بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ الشِّعْرِ وَالرَّجَزِ وَالْحُدَاءِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْهُ
 
وَقَوْلِهِ تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ
(10/536)

إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ
6145- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكْمَةً" .
6146- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ سَمِعْتُ جُنْدَباً يَقُولُ: "بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي إِذْ أَصَابَهُ حَجَرٌ فَعَثَرَ فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ فَقَالَ:
هَلْ أَنْتِ إِلاَّ إِصْبَعٌ دَمِيتِ ... وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ
6147- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلُ وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ".
6148- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ فَسِرْنَا لَيْلاً فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ لِعَامِرِ بْنِ الأَكْوَعِ أَلاَ تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ قَالَ وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلاً شَاعِراً فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْمِ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا
فَاغْفِرْ فِدَاءٌ لَكَ مَا اقْتَفَيْنَا ... وَثَبِّتْ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا
وَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... إِنَّا إِذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا
وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ هَذَا السَّائِقُ قَالُوا عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ فَقَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ" فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ وَجَبَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْلاَ أَمْتَعْتَنَا بِهِ قَالَ فَأَتَيْنَا خَيْبَرَ فَحَاصَرْنَاهُمْ حَتَّى أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ فَتَحَهَا عَلَيْهِمْ فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ الْيَوْمَ الَّذِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ أَوْقَدُوا نِيرَاناً كَثِيرَةً. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا هَذِهِ النِّيرَانُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ قَالُوا عَلَى لَحْمٍ قَالَ عَلَى أَيِّ لَحْمٍ قَالُوا عَلَى لَحْمِ حُمُرٍ إِنْسِيَّةٍ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَهْرِقُوهَا وَاكْسِرُوهَا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا قَالَ أَوْ ذَاكَ" فَلَمَّا تَصَافَّ الْقَوْمُ كَانَ سَيْفُ عَامِرٍ فِيهِ قِصَرٌ فَتَنَاوَلَ بِهِ يَهُودِيّاً لِيَضْرِبَهُ وَيَرْجِعُ ذُبَابُ سَيْفِهِ فَأَصَابَ
(10/537)

رُكْبَةَ عَامِرٍ فَمَاتَ مِنْهُ فَلَمَّا قَفَلُوا قَالَ سَلَمَةُ رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاحِباً فَقَالَ لِي: " مَا لَكَ فَقُلْتُ فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي زَعَمُوا أَنَّ عَامِراً حَبِطَ عَمَلُهُ قَالَ مَنْ قَالَهُ قُلْتُ قَالَهُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ وَفُلاَنٌ وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ الأَنْصَارِيُّ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَذَبَ مَنْ قَالَهُ إِنَّ لَهُ لاَجْرَيْنِ وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ قَلَّ عَرَبِيٌّ نَشَأَ بِهَا مِثْلَهُ"
6149- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ وَمَعَهُنَّ أُمُّ سُلَيْمٍ فَقَالَ: "وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدَكَ سَوْقاً بِالْقَوَارِيرِ" قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ فَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلِمَةٍ لَوْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُكُمْ لَعِبْتُمُوهَا عَلَيْهِ".
