بَاب إِفْشَاءِ السَّلاَمِ
 
(11/17)

6235- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ "الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَنَصْرِ الضَّعِيفِ وَعَوْنِ الْمَظْلُومِ وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ وَنَهَى عَنْ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ وَنَهَانَا عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ وَعَنْ رُكُوبِ الْمَيَاثِرِ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالْقَسِّيِّ وَالإِسْتَبْرَقِ"
قوله: "باب إفشاء السلام" كذا للنسفي وأبي الوقت, وسقط لفظ "باب" للباقين. الإفشاء الإظهار, والمراد نشر السلام بين الناس ليحيوا سنته. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن ابن عمر "إذا سلمت فأسمع فإنها تحية من عند الله" قال النووي: أقله أن يرفع صوته بحيث يسمع المسلم عليه, فإن لم يسمعه لم يكن آتيا بالسنة. ويستحب أن يرفع صوته بقدر ما يتحقق أنه سمعه, فإن شك استظهر. ويستثنى من رفع الصوت بالسلام ما إذا دخل على مكان فيه أيقاظ ونيام فالسنة فيه ما ثبت في صحيح مسلم عن المقداد قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيء من الليل فيسلم تسليما لا يوقظ نائما ويسمع اليقظان" ونقل النووي عن المتولي أنه قال: "يكره إذا لقي جماعة أن يخص بعضهم بالسلام. لأن القصد بمشروعية السلام تحصيل الألفة, وفي التخصيص إيحاش لغير من خص بالسلام". قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد، والشيباني هو أبو إسحاق، وأشعث هو ابن أبي الشعثاء بمعجمة ثم مهملة ثم مثلثة فيه وفي أبيه، واسم أبيه سليم بن أسود. قوله: "عن معاوية بن قرة" كذا للأكثر وخالفهم جعفر بن عوف فقال عن الشيباني عن أشعث عن سويد ابن غفلة عن البراء وهي رواية شاذة أخرجها الإسماعيلي. قوله: "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع: بعيادة المريض الحديث" تقدم في اللباس أنه ذكر في عدة مواضع لم يسقه بتمامه في أكثرها، وهذا الموضع مما ذكر فيه سبعا مأمورات وسبعا منهيات، والمراد منه هنا إفشاء السلام، وتقدم شرح عيادة المريض في الطب واتباع الجنائز فيه وعون المظلوم في كتاب المظالم وتشميت العاطس في أواخر الأدب وسيأتي إبرار القسم في كتاب الأيمان والنذور، وسبق شرح المناهي في الأشربة وفي اللباس، وأما نصر الضعيف المذكور هنا فسبق حكمه في كتاب المظالم، ولم يقع في أكثر الروايات في حديث البراء هذا، وإنما وقع بدله إجابة الداعي، وقد تقدم شرحه في كتاب الوليمة من كتاب النكاح. قال الكرماني: نصر الضعيف من جملة إجابة الداعي لأنه قد يكون ضعيفا وإجابته نصره، أو أن لا مفهوم للعدد المذكور وهو السبع فتكون المأمورات ثمانية، كذا قال؛ والذي يظهر لي أن إجابة الداعي سقطت من هذه الرواية، وأن نصر الضعيف المراد به عون المظلوم الذي ذكر في غير هذه الطريق، ويؤيد هذا الاحتمال أن البخاري حذف بعض المأمورات من غالب المواضع التي أورد الحديث فيها اختصارا. قوله: "وإفشاء السلام" تقدم في الجنائز بلفظ ورد السلام، ولا مغايرة في المعنى لأن ابتداء السلام ورده متلازمان، وإفشاء السلام ابتداء يستلزم إفشاءه جوابا، وقد جاء إفشاء السلام من حديث البراء بلفظ آخر وهو عند المصنف في "الأدب المفرد" وصححه ابن حبان من طريق عبد الرحمن بن عوسجة عنه رفعه: "أفشوا السلام تسلموا" وله شاهد من حديث أبي الدرداء مثله عند الطبراني، ولمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: "ألا أدلكم على ما تحابون به؟ أفشوا السلام بينكم" قال ابن العربي: فيه أن من فوائد إفشاء السلام حصول المحبة بين المتسالمين، وكان ذلك لما فيه من ائتلاف الكلمة لتعم المصلحة بوقوع المعاونة على إقامة شرائع الدين وإخزاء
(11/18)

