بَاب الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 2
 
أن يعطف الخاص على العام ولا سيما في الدعاء، وأما الإيراد الثاني فلا نعلم من منع ذلك تبعا، وإنما الخلاف في الصلاة على غير الأنبياء استقلالا، وقد شرع الدعاء للآحاد بما دعاه به النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه في حديث: "اللهم إني أسالك من خير ما سألك منه محمد" وهو حديث صحيح أخرجه مسلم انتهى ملخصا. وحديث جابر ضعيف. ورواية يزيد أخرجها أحمد أيضا عن محمد بن فضيل عنه وزاد في آخره: قال يزيد فلا أدري أشيء زاده عبد الرحمن من قبل نفسه أو رواه عن كعب، وكذا أخرجه الطبري من رواية محمد ابن فضيل، ووردت هذه الزيادة من وجهين آخرين مرفوعين أحدهما عند الطبراني من طريق فطر بن خليفة عن الحكم بلفظ: يقولون اللهم صل على محمد إلى قوله وآل إبراهيم وصل علينا معهم، وبارك على محمد مثله، وفي آخره وبارك علينا معهم، ورواته موثقون لكنه فيما أحسب مدرج لما بينه زائدة عن الأعمش. ثانيهما عند الدار قطني من وجه آخر عن ابن مسعود مثله لكن قال اللهم بدل الواو في وصل وفي وبارك، وفيه عبد الوهاب بن مجاهد وهو ضعيف، وقد تعقب الإسنوي ما قاله النووي فقال: لم يستوعب ما ثبت في الأحاديث مع اختلاف كلامه. وقال الأذرعي: لم يسبق إلى ما قال. والذي يظهر أن الأفضل لمن تشهد أن يأتي بأكمل الروايات ويقول كل ما ثبت هذا مرة وهذا مرة، وأما التلفيق فإنه يستلزم إحداث صفة التشهد لم ترد مجموعة في حديث واحد انتهى. وكأنه أخذه من كلام ابن القيم فإنه قال: إن هذه الكيفية لم ترد مجموعة في طريق من الطرق، والأولى أن يستعمل كل لفظ ثبت على حدة فبذلك يحصل الإتيان بجميع ما ورد بخلاف ما إذا قال الجميع دفعة واحدة فإن الغالب على الظن أنه صلى الله عليه وسلم لم يقله كذلك. وقال الإسنوي أيضا: كان يلزم الشيخ أن يجمع الألفاظ الواردة في التشهد. وأجيب بأنه لا يلزم من كونه لم يصرح بذلك أن لا يلتزمه. وقال ابن القيم أيضا: قد نص الشافعي على أن الاختلاف في ألفاظ التشهد ونحوه كالاختلاف في القراءات، ولم يقل أحد من الأئمة باستحباب التلاوة بجميع الألفاظ المختلفة في الحرف الواحد من القرآن وإن كان بعضهم أجاز ذلك عند التعليم للتمرين انتهى. والذي يظهر أن اللفظ إن كان بمعنى اللفظ الآخر سواء كما في أزواجه وأمهات المؤمنين فالأولى الاقتصار في كل مرة على أحدهما وإن كان اللفظ يستقل بزيادة معنى ليس في اللفظ الآخر البتة، فالأولى الإتيان به، ويحتمل على أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر كما تقدم، وإن كان يزيد على الآخر في المعنى شيئا ما فلا بأس بالإتيان به احتياطا. وقالت طائفة منهم الطبري: إن ذلك الاختلاف المباح، فأي لفظ ذكره المرء أجزأ، والأفضل أن يستعمل أكمله وأبلغه. واستدل على ذلك باختلاف النقل عن الصحابة فذكر ما نقل عن علي، وهو حديث موقوف طويل أخرجه سعيد بن منصور والطبري والطبراني وابن فارس وأوله "اللهم داحي المدحوات" إلى أن قال: "اجعل شرائف صلواتك وتوامي بركاتك ورأفة تحيتك على محمد عبدك ورسولك" الحديث. وعن ابن مسعود بلفظ: "اللهم اجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك على سيد المرسلين إمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك" الحديث أخرجه ابن ماجه والطبري، وادعى ابن القيم أن أكثر الأحاديث بل كلها مصرحة بذكر محمد وآل محمد وبذكر آل إبراهيم فقط أو بذكر إبراهيم فقط قال: ولم يجيء في حديث صحيح بلفظ إبراهيم وآل إبراهيم معا إنما أخرجه البيهقي من طريق يحيى بن السباق عن رجل من بني الحارث عن ابن مسعود، ويحيى مجهول وشيخه مبهم فهو سند ضعيف، وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر قوي لكنه موقوف على ابن مسعود، وأخرجه النسائي والدار قطني من حديث
