق عمرو بن أبي عمرو عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من أبي طلحة لما أراد الخروج إلى خيبر من يخدمه فأحضر له أنسا" فأشكل هذا على الحديث الأول لأن
(10/459)

بين قدومه المدينة وبين خروجه إلى خيبر ست سنين وأشهرا. وأجيب بأنه طلب من أبي طلحة من يكون أسن من أنس وأقوى على الخدمة في السفر فعرف أبو طلحة من أنس القوة على ذلك فأحضره، فلهذا قال أنس في هذه الرواية: "خدمته في الحضر والسفر" وإنما تزوجت أم سليم بأبي طلحة بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بعدة أشهر؛ لأنها بادرت إلى الإسلام ووالد أنس حي فعرف بذلك فلم يسلم وخرج في حاجة له فقتله عدو له، وكان أبو طلحة قد تأخر إسلامه فاتفق أنه خطبها فاشترطت عليه أن يسلم فأسلم أخرجه ابن سعد بسند حسن، فعلى هذا تكون مدة خدمة أنس تسع سنين وأشهرا، فألغى الكسر مرة وجبره أخرى. وقوله في هذا الحديث: "والله ما قال لي أف قط" قال الراغب: أصل الأف كل مستقذر من وسخ كقلامة الظفر وما يجري مجراها، ويقال ذلك لكل مستخف به، ويقال أيضا عند تكره الشيء وعند التضجر من الشيء، واستعملوا منها الفعل كأففت بفلان، وفي أف عدة لغات: الحركات الثلاث بغير تنوين وبالتنوين، ووقع في رواية مسلم هنا "أفا" بالنصب والتنوين وهي موافقة لبعض القراءات الشاذة كما سيأتي، وهذا كله مع ضم الهمزة والتشديد، وعلى ذلك اقتصر بعض الشراح، وذكر أبو الحسن الرماني فيها لغات كثيرة فبلغها تسعا وثلاثين ونقلها ابن عطية وزاد واحدة أكملها أربعين، وقد سردها أبو حيان في "البحر" واعتمد على ضبط القلم. ولخص ضبطها صاحبه الشهاب السمين ولخصته منه، وهي الستة المقدمة، وبالتخفيف كذلك ستة أخرى، وبالسكون مشددا ومخففا، وبزيادة هاء ساكنة في آخره مشددا ومخففا، وأفي بالإمالة وبين بين وبلا إمالة الثلاثة بلا تنوين، وأفو بضم ثم سكون وأفي بكسر ثم سكون. فذلك ثنتان وعشرون، وهذا كله مع ضم الهمزة ويجوز كسرها وفتحها، فأما بكسرها ففي إحدى عشرة: كسر الفاء وضمها ومشددا مع التنوين وعدمه أربعة ومخففا بالحركات الثلاث مع التنوين وعدمه ستة، وأفي بالإمالة والتشديد، وأفا بفتح الهمزة ففي ست بفتح الفاء وكسرها مع التنوين وعدمه أربعة وبالسكون وبألف مع التشديد، والتي زادها ابن عطية أفاه بضم أوله وزيادة ألف وهاء ساكنة، وقرئ من هذه اللغات ست كلها بضم الهمزة، فأكثر السبعة بكسر الفاء مشددا بغير تنوين، ونافع وحفص كذلك لكن بالتنوين، وابن كثير وابن عامر بالفتح والتشديد بلا تنوين، وقرأ أبو السماك كذلك لكن بضم الفاء، وزيد بن علي بالنصب والتنوين، وعن ابن عباس بسكون الفاء. قلت: وبقي من الممكن في ذلك أفي كما مضى لكن بفتح الفاء وسكون الياء، وأفيه بزيادة هاء، وإذا ضممت هاتين إلى التي زادها ابن عطية وأضفتها إلى ما بدئ به صارت العدة خمسا وعشرين كلها بضم الهمزة، فإذا استعملت القياس في اللغة كان الذي بفتح الهمزة كذلك وبكسرها كذلك فتكمل خمسا وسبعين. قوله: "ولا لم صنعت ولا ألا صنعت" بفتح الهمزة والتشديد بمعنى هلا. وفي رواية مسلم من هذا الوجه "لشيء مما يصنعه الخادم" وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة "ما علمته قال لشيء صنعته لم فعلت كذا وكذا، ولشيء تركته هلا فعلت كذا وكذا" وفي رواية عبد العزيز بن صهيب "ما قال لشيء صنعته لم صنعت هذا كذا، ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع هذا كذا" ويستفاد من هذا ترك العتاب على ما فات، لأن هناك مندوحة عنه باستئناف الأمر به إذا احتيج إليه، وفائدة تنزيه اللسان عن الزجر والذم واستئلاف خاطر الخادم بترك معاتبته، وكل ذلك في الأمور التي تتعلق بحظ الإنسان، وأما الأمور اللازمة شرعا فلا يتسامح فيها لأنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(10/460)