بَاب لاَ تَسُبُّوا الدَّهْرَ
 
6181- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قَالَ اللَّهُ يَسُبُّ بَنُو آدَمَ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ" .
6182- حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ وَلاَ تَقُولُوا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ" .
[الحديث 6182 – طرفه في: 6183]
قوله: "باب لا تسبوا الدهر" هذا اللفظ أخرجه مسلم من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي
(10/564)

هريرة فذكره، وبعده " فإن الله هو الدهر" . قوله: "الليث عن يونس عن ابن شهاب" قال أبو علي الجياني هكذا للجميع إلا لأبي علي بن السكن فقال فيه: "الليث عن عقيل عن ابن شهاب" وهكذا وقع في "الزهريات للذهلي" من روايته عن أبي صالح عن الليث، ولكن لفظه: "لا يسب ابن آدم الدهر" قال أبو علي الجياني الحديث محفوظ ليونس عن ابن شهاب أخرجه مسلم من طريق ابن وهب عنه. قلت الحديث عند الليث عن شيخين، وقد أخرجه يعقوب بن سفيان وأبو نعيم من طريقه قال: "حدثنا أبو صالح وابن بكير قالا حدثنا الليث حدثني يونس به". قوله: " قال الله يسب بنو آدم الدهر، وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار" هذه رواية يونس بن يزيد عن الزهري، ورواية معمر بعدها بلفظ: "ولا تقولوا يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر" وأوله "لا تسموا العنب الكرم" ويأتي شرحه في الباب الذي بعده، وقد اختلف على معمر فيه شيخ الزهري فقال عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن معمر عنه عن أبي سلمة. وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ولفظه: "قال الله يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر" الحديث أخرجه مسلم، وهكذا قال سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد أخرجه أحمد عنه ولفظه: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" وقد مضى في التفسير من هذا الوجه، وسيأتي في التوحيد، وهكذا أخرجه مسلم وغيره من رواية سفيان بن عيينة. قال ابن عبد البر الحديثان للزهري عن أبي سلمة وعن سعيد بن المسيب جميعا صحيحان قلت قال النسائي كلاهما محفوظ، لكن حديث أبي سلمة أشهرهما، قلت ولعبد الرزاق فيه عن معمر إسناد آخر أخرجه مسلم أيضا من طريقه فقال: "عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة " بلفظ: "لا يسب أحدكم الدهر، فإن الله هو الدهر؛ ولا يقولن أحدكم للعنب الكرم " الحديث، وأخرجه أحمد من رواية همام عن أبي هريرة بلفظ: "لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر، إني أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما " وأخرجه مالك في " الموطأ " عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "لا يقولن أحدكم " والباقي مثل رواية الأعلى عن معمر، لكن وقع في رواية يحيى بن يحيى الليثي عن مالك في آخره: "فإن الدهر هو الله " قال ابن عبد البر خالف جميع الرواة عن مالك، وجميع رواة الحديث مطلقا، فإن الجميع قالوا " فإن الله هو الدهر " وأخرجه أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ: " لا تسبوا الدهر فإن الله قال: أنا الدهر، الأيام والليالي لي أجددها وأبليها، وآتي بملوك بعد ملوك" وسنده صحيح. قوله: "ولا تقولوا خيبة الدهر" كذا للأكثر، وللنسفي "يا خيبة الدهر" وفي البخاري "واخيبة الدهر " الخيبة بفتح الخاء المعجمة وإسكان التحتانية بعدها موحدة الحرمان، وهي بالنصب على الندبة، كأنه فقد الدهر لما يصدر عنه مما يكرهه فندبه متفجعا عليه أو متوجعا منه. وقال الداودي: هو دعاء على الدهر بالخيبة وهو كقولهم قحط الله نوءها يدعون على الأرض بالقحط، وهي كلمة هذا أصلها ثم صارت تقال لكل مذموم. ووقع في رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ: "وادهره وادهره" ومعنى النهي عن سب الدهر أن من اعتقد أنه الفاعل للمكروه فسبه أخطأ فإن الله هو الفاعل، فإذا سببتم من أنزل ذلك بكم رجع السب إلى الله. وقد تقدم شرح الحديث في تفسير سورة الجاثية. ومحصل ما قيل في تأويله ثلاثة أوجه: أحدها: أن المراد بقوله: "أن الله هو الدهر" أي المدبر للأمور. ثانيها: أنه على حذف مضاف أي صاحب الدهر. ثالثها: التقدير مقلب الدهر، ولذلك عقبه بقوله: "بيدي الليل والنهار" ووقع في رواية زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "بيدي
(10/565)

الليل والنهار أجدده وأبليه وأذهب بالملوك" أخرجه أحمد. وقال المحققون: من نسب شيئا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر، ومن جرى هذا اللفظ على لسانه غير معتقد لذلك فليس بكافر، لكنه يكره له ذلك لشبهه بأهل الكفر في الإطلاق، وهو نحو التفصيل الماضي في قولهم: مطرنا بكذا. وقال عياض: زعم بعض من لا تحقيق له أن الدهر من أسماء الله، وهو غلط فإن الدهر مدة زمان الدنيا، وعرفه بعضهم بأنه أمد مفعولات الله في الدنيا أو فعله لما قبل الموت، وقد تمسك الجهلة من الدهرية والمعطلة بظاهر هذا الحديث واحتجوا به على من لا رسوخ له في العلم، لأن الدهر عندهم حركات الفلك وأمد العالم ولا شيء عندهم ولا صانع سواه، وكفى في الرد عليهم قوله في بقية الحديث: "أنا الدهر أقلب ليله ونهاره" فكيف يقلب الشيء نفسه؟ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: لا يخفى أن من سب الصنعة فقد سب صانعها، فمن سب نفس الليل والنهار أقدم على أمر عظيم بغير معنى، ومن سب ما يجري فيهما من الحوادث، وذلك هو أغلب ما يقع من الناس، وهو الذي يعطيه سياق الحديث حيث نفى عنهما التأثير، فكأنه قال: لا ذنب لهما في ذلك، وأما الحوادث فمنها ما يجري بوساطة العاقل المكلف فهذا يضاف شرعا ولغة إلى الذي جرى على يديه، ويضاف إلى الله تعالى لكونه بتقديره، فأفعال العباد من أكسابهم، ولهذا ترتبت عليها الأحكام، وهي في الابتداء خلق الله. ومنها ما يجري يغير وساطة فهو منسوب إلى قدرة القادر، وليس لليل والنهار فعل ولا تأثير لا لغة ولا عقلا ولا شرعا، وهو المعني في هذا الحديث. ويلتحق بذلك ما يجري من الحيوان غير العاقل. ثم أشار بأن النهي عن سب الدهر تنبيه بالأعلى على الأدنى، وأن فيه إشارة إلى ترك سب كل شيء مطلقا إلا ما أذن الشرع فيه، لأن العلة واحدة، والله أعلم انتهى ملخصا. واستنبط منه أيضا منع الحيلة في البيوع كالعينة لأنه نهى عن سب الدهر لما يؤول إليه من حيث المعنى وجعله سبا لخالقه.
(10/566)