(11/158)

طلحة. قلت: وغفل عما وقع في صحيح البخاري كما تقدم في أحاديث الأنبياء في ترجمة إبراهيم عليه السلام من طريق عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى بلفظ: "كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" وكذا في قوله: "كما باركت" وكذا وقع في حديث أبي مسعود البدري من رواية محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن محمد ابن عبد الله بن زيد عنه أخرجه الطبري، بل أخرجه الطبري أيضا في رواية الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أخرجه من طريق عمرو بن قيس عن الحكم بن عتيبة فذكره بلفظ: "على محمد وآل محمد إنك حميد مجيد" وبلفظ: "على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد" وأخرجه أيضا من طريق الأجلح عن الحكم مثله سواء. وأخرج أيضا من طريق حنظلة ابن علي عن أبي هريرة ما سأذكره، وأخرجه أبو العباس السراج من طريق داود بن قيس عن نعيم المجمر عن أبي هريرة "أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد" ومن حديث بريدة رفعه: "اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" وأصله عند أحمد، ووقع في حديث ابن مسعود المشار إليه زيادة أخرى وهي "وارحم محمدا وآل محمد كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم" الحديث، وأخرجه الحاكم في صحيحه من حديث ابن مسعود فاغتر بتصحيحه قوم فوهموا، فإنه من رواية يحيى بن السباق وهو مجهول، عن رجل مبهم. نعم أخرج ابن ماجه ذلك عن ابن مسعود من قوله: "قال قولوا: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد عبدك ورسولك" الحديث وبالغ ابن العربي في إنكار ذلك فقال: حذار مما ذكره ابن أبي زيد من زيادة "وترحم" فإنه قريب من البدعة لأنه صلى الله عليه وسلم علمهم كيفية الصلاة عليه بالوحي ففي الزيادة على ذلك استدراك عليه انتهى. وابن أبي زيد ذكر ذلك في صفة التشهد في "الرسالة" لما ذكر ما يستحب في التشهد ومنه "اللهم صل على محمد وآل محمد" فزاد: "وترحم على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد إلخ" فإن كان إنكاره لكونه لم يصح فمسلم، وإلا فدعوى من ادعى أنه لا يقال ارحم محمدا مردودة لثبوت ذلك في عدة أحاديث أصحها في التشهد "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" ثم وجدت لابن أبي زيد مستندا، فأخرج الطبري في تهذيبه من طريق حنظلة بن علي عن أبي هريرة رفعه: "من قال اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم شهدت له يوم القيامة وشفعت له" ورجال سنده رجال الصحيح إلا سعيد بن سليمان مولى سعيد بن العاص الراوي له عن حنظلة بن علي فإنه مجهول. "تنبيه": هذا كله فيما يقال مضموما إلى السلام أو الصلاة، وقد وافق ابن العربي الصيدلاني من الشافعية على المنع. وقال أبو القاسم الأنصاري شارح "الإرشاد" يجوز ذلك مضافا إلى الصلاة ولا يجوز مفردا، ونقل عياض عن الجمهور الجواز مطلقا. وقال