[الحديث 6149 – أطرافه في: 6161، 6202، 6209، 6210، 6211]
قوله: "باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء". أما الشعر فهو في الأصل اسم لما دق ومنه "ليت شعري" ثم استعمل في الكلام المقفى الموزون قصدا، ويقال أصله بفتحتين يقال شعرت أصبت الشعر وشعرت بكذا علمت علما دقيقا كإصابة الشعر. وقال الراغب: قال بعض الكفار عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه شاعر، فقيل لما وقع في القرآن من الكلمات الموزونة والقوافي، وقيل: أرادوا أنه كاذب لأنه أكثر ما يأتي به الشاعر كذب، ومن ثم سموا الأدلة الكاذبة شعرا، وقيل في الشعر: أحسنه أكذبه، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} ويؤيد الأول ما ذكر في حد الشعر أن شرطه القصد إليه، وأما ما وقع موزونا اتفاقا فلا يسمى شعرا، وأما الرجز فهو بفتح الراء والجيم بعدها زاي، وهو نوع من الشعر عند الأكثر، وقيل: ليس بشعر لأنه يقال راجز لا شاعر وسمي رجزا لتقارب أجزائه واضطراب اللسان به، ويقال رجز البعير إذا تقارب خطوه واضطرب لضعف فيه، وأما الحداء فهو بضم الحاء وتخفيف الدال المهملتين يمد ويقصر: سوق الإبل بضرب مخصوص من الغناء، والحداء في الغالب إنما يكون بالرجز وقد يكون بغيره من الشعر ولذلك عطفه على الشعر والرجز، وقد جرت عادة الإبل أنها تسرع السير إذا حدي بها. وأخرج ابن سعد بسند صحيح عن طاوس مرسلا، وأورده البزار موصولا عن ابن عباس دخل حديث بعضهم في بعض: إن أول من حدا الإبل عبد لمضر بن نزار بن معد بن عدنان كان في إبل لمضر فقصر، فضربه مضر على يده فأوجعه فقال: يا يداه يا يداه، وكان حسن الصوت فأسرعت الإبل لما سمعته في السير، فكان ذلك مبدأ الحداء. ونقل ابن عبد البر الاتفاق على إباحة الحداء، وفي كلام بعض الحنابلة إشعار بنقل خلافه فيه، ومانعه محجوج بالأحاديث الصحيحة، ويلتحق بالحداء هنا الحجيج المشتمل على التشوق إلى الحج بذكر الكعبة وغيرها من المشاهد، ونظيره ما يحرض أهل الجهاد على القتال، ومنه غناء المرأة لتسكين الولد في المهد. قوله: "وقوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ الغاوون. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} ساق في رواية كريمة والأصيلي إلى آخر السورة، ووقع في رواية أبي ذر بين الآيتين المذكورتين لفظة "وقوله: "وهي زيادة لا يحتاج إليها، قال المفسرون في هذه الآية: المراد بالشعراء شعراء المشركين، يتبعهم غواة الناس ومردة الشياطين وعصاة الجن ويروون شعرهم لأن الغاوي لا يتبع إلا عاويا مثله، وسمى الثعلبي منهم عبد الله بن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب
(10/538)

ومسافع وعمرو بن أبي أمية بن أبي الصلت، وقيل: نزلت في شاعرين تهاجيا فكان مع كل واحد منهما جماعة وهم الغواة السفهاء. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} إلى قوله: {مَا لا يَفْعَلُونَ} قال فنسخ من ذلك واستثنى فقال: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} إلى آخر السورة. وأخرج ابن أبي شيبة - من طريق مرسلة - قال: لما نزلت: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} جاء عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وهم يبكون فقالوا: يا رسول الله أنزل الله هذه الآية وهو يعلم أنا شعراء. فقال اقرءوا ما بعدها {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أنتم {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} أنتم. وقال السهيلي: نزلت الآية في الثلاثة، وإنما وردت بالإبهام ليدخل معهم من اقتدى بهم، وذكر الثعلبي مع الثلاثة كعب بن زهير بغير إسناد، والله أعلم. قوله: "قال ابن عباس: في كل لغو يخوضون" وصله ابن أبي حاتم والطبري من طريق معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {فِي كُلِّ وَادٍ} قال: في كل لغو. وفي قوله: {يَهِيمُونَ} قال: يخوضون. وقال غيره يهيمون أي يقولون في الممدوح والمذموم ما ليس فيه، فهم كالهائم على وجهه والهائم المخالف للقصد. قوله: "وما يكره منه" هو قسيم قوله: "ما يجوز"، والذي يتحصل من كلام العلماء في حد الشعر الجائز أنه إذا لم يكثر منه في المسجد، وخلا عن هجو، وعن الإغراق في المدح والكذب المحض. والتغزل بمعين لا يحل. وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على جوازه إذا كان كذلك، واستدل بأحاديث الباب وغيرها وقال: ما أنشد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم أو استنشده ولم ينكره. قلت: وقد جمع ابن سيد الناس شيخ شيوخنا مجلدا في أسماء من نقل عنه من الصحابة شيء من شعر متعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقد ذكر في الباب خمسة أحاديث دالة على الجواز، وبعضها مفصل لما يكره مما لا يكره، وترجم في "الأدب المفرد" ما يكره من الشعر وأورد فيه حديث عائشة مرفوعا: "إن أعظم الناس فرية الشاعر يهجو القبيلة بأسرها" وسنده حسن، وأخرجه ابن ماجه من هذا الوجه بلفظ: " أعظم الناس فرية رجل هاجي رجلا فهجا القبيلة بأسرها" وصححه ابن حبان. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن عائشة أنها كانت تقول: الشعر منه حسن ومنه قبيح، خذ الحسن ودع القبيح ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعارا منها القصيدة فيها أربعون بيتا، وسنده حسن. وأخرج أبو يعلي أوله من حديثها من وجه آخر مرفوعا، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" أيضا من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا بلفظ: "الشعر بمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام" وسنده ضعيف. وأخرجه الطبراني في الأوسط وقال: لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد. وقد اشتهر هذا الكلام عن الشافعي. واقتصر ابن بطال على نسبته إليه فقصر، وعاب القرطبي المفسر على جماعة من الشافعية الاقتصار على نسبة ذلك للشافعي وقد شاركهم في ذلك ابن بطال وهو مالكي. وأخرج الطبري من طريق ابن جريج قال: سألت عطاء عن الحداء والشعر والغناء فقال: لا بأس به ما لم يكن فحشا. قوله: "عن الزهري أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن" يعني ابن الحارث بن هشام المخزومي، وفي هذا الإسناد أربعة من التابعين قرشيون مدنيون في نسق، فالزهري من صغار التابعين وأبو بكر ومن فوقه من كبارهم؛ ولمروان وعبد الرحمن مزية إدراك النبي صلى الله عليه وسلم ولكنهما من حيث الرواية معدودان في التابعين، وقد تقدم قريبا أن لعبد الرحمن رؤية وأنه عد لذلك في الصحابة، وكذا ذكر بعضهم مروان في الصحابة لإدراكه، وقد تقدم ذلك في الشروط. وقد اختلف على
(10/539)

الزهري في سنده: فالأكثر على ما قال شعيب. وقال معمر في المشهور عنه: "عن الزهري عن عروة" بدل أبي بكر موصولا، وأخرجه ابن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة "عن الزهري عن عروة" مرسلا، ووافق رباح بن أبي زيد عن معمر الجماعة، وكذا قال هشام بن يوسف عن معمر، لكن قال عبد الله بن الأسود وكذا قال إبراهيم بن سعيد: عن الزهري، وحذف يزيد بن هارون عن إبراهيم بن سعد مروان من السند والصواب إثباته. قوله: "إن من الشعر حكمة" أي قولا صادقا مطابقا للحق. وقيل: أصل الحكمة المنع، فالمعنى إن من الشعر كلاما نافعا يمنع من السفه. وأخرج أبو داود من رواية صخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن جده "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من البيان سحرا، وإن من العلم جهلا، وإن من الشعر حكما، وإن من القول عيا" . فقال صعصعة بن صوحان: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أما قوله: "إن من البيان سحرا" فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق. وأما قوله: "وإن من العلم جهلا" فيكلف العالم إلى علمه ما لا يعلم فيجهل ذلك. وأما قوله: "إن من الشعر حكما" فهي هذه المواعظ والأمثال التي يتعظ بها الناس. وأما قوله: "إن من القول عيا" فعرضك كلامك على من لا يريده. وقال ابن التين: مفهومه أن بعض الشعر ليس كذلك، لأن "من" تبعيضية. ووقع في حديث ابن عباس عند البخاري في "الأدب المفرد" وأبي داود والترمذي وحسنه وابن ماجة بلفظ: "إن من الشعر حكما" وكذا أخرجه ابن أبي شيبة من حديث ابن مسعود، وأخرجه أيضا من حديث بريدة مثله. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن عبيد بن عمير قال قال أبو بكر: ربما قال الشاعر الكلمة الحكيمة. وقال ابن بطال: ما كان في الشعر والرجز ذكر الله تعالى وتعظيم له ووحدانيته وإيثار طاعته والاستسلام له فهو حسن مرغب فيه، وهو المراد في الحديث بأنه حكمة، وما كان كذبا وفحشا فهو مذموم. قال الطبري: في هذا الحديث رد على من كره الشعر مطلقا واحتج بقول ابن مسعود "الشعر مزامير الشيطان" وعن مسروق أنه تمثل بأول بيت شعر ثم سكت، فقيل له فقال: أخاف أن أجد في صحيفتي شعرا، وعن أبي أمامة رفعه: " أن إبليس لما أهبط إلى الأرض قال: رب اجعل لي قرآنا، قال قرآنك الشعر" ثم أجاب عن ذلك بأنها أخبار واهية. وهو كذلك، فحديث أبي أمامة فيه علي بن يزيد الهاني وهو ضعيف، وعلى تقدير قوتها فهو محمول على الإفراط فيه والإكثار منه كما سيأتي تقريره بعد باب، ويدل على الجواز سائر أحاديث الباب. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن عمر بن الشريد عن أبيه قال: "استنشدني النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية بن أبي الصلت فأنشدته حتى أنشدته مائة قافية". وعن مطرف قال: صحبت عمران بن حصين من الكوفة إلى البصرة فقل منزل نزله إلا وهو ينشدني شعرا. وأسند الطبري عن جماعة من كبار الصحابة ومن كبار التابعين أنهم قالوا الشعر وأنشدوه واستنشدوه. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن خالد بن كيسان قال: كنت عند ابن عمر فوقف عليه إياس بن خيثمة فقال: ألا أنشدك من شعري؟ قال: بلى ولكن لا تنشدني إلا حسنا. وأخرج ابن أبي شيبة بسند حسن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: "لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منحرفين ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من دينه دارت حماليق عينيه" ومن طريق عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: "كنت أجالس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي في المسجد فيتناشدون الأشعار ويذكرون حديث الجاهلية" وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والترمذي وصححه من حديث جابر بن سمرة قال: "كان أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم يتذاكرون الشعر وحديث الجاهلية عند رسول
(10/540)

الله صلى الله عليه وسلم فلا ينهاهم. وربما يتبسم". قوله: "سفيان" هو الثوري. قوله: "سمعت جندبا" في رواية أبي عوانة عن الأسود الماضية في أوائل الجهاد: "جندب بن سفيان البجلي". قوله: "بينما النبي صلى الله عليه وسلم يمشي" في رواية أبي عوانة "كان في بعض المشاهد" وفي رواية شعبة عن الأسود "خرج إلى الصلاة" وأخرج الطيالسي وأحمد في رواية ابن عيينة عن الأسود عن جندب "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار". قوله: "فعثر" بالعين المهملة والثاء المثلثة. قوله: "فقال: هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت" هذان قسمان من رجز والتاء في آخرهما مكسورة على وفق الشعر، وجزم الكرماني بأنهما في الحديث بالسكون وفيه نظر، وزعم غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم تعمد إسكانهما ليخرج القسمين عن الشعر، وهو مردود فإنه يصير من ضرب آخر من الشعر وهو من ضروب البحر الملقب الكامل. وفي الثاني زحاف جائز. قال عياض: وقد غفل بعض الناس فروى دميت ولقيت بغير مد فخالف الرواية ليسلم من الإشكال فلم يصب، وقد اختلف هل قاله النبي صلى الله عليه وسلم متمثلا أو قاله من قبل نفسه غير قاصد لإنشائه فخرج موزونا، وبالأول جزم الطبري وغيره، ويؤيده أن ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس" أوردهما لعبد الله بن رواحة فذكر أن جعفر بن أبي طالب لما قتل في غزوة مؤتة بعد أن قتل زيد بن حارثة أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فقاتل فأصيب إصبعه، فارتجز وجعل يقول هذين القسمين وزاد:
يا نفس إن لا تقتلي تموتي ... هذي حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقد لقيت ... إن تفعلي فعلهما هديت
وهكذا جزم ابن التين بأنهما من شعر ابن رواحة. وذكر الواقدي أن الوليد بن المغيرة كان رافق أبا بصير في صلح الحديبية على ساحل البحر، ثم أن الوليد رجع إلى المدينة فعثر بالحرة فانقطعت إصبعه فقال هذين القسمين. وأخرجه الطبراني من وجه آخر موصول بسند ضعيف. وقال ابن هشام في زيادات السيرة "حدثني من أثق به أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لي بعباس بن أبي ربيعة، فقال الوليد بن الوليد أنا" فذكر قصة فيها "فعثر فدميت إصبعه فقالهما" وهذا إن كان محفوظا احتمل أن يكون ابن رواحة ضمنهما شعره وزاد عليهما، فإن قصة الحديبية قبل قصة مؤتة، وقد تقدم نحو هذا الاحتمال في أوائل غزوة خيبر في الرجز المنسوب لعامر بن الأكوع "اللهم لولا أنت ما اهتدينا" وأنه نسب في رواية أخرى لابن رواحة. وقد اختلف في جواز تمثل النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من الشعر وإنشاده حاكيا عن غيره فالصحيح جوازه. وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وصححه والنسائي من رواية المقدام بن شريح عن أبيه "قلت لعائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثل من شعر ابن رواحة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود" وأخرج ابن أبي شيبة نحوه من حديث ابن عباس وأخرج أيضا من مرسل أبي جعفر الخطمي قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني المسجد وعبد الله بن رواحة يقول: أفلح من يعالج المساجدا. فيقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ابن رواحة: يتلو القرآن قائما وقاعدا. فيقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأما ما أخرجه الخطيب في التاريخ عن عائشة:
تفاءل بما تهوى تكن فلقلما ... يقال لشيء كان إلا تحققا
قال: وإنما لم يعربه لئلا يكون شعرا، فهو شيء لا يصح. ومما يدل على وهائه التعليل المذكور، والحديث
(10/541)

الثالث في الباب يؤيد ذلك، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يجوز له أن يحكي الشعر عن ناظمه. وقد تقدم في غزوة حنين قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" وأنه دل على جواز وقوع الكلام منه منظوما من غير قصد إلى ذلك ولا يسمى ذلك شعرا. وقد وقع الكثير من ذلك في القرآن العظيم، لكن غالبها أشطار أبيات والقليل منها وقع وزن بيت تام، فمن التام قوله تعالى: {الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ}- {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} - {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} - {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} - {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} - {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} - {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ - وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} - {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} - {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} - {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} - {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ} - {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} – وكذلك السجود - {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} - {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} - {يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ} - {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} - {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} - {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} - {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} - {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} والواو في كل منهما وإن كانت زائدة على الوزن لكنه يجوز في النظم ويسمى الخزم بالزاي بعد الخاء المعجمة. وأما الأشطار فكثيرة جدا فمنها {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} - {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} - {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} - {فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ - فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} - {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} - {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} - {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} - {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} - {أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} - {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} - {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} - {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} - {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} - {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} - {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ} - {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} - {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} - {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} - لآبَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} - {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ - {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ - {قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ - {َانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ - {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} - {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} - {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} - {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} - {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} - {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ - {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} - {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} - {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} - {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ} - {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} - {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ} - {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} - {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ} - {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} - وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} - {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} - {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} - {فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} - {زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} - {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} - {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ} - {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} ومن التام أيضا {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} . وإذا انتهى إلى {النَّاسِ} تم أيضا، وأيضا {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} وقيل في الجواب عن الحديث: إن وقوع البيت الواحد من الفصيح لا يسمى شعرا، ولا يسمى قائله شاعرا. حديث أبي هريرة "أصدق كلمة قالها الشاعر" تقدم شرحه في أيام الجاهلية، وقوله: "عن أبي سلمة عن أبي هريرة" وقع في رواية زائدة بن قدامة "عن عبد الملك بن عمير عن موسى بن طلحة عن أبي هريرة" به وزاد بعد قوله كلمة لبيد: ثم تمثل أوله وترك آخره. وقد أخرج مسلم من وجه آخر عن زائدة مثل رواية سفيان ومن تابعه وهو المحفوظ. الحديث
(10/542)

الرابع: حديث سلمة بن الأكوع في قصة عامر بن الأكوع، تقدم شرحه مستوفى في غزوة خيبر من كتاب المغازي، وقوله فيه: "وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدو بالقوم" يؤخذ منه جميع الترجمة لاشتماله على الشعر والرجز والحداء ويؤخذ منه الرجز من جملة الشعر، وقوله: "اللهم لولا أنت ما اهتدينا" قال ابن التين: هذا ليس بشعر ولا رجز لأنه ليس بموزون، وليس كما قال بل هو رجز موزون، وإنما زيد في أوله سبب خفيف ويسمى الخزم بالمعجمتين وقوله: "فاغفر فداء لك ما اقتفينا" أما فداء فهو بكسر الفاء والمدمنون، ومنهم من يقوله بالقصر، وشرط اتصاله بحرف الجر كالذي هنا، قاله ابن التين. وقال المازري لا يقال لله فداء لك لأنها كلمة تستعمل عند توقع مكروه لشخص فيختار شخص آخر أن يحل به دون ذلك الآخر ويفديه، فهو إما مجاز عن الرضا كأنه قال: نفسي مبذولة لرضاك أو هذه الكلمة وقعت خطابا لسامع الكلام، وقد تقدم له توجيه آخر في غزوة خيبر. وقال ابن بطال: معناه اغفر لنا ما ارتكبناه من الذنوب، وفداء لك دعاء أي افدنا من عقابك على ما اقترفنا من ذنوبنا، كأنه قال: أغفر لنا وافدنا منك فداء لك، أي من عندك فلا تعاقبنا به. وحاصله أنه جعل اللام للتبيين مثل هيت لك، واستدل بجواز الحداء على جواز غناء الركبان المسمى بالنصب، وهو ضرب من النشيد بصوت فيه تمطيط، وأفرط قوم فاستدلوا به على جواز الغناء مطلقا بالألحان التي تشتمل عليها الموسيقى، وفيه نظر. وقال الماوردي: اختلف فيه، فأباحه قوم مطلقا، ومنعه قوم مطلقا، وكرهه مالك والشافعي في أصح القولين، ونقل عن أبي حنيفة المنع، وكذا أكثر الحنابلة. ونقل ابن طاهر في "كتاب السماع" الجواز عن كثير من الصحابة، لكن لم يثبت من ذلك شيء إلا في النصب المشار إليه أولا. قال ابن عبد البر: الغناء الممنوع ما فيه تمطيط وإفساد لوزن الشعر طلبا للطرب وخروجا من مذاهب العرب. وإنما وردت الرخصة في الضرب الأول دون ألحان العجم. وقال الماوردي: هو الذي لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه من غير نكير إلا في حالتين: أن يكثر منه جدا وأن يصحبه ما يمنعه منه. واحتج من أباحه بأن فيه ترويحا للنفس، فإن فعله ليقوى على الطاعة فهو مطيع أو على المعصية فهو عاص، وإلا فهو مثل التنزه في البستان والتفرج على المارة. وأطنب الغزالي في الاستدلال، ومحصله أن الحداء بالرجز والشعر لم يزل يفعل في الحضرة النبوية، وربما التمس ذلك، وليس هو إلا أشعار توزن بأصوات طيبة وألحان موزونة، وكذلك الغناء أشعار موزونة تؤدى بأصوات مستلذة وألحان موزونة. وقد تقدم له بوجه آخر في غزوة خيبر(1) والحليمي ما تعين طريقا إلى الدواء أو شهد به طبيب عدل عارف. قوله: "إسماعيل" هو ابن علية. قوله: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه" يأتي في "باب المعاريض" في رواية حماد بن زيد عن أيوب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر. وفي رواية شعبة عن ثابت عن أنس "كان في منزله فحدي الحادي" وسيأتي ذلك في "باب المعاريض" وأخرجه النسائي والإسماعيلي من طريق شعبة بلفظ: "وكان معهم سائق وحاد" ولأبي داود الطيالسي عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس "كان أنجشة يحدو بالنساء، وكان البراء بن مالك يحدو بالرجال" وأخرجه أبو عوانة من رواية عفان عن حماد. وفي رواية قتادة عن أنس "كان للنبي صلى الله عليه وسلم حاد يقال له أنجشة وكان حسن الصوت" وسيأتي في "باب المعاريض" وفي رواية وهيب "وأنجشة غلام النبي صلى الله عليه وسلم يسوق بهن" وفي رواية حميد عن أنس "فاشتد بهن في السياق" أخرجها أحمد عن ابن عدي عنه. وفي رواية حماد
ـــــــ
(1) بياض بأصله.