الكافرين، وهي كلمة إذا سمعت أخلصت القلب الواعي لها عن النفور إلى الإقبال على قائلها. وعن عبد الله بن سلام رفعه: "أطعموا الطعام وأفشوا السلام" الحديث وفيه: "تدخلوا الجنة بسلام" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وصححه الترمذي والحاكم، وللأولين وصححه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمرو رفعه: "اعبدوا الرحمن، وأفشوا السلام" الحديث وفيه: "تدخلوا الجنان" والأحاديث في إفشاء السلام كثيرة منها عند البزار من حديث الزبير وعند أحمد من حديث عبد الله بن الزبير وعند الطبراني من حديث ابن مسعود وأبي موسى وغيرهم، ومن الأحاديث في إفشاء السلام ما أخرجه النسائي عن أبي هريرة رفعه: "إذا قعد أحدكم فليسلم وإذا قام فليسلم فليست الأولى أحق من الآخرة" وأخرج ابن أبي شيبة من طريق مجاهد عن ابن عمر قال: "إن كنت لأخرج إلى السوق وما لي حاجة إلا أن أسلم ويسلم علي" وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق الطفيل بن أبي بن كعب عن ابن عمر نحوه لكن ليس فيها شيء على شرط البخاري فاكتفى بما ذكره من حديث البراء، واستدل بالأمر بإفشاء السلام على أنه لا يكفي السلام سرا بل يشترط الجهر وأقله أن يسمع في الابتداء وفي الجواب، ولا تكفي الإشارة باليد ونحوه. وقد أخرج النسائي بسند جيد عن جابر رفعه: "لا تسلموا تسليم اليهود فإن تسليمهم بالرءوس والأكف" ويستثنى من ذلك حالة الصلاة فقد وردت أحاديث جيدة أنه صلى الله عليه وسلم رد السلام وهو يصلي إشارة، منها حديث أبي سعيد "أن رجلا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فرد عليه إشارة" ومن حديث ابن مسعود نحوه، وكذا من كان بعيدا بحيث لا يسمع التسليم يجوز السلام عليه إشارة ويتلفظ مع ذلك بالسلام وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال: "يكره السلام باليد ولا يكره بالرأس" وقال ابن دقيق العيد: استدل بالأمر بإفشاء السلام من قال بوجوب الابتداء بالسلام، وفيه نظر إذ لا سبيل إلى القول بأنه فرض عين على التعميم من الجانبين وهو أن يجب على كل أحد أن يسلم على كل من لقيه لما في ذلك من الحرج والمشقة، فإذا سقط من جانبي العمومين سقط من جانبي الخصوصين إذ لا قائل يجب على واحد دون الباقين، ولا يجب السلام على واحد دون الباقين، قال: وإذا سقط على هذه الصورة لم يسقط الاستحباب لأن العموم بالنسبة إلى كلا الفريقين ممكن انتهى. وهذا البحث ظاهر في حق من قال إن ابتداء السلام فرض عين، وأما من قال فرض كفاية فلا يرد عليه إذا قلنا إن فرض الكفاية ليس واجبا على واحد بعينه، قال ويستثنى من الاستحباب من ورد الأمر بترك ابتدائه بالسلام كالكافر قلت: ويدل عليه قوله في الحديث المذكور قبل "إذا فعلتموه تحاببتم" والمسلم مأمور بمعاداة الكافر فلا يشرع له فعل ما يستدعي محبته ومواددته. وسيأتي البحث في ذلك في "باب التسليم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين"، وقد اختلف أيضا في مشروعية السلام على الفاسق وعلى الصبي، وفي سلام الرجل على المرأة وعكسه، وإذا جمع المجلس كافرا ومسلما هل يشرع السلام مراعاة لحق المسلمين؟ أو يسقط من أجل الكافر؟ وقد ترجم المصنف لذلك كله. وقال النووي يستثنى من العموم بابتداء السلام من كان مشتغلا بأكل أو شرب أو جماع، أو كان في الخلاء أو الحمام أو نائما أو ناعسا أو مصليا أو مؤذنا ما دام متلبسا بشيء مما ذكر، فلو لم تكن اللقمة في فم الآكل مثلا شرع السلام عليه، ويشرع في حق المتبايعين وسائر المعاملات، واحتج له ابن دقيق العيد بأن الناس غالبا يكونون في أشغالهم فلو روعي ذلك لم يحصل امتثال الإفشاء. وقال ابن دقيق العيد: احتج من منع السلام على من في الحمام بأنه بيت الشيطان وليس موضع التحية لاشتغال من فيه بالتنظيف، قال وليس هذا المعنى بالقوي في
(11/19)