القرطبي في "المفهم" إنه الصحيح لورود الأحاديث به، وخالفه غيره: ففي "الذخيرة" من كتب الحنفية عن محمد يكره ذلك لإيهامه النقص لأن الرحمة غالبا إنما تكون عن فعل ما يلام عليه، وجزم ابن عبد البر بمنعه فقال: لا يجوز لأحد إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول رحمه الله لأنه قال من صلى علي، ولم يقل من ترحم علي ولا من دعا لي، وإن كان معنى الصلاة الرحمة، ولكنه خص هذا اللفظ تعظيما له فلا يعدل عنه إلى غيره، ويؤيده
(11/159)

قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} انتهى. وهو بحث حسن لكن في التعليل الأول نظر، والمعتمد الثاني، والله أعلم. قوله: "وعلى آل محمد" قيل أصل "آل" أهل قلبت الهاء همزة ثم سهلت ولهذا إذا صغر رد إلى الأصل فقالوا أهيل، وقيل بل أصله أول من آل إذا رجع، سمي بذلك من يئول إلى الشخص ويضاف إليه، ويقويه أنه لا يضاف إلا إلى معظم فيقال آل القاضي ولا يقال آل الحجام بخلاف أهل، ولا يضاف آل أيضا غالبا إلى غير العاقل ولا إلى المضمر عند الأكثر، وجوره بعضهم بقلة، وقد ثبت في شعر عبد المطلب في قوله في قصة أصحاب الفيل من أبيات "وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك". وقد يطلق آل فلان على نفسه وعليه وعلى من يضاف إليه جميعا وضابطه أنه إذا قيل فعل آل فلان كذا دخل هو فيهم إلا بقرينة، ومن شواهده قوله صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي، إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة، وإن ذكرا معا فلا، وهو كالفقير والمسكين، وكذا الإيمان والإسلام والفسوق والعصيان، ولما اختلفت ألفاظ الحديث في الإتيان بهما معا وفي إفراد أحدهما كان أولى المحامل أن يحمل على أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك كله، ويكون بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وأما التعدد فبعيد لأن غالب الطرق تصرح بأنه وقع جوابا عن قولهم "كيف نصلي عليك" ويحتمل أن يكون بعض من اقتصر على آل إبراهيم بدون ذكر إبراهيم رواه بالمعنى بناء على دخول إبراهيم في قوله آل إبراهيم كما تقدم. واختلف في المراد بآل محمد في هذا الحديث، فالراجح أنهم من حرمت عليهم الصدقة، وقد تقدم بيان الاختلاف في ذلك واضحا في كتاب الزكاة، وهذا نص عليه الشافعي واختاره الجمهور، ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي "إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة" وقد تقدم في البيوع من حديث أبي هريرة، ولمسلم من حديث عبد المطلب بن ربيعة في أثناء حديث مرفوع "إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد" وقال أحمد: المراد بآل محمد في حديث التشهد أهل بيته، وعلى هذا فهل يجوز أن يقال أهل عوض آل؟ روايتان عندهم. وقيل المراد بآل محمد أزواجه وذريته لأن أكثر طرق هذا الحديث جاء بلفظ: "وآل محمد" وجاء في حديث أبي حميد موضعه "وأزواجه وذريته" فدل على أن المراد بالآل الأزواج والذرية، وتعقب بأنه ثبت الجمع بين الثلاثة كما في حديث أبي هريرة، فيحمل على أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ غيره فالمراد بالآل في التشهد الأزواج ومن حرمت عليهم الصدقة ويدخل فيهم الذرية، فبذلك يجمع بين الأحاديث. وقد أطلق على أزواجه صلى الله عليه وسلم آل محمد في حديث عائشة "ما شبع آل محمد من خبز مأدوم ثلاثا" وقد تقدم ويأتي في الرقاق، وفيه أيضا من حديث أبي هريرة "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" وكأن الأزواج أفردوا بالذكر تنويها بهم وكذا الذرية، وقيل المراد بالآل ذرية فاطمة خاصة حكاه النووي في "شرح المهذب". وقيل هم جميع قريش حكاه ابن الرفعة في "الكفاية". وقيل المراد بالآل جميع الأمة أمة الإجابة. وقال ابن العربي: مال إلى ذلك مالك واختاره الأزهري وحكاه أبو الطيب الطبري عن بعض الشافعية ورجحه النووي في شرح مسلم، وقيده القاضي حسين والراغب بالأتقياء منهم، وعليه يحمل كلام من أطلق، ويؤيده قوله تعالى: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أوليائي منكم المتقون" وفي "نوادر أبي العيناء" إنه غض من بعض الهاشميين فقال له أتغض مني وأنت تصلي علي في كل صلاة في قولك اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، فقال: إني أريد الطيبين الطاهرين ولست منهم. ويمكن أن يحمل كلام من أطلق على أن المراد بالصلاة الرحمة المطلقة فلا تحتاج إلى تقييد، وقد
(11/160)

استدل لهم بحديث أنس رفعه: "آل محمد كل تقي" أخرجه الطبراني ولكن سنده واه جدا.وأخرج البيهقي عن جابر نحوه من قوله بسند ضعيف. قوله: "كما صليت على آل إبراهيم" اشتهر السؤال عن موقع التشبيه مع أن المقرر أن المشبه دون المشبه به، والواقع هنا عكسه لأن محمدا صلى الله عليه وسلم وحده أفضل من آل إبراهيم ومن إبراهيم ولا سيما قد أضيف إليه آل محمد، وقضية كونه أفضل أن تكون الصلاة المطلوبة أفضل من كل صلاة حصلت أو تحصل لغيره، وأجيب عن ذلك بأجوبة: الأول أنه قال ذلك قبل أن يعلم أنه أفضل من إبراهيم، وقد أخرج مسلم من حديث أنس "أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا خير البرية، قال: ذاك إبراهيم" أشار إليه ابن العربي وأيده بأنه سأل لنفسه التسوية مع إبراهيم وأمر أمته أن يسألوا له ذلك فزاده الله تعالى بغير سؤال أن فضله على إبراهيم. وتعقب بأنه لو كان كذلك لغير صفة الصلاة عليه بعد أن علم أنه أفضل. الثاني أنه قال ذلك تواضعا وشرع ذلك لأمته ليكتسبوا بذلك الفضيلة. الثالث أن التشبيه إنما هو لأصل الصلاة بأصل الصلاة لا للقدر بالقدر فهو كقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وهو كقول القائل أحسن إلى ولدك كما أحسنت إلى فلان ويريد بذلك أصل الإحسان لا قدره، ومنه قوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ورجح هذا الجواب القرطبي في "المفهم". الرابع أن الكاف للتعليل كما في قوله: "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم" وفي قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} . وقال بعضهم: الكاف على بابها من التشبيه ثم عدل عنه للإعلام بخصوصية المطلوب. الخامس أن المراد أن يجعله خليلا كما جعل إبراهيم، وأن يجعل له لسان صدق كما جعل لإبراهيم مضافا إلى ما حصل له من المحبة، ويرد عليه ما ورد على الأول، وقربه بعضهم بأنه مثل رجلين يملك أحدهما ألفا ويملك الآخر ألفين فسأل صاحب الألفين أن يعطي ألفا أخرى نظير الذي أعطيها الأول فيصير المجموع للثاني أضعاف ما للأول. السادس أن قوله: "اللهم صل على محمد" مقطوع عن التشبيه فسيكون التشبيه متعلقا بقوله: "وعلى آل محمد" وتعقب بأن غير الأنبياء لا يمكن أن يساووا الأنبياء فكيف تطلب لهم صلاة مثل الصلاة التي وقعت لإبراهيم والