بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
 
وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} وَتَرْكِ إِثَارَةِ الشَّرِّ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ
6063- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَكَذَا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلاَ يَأْتِي قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَالَ لِي ذَاتَ يَوْمٍ: " يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِي أَمْرٍ اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَتَانِي رَجُلاَنِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيَّ وَالْآخَرُ عِنْدَ رَأْسِي فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِي مَا بَالُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ يَعْنِي مَسْحُوراً قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ قَالَ وَفِيمَ قَالَ فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ تَحْتَ رَعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُخْرِجَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَهَلاَ تَعْنِي تَنَشَّرْتَ؟ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي وَأَمَّا أَنَا فَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرّاً" قَالَتْ وَلَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفٌ لِيَهُودَ".
قوله: "باب قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} الآية" كذا لأبي ذر والنسفي، وساق الباقون إلى {تَذَكَّرُونَ} وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق أبي الضحى قال: "قال شتير بن شكل لمسروق: حدث يا أبا عائشة وأصدقك. قال: هل سمعت عبد الله بن مسعود يقول: ما في القرآن آية أجمع لحلال وحرام وأمر ونهي من هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} ؟ قال نعم" وسنده صحيح. قوله: "وقوله: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} " أي إن أثم البغي على الباغي إما عاجلا وإما آجلا. قوله: "وقوله: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} " كذا في رواية كريمة والأصيلي على وفق التلاوة، وكذا في رواية النسفي وأبي ذر وللباقين "ومن بغي عليه" وهو سبق قلم إما من المصنف وإما ممن بعده، كما أن المطابق للتلاوة إما من المصنف وإما من إصلاح من بعده، وإذا لم تتفق الروايات على شيء فمن جزم بأن الوهم من المصنف فقد تحامل عليه. قال
(10/479)

الراغب: البغي مجاوزة القصد في الشيء. فمنه ما يحمد ومنه ما يذم، فالمحمود مجاوزة العدل الذي هو الإتيان بالمأمور بغير زيادة فيه ولا نقصان منه إلى الإحسان وهو الزيادة عليه، ومنه الزيادة على الفرض بالتطوع المأذون فيه، والمذموم مجاوزة العدل إلى الجور والحق إلى الباطل والمباح إلى الشبهة، ومع ذلك فأكثر ما يطلق البغي على المذموم قال الله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وقال تعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} وإذا أطلق البغي وأريد به المحمود يزاد فيه غالبا التاء كما قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} وقال تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} وقال غيره: البغي الاستعلاء بغير حق، ومنه بغي الجرح إذا فسد. قوله: "وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر" ثم ذكر فيه حديث عائشة في قصة الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم ابن بطال: وجه الجمع بين الآيات المذكورة وترجمة الباب مع الحديث أن الله لما نهى عن البغي، وأعلم أن ضرر البغي إنما هو راجع إلى الباغي، وضمن النصر لمن بغي عليه كان حق من بغي عليه أن يشكر الله على إحسانه إليه بأن يعفو عمن بغى عليه، وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعاقب الذي كاده بالسحر مع قدرته على ذلك. انتهى ملخصا. ويحتمل أن يكون مطابقة الترجمة للآيات والحديث أنه صلى الله عليه وسلم ترك استخراج السحر خشية أن يثور على الناس منه شر فسلك مسلك العدل في أن لا يحصل لمن لم يتعاط السحر من آثر الضرر الناشئ عن السحر شر، وسلك مسلك الإحسان في ترك عقوبة الجاني كما سبق. وقال ابن التين: يستفاد من الآية الأولى أن دلالة الاقتران ضعيفة، لجمعه تعالى بين العدل والإحسان في أمر واحد، والعدل واجب والإحسان مندوب. قلت: وهو مبني على تفسير العدل والإحسان، وقد اختلف السلف في المراد بهما في الآية فقيل: العدل لا إله إلا الله، والإحسان الفرائض. وقيل: العدل لا إله إلا الله، والإحسان الإخلاص. وقيل: العدل خلع الأنداد، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه. وهو بمعنى الذي قبله. وقيل: العدل الفرائض، والإحسان النافلة. وقيل: العدل العبادة، والإحسان الخشوع فيها. وقيل: العدل الإنصاف، والإحسان التفضل. وقيل: العدل امتثال المأمورات، والإحسان اجتناب المنهيات. وقيل: العدل بذل الحق، والإحسان ترك الظلم. وقيل: العدل استواء السر والعلانية، والإحسان فضل العلانية. وقيل: العدل البذل، والإحسان العفو. وقيل: العدل في الأفعال، والإحسان في الأقوال. وقيل غير ذلك. وأقر بها لكلامه الخامس والسادس. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: العدل بن العبد وربه بامتثال أوامره واجتناب مناهيه، وبين العبد وبين نفسه بمزيد الطاعات وتوقي الشبهات الشهوات، وبين العبد وبين غيره بالإنصاف. انتهى ملخصا. وقال الراغب: العدل ضربان مطلق يقتضي العقل حسنه ولا يكون في شيء من الأزمنة منسوخا ولا يوصف بالاعتداء بوجه، نحو أن تحسن لمن أحسن إليك وتكف الأذى عمن كف أذاه عنك. وعدل يعرف بالشرع ويمكن أن يدخله النسخ ويوصف بالاعتداء مقابلة كالقصاص وأرش الجنايات وأخذ مال المرتد، ولذا قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية، وهذا النحو هو المعنى بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} فإن العدل هو المساواة في المكافأة في خير أو شر، والإحسان مقابلة الخير بأكثر منه والشر بالترك أو بأقل منه. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "مطبوب، يعني مسحورا" هذا التفسير مدرج في الخبر، وقد بينت ذلك عند شرح الحديث في كتاب الطب، وكذا قوله: "فهلا" تعني تنشرت. ومن قال هو مأخوذ من النشرة أو من نشر الشيء بمعنى إظهاره. وكيف يجمع بين قولها "فأخرج" وبين
(10/480)

قولها في الرواية الأخرى "هلا استخرجته" وأن حاصله أن الإخراج الواقع كان لأصل السحر والاستخراج المنفي كان لأجزاء السحر. وقوله في آخره: "حليف ليهود" وقع في رواية الكشميهني هنا "لليهود" بزيادة لام
(10/481)

باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر وقوله تعالى: {من شر حاسد إذا حسد}
...