الكراهة، بل يدل على عدم الاستحباب. قلت: وقد تقدم في كتاب الطهارة من البخاري "إن كان عليهم إزار فيسلم وإلا فلا" وتقدم البحث فيه هناك. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أم هانئ "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل وفاطمة تستره فسلمت عليه" الحديث. قال النووي: وأما السلام حال الخطبة في الجمعة فيكره للأمر بالإنصات، فلو سلم لم يجب الرد عند من قال الإنصات واجب، ويجب عند من قال إنه سنة، وعلى الوجهين لا ينبغي أن يرد أكثر من واحد، وأما المشتغل بقراءة القرآن فقال الواحدي الأولى ترك السلام عليه فإن سلم عليه كفاه الرد بالإشارة، وإن رد لفظا استأنف الاستعاذة وقرأ. قال النووي: وفيه نظر، والظاهر أنه يشرع السلام عليه ويجب عليه الرد، ثم قال: وأما من كان مشتغلا بالدعاء مستغرقا فيه مستجمع القلب فيحتمل أن يقال هو كالقارئ، والأظهر عندي أنه يكره السلام عليه لأنه يتنكد به ويشق عليه أكثر من مشقة الأكل. وأما الملبي في الإحرام فيكره أن يسلم عليه لأن قطعه التلبية مكروه، ويجب عليه الرد مع ذلك لفظا أن لو سلم عليه، قال: ولو تبرع واحد من هؤلاء برد السلام إن كان مشتغلا بالبول ونحوه فيكره "وإن كان آكلا ونحوه فيستحب في الموضع الذي لا يجب، وإن كان مصليا لم يجز أن يقول بلفظ المخاطبة كعليك السلام أو عليك فقط، فلو فعل بطلت إن علم التحريم لا إن جهل في الأصح، فلو أتى بضمير الغيبة لم تبطل، ويستحب أن يرد بالإشارة، وإن رد بعد فراغ الصلاة لفظا فهو أحب، وإن كان مؤذنا أو ملبيا لم يكره له الرد لفظا لأنه قدر يسير لا يبطل الموالاة. وقد تعقب والدي رحمه الله في نكته على الأذكار ما قاله الشيخ في القارئ لكونه يأتي في حقه نظير ما أبداه هو في الداعي، لأن القارئ قد يستغرق فكره في تدبر معاني ما يقرؤه، ثم اعتذر عنه بأن الداعي يكون مهتما بطلب حاجته فيغلب عليه التوجه طبعا، والقارئ إنما يطلب منه التوجه شرعا فالوساوس مسلطة عليه ولو فرض أنه يوفق للحاجة العلية فهو على ندور انتهى. ولا يخفى أن التعليل الذي ذكره الشيخ من تنكد الداعي يأتي نظيره في القارئ، وما ذكره الشيخ في بطلان الصلاة إذا رد السلام بالخطاب ليس متفقا عليه، فعن الشافعي نص في أنه لا تبطل لأنه لا يريد حقيقة الخطاب بل الدعاء، وإذا عذرنا الداعي والقارئ بعدم الرد فرد بعد الفراغ كان مستحبا. وذكر بعض الحنفية أن من جلس في المسجد للقراءة أو التسبيح أو لانتظاره الصلاة لا يشرع السلام عليهم، وإن سلم عليهم لم يجب الجواب، قال وكذا الخصم إذا سلم على القاضي لا يجب عليه الرد. وكذلك الأستاذ إذا سلم عليه تلميذه لا يجب الرد عليه، كذا قال. وهذا الأخير لا يوافق عليه. ويدخل في عموم إفشاء السلام، السلام على النفس لمن دخل مكانا ليس فيه أحد، لقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} الآية. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" وابن أبي شيبة بسند حسن عن ابن عمر "فيستحب إذا لم يكن أحد في البيت أن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين". وأخرج الطبري عن ابن عباس ومن طريق كل من علقمة وعطاء ومجاهد نحوه، ويدخل فيه من مر على من ظن أنه إذا سلم عليه لا يرد عليه فإنه يشرع له السلام ولا يتركه لهذا الظن لأنه قد يخطئ، قال النووي: وأما قول من لا تحقيق عنده أن ذلك يكون سببا لتأثيم الآخر فهو غباوة، لأن المأمورات الشرعية لا تترك بمثل هذا، ولو أعملنا هذا لبطل إنكار كثير من المنكرات. قال: وينبغي لمن وقع له ذلك أن يقول له بعبارة لطيفة رد السلام واجب، فينبغي أن ترد ليسقط عنك الفرض، وينبغي إذا تمادى على الترك أن يحلله من ذلك لأنه حق آدمي، ورجح ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" المقالة التي زيفها
(11/20)

النووي بأن مفسدة توريط المسلم في المعصية أشد من ترك مصلحة السلام عليه، ولا سيما وامتثال الإفشاء قد حصل مع غيره.
(11/21)