(10/543)

ابن سلمة عن ثابت "فإذا أعنقت الإبل" وهي بعين مهملة ونون وقاف أي أسرعت وزنه ومعناه، والعنق بفتحتين قد تقدم بيانه في كتاب الحج. قوله: "ومعهن أم سليم" في رواية حميد عن أنس عند الحارث "وكان يحدو بأمهات المؤمنين ونسائهم" وفي رواية وهيب عن أيوب كما سيأتي بعد عشرين بابا "كانت أم سليم في الثقل" وفي رواية سليمان التيمي عن أنس عند مسلم: "كانت أم سليم مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه من طريق يزيد بن زريع عنه، وأخرجه النسائي من طريق زهير والرامهرمزي في "الأمثال" من طريق حماد بن مسعدة كلاهما عن سليمان فقال: "عن أنس عن أم سليم" جعله من مسند أم سليم، والأول هو المحفوظ، وحكى عياض أن في رواية السمرقندي في مسلم: "أم سلمة" بدل أم سليم قال وقوله في الرواية الأخرى "مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم" يقوي أنها ليست من نسائه. قلت: وتضافر الروايات على أنها أم سليم يقضي بأن قوله أم سلمة تصحيف. قوله: "فقال: ويحك يا أنجشة" في رواية حماد "كان في سفر له وكان غلام يحدو بهن يقال له أنجشة" وسيأتي في "باب المعاريض" وفي رواية مسلم من هذا الوجه "كان في بعض أسفاره وغلام أسود" وفي رواية للنسائي عن قتيبة عن حماد "وغلام له يقال له أنجشة" وهو بفتح الهمز وسكون النون وفتح الجيم بعدها شين معجمة ثم هاء تأنيث، ووقع في رواية وهيب "يا أنجش" على الترخيم، قال البلاذري: كان أنجشة حبشيا يكني أبا مارية. وأخرج الطبراني من حديث واثلة أنه كان ممن نفاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المخنثين. قوله: "رويدك" كذا للأكثر وفي رواية سليمان التيمي "رويدا" وفي رواية شعبة "أرفق" ووقع في رواية حميد "رويدك أرفق" جمع بينهما رويناه في "جزء الأنصاري" عن حميد. وأخرجه الحارث عن عبد الله بن بكر عن حميد فقال: "كذلك سوقك" وهي بمعنى كفاك. قال عياض: قوله رويدا منصوب على أنه صفة لمحذوف دل عليه اللفظ أي سق سوقا رويدا، أو احد حدوا رويدا. أو على المصدر أي أورد رويدا مثل أرفق رفقا. أو على الحال أي سر رويدا، أو رويدك منصوب على الإغراء، أو مفعول بفعل مضمر أي الزم رفقك، أو على المصدر أي أرود رويدك. وقال الراغب: رويدا من أرود يرود كأمهل يمهل وزنه ومعناه، وهو من الرود بفتح الراء وسكون ثانيه وهو التردد في طلب الشيء برفق راد وارتاد، والرائد طالب الكلأ، ورادت المرأة ترود إذا مشت على هينتها. وقال الرامهرمزي: رويدا تصغير رود وهو مصدر فعل الرائد، وهو المبعوث في طلب الشيء، ولم يستعمل في معنى المهملة إلا مصغرا، قال وذكر صاحب "العين" أنه إذا أريد به معنى الترويد في الوعيد لم ينون. وقال السهيلي: قوله رويدا أي أرفق، جاء بلفظ التصغير لأن المراد التقليل أي أرفق قليلا، وقد يكون من تصغير المرخم وهو أن يصغر الاسم بعد حرف الزوائد كما قالوا في أسود سويد فكذا في أرود رويد. قوله: "سوقك" كذا للأكثر وفي رواية حميد "سيرك" وهو بالنصب على نزع الخافض أي أرفق في سوقك، أو سقهن كسوقك. وقال القرطبي في "المفهم": رويدا أي أرفق، وسوقك مفعول به. ووقع في رواية مسلم: "سوقا" وكذا للإسماعيلي في رواية شعبة، وهو منصوب على الإغراء بقوله أرفق سوقا، أو على المصدر أي سق سوقا. وقرأت بخط ابن الصائغ المتأخر: رويدك إما مصدر والكاف في محل خفض، وإما اسم فعل والكاف حرف خطاب، وسوقك بالنصب على الوجهين والمراد به حدوك إطلاقا لاسم المسبب على السبب. وقال ابن مالك: رويدك اسم فعل بمعني أرود أي أمهل، والكاف المتصلة به حرف خطاب، وفتحة داله بنائية. ولك أن تجعل رويدك مصدرا مضافا إلى الكاف ناصبها سوقك وفتحة دالة على هذا إعرابية. وقال أبو البقاء: الوجه
(10/544)

النصب برويدا والتقدير أمهل سوقك، والكاف حرف خطاب وليست اسما، ورويدا يتعدى إلى مفعول واحد. قوله: "بالقوارير" في رواية هشام عن قتادة "رويدك سوقك ولا تكسر القوارير" وزاد حماد في روايته عن أيوب قال أبو قلابة: يعني النساء، ففي رواية همام عن قتادة "ولا تكسر القوارير" قال قتادة: يعني ضعفة النساء والقوارير جمع قارورة وهي الزجاجة سميت بذلك لاستقرار الشراب فيها. وقال الرامهرمزي: كني عن النساء بالقوارير لرقتهن وضعفهن عن الحركة، والنساء يشبهن بالقوارير في الرقة واللطافة وضعف البنية، وقيل: المعنى سقهن كسوقك القوارير لو كانت محمولة على الإبل. وقال غيره: شبههن بالقوارير لسرعة انقلابهن عن الرضا، وقلة دوامهن على الوفاء، كالقوارير يسرع إليها الكسر ولا تقبل الجبر، وقد استعملت الشعراء ذلك، قال بشار:
ارفق بعمرو إذا حركت نسبته ... فإنه عربي من قوارير
قال أبو قلابة: فتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه: "سوقك بالقوارير " قال الداودي: هذا قاله أبو قلابة لأهل العراق لما كان عندهم من التكلف ومعارضة الحق بالباطل. وقال الكرماني: لعله نظر إلى أن شرط الاستعارة أن يكون وجه الشبه جليا، وليس بين القارورة والمرأة وجه للتشبيه من حيث ذاتهما ظاهر، لكن الحق أنه كلام في غاية الحسن والسلامة عن العيب؛ ولا يلزم في الاستعارة أن يكون جلاء وجه الشبه من حيث ذاتهما، بل يكفي الجلاء الحاصل من القرائن الحاصلة، وهو هنا كذلك. قال: ويحتمل أن يكون قصد أبي قلابة أن هذه الاستعارة من مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغة، ولو صدرت من غيره ممن لا بلاغة له لعبتموها. قال وهذا هو اللائق بمنصب أبي قلابة. قلت: وليس ما قاله الداودي بعيدا ولكن المراد من كان يتنطع في العبارة ويتجنب الألفاظ التي تشتمل على شيء من الهزل. وقريب من ذلك قول شداد بن أوس الصحابي لغلامه: ائتنا بسفرة نعبث بها، فأنكرت عليه، أخرجه أحمد والطبراني. قال الخطابي: كان أنجشة أسود وكان في سوقه عنف، فأمره أن يرفق بالمطايا. وقيل: كان حسن الصوت بالحداء فكره أن تسمع النساء الحداء فإن حسن الصوت يحرك من النفوس، فشبه ضعف عزائمهن وسرعة تأثير الصوت فيهن بالقوارير في سرعة الكسر إليها. وجزم ابن بطال بالأول فقال: القوارير كناية عن النساء اللاتي كن على الإبل التي تساق حينئذ، فأمر الحادي بالرفق في الحداء لأنه يحنث الإبل حتى تسرع فإذا أسرعت لم يؤمن على النساء السقوط، وإذا مشت رويدا أمن على النساء السقوط، قال: وهذا من الاستعارة البديعة، لأن القوارير أسرع شيء تكسيرا، فأفادت الكناية من الحض على الرفق بالنساء في السير ما لم تفده الحقيقة لو قال أرفق بالنساء. وقال الطيبي: هي استعارة لأن المشبه به غير مذكور، والقرينة حالية لا مقالية، ولفظ الكسر ترشيح لها. وجزم أبو عبيد الهروي بالثاني وقال: شبه النساء بالقوارير لضعف عزائمهن، والقوارير يسرع إليها الكسر، فخشي من سماعهن النشيد الذي يحدو به أن يقع بقلوبهن منه، فأمره بالكف، فشبه عزائمهن بسرعة تأثير الصوت فيهن بالقوارير في إسراع الكسر إليها. ورجح عياض هذا الثاني فقال هذا أشبه بمساق الكلام، وهو الذي يدل عليه كلام أبي قلابة، وإلا فلو عبر عن السقوط بالكسر لم يعبه أحد. وجوز القرطبي في "المفهم" الأمرين فقال: شبههن بالقوارير لسرعة تأثرهن وعدم تجلدهن، فخاف عليهن من حث السير بسرعة السقوط أو التألم من كثرة الحركة والاضطراب الناشئ
(10/545)

عن السرعة، أو خاف عليهن الفتنة من سماع النشيد. قلت: والراجح عند البخاري الثاني، ولذلك أدخل هذا الحديث في "باب المعاريض"، ولو أريد المعنى الأول لم يكن في القوارير تعريض.
(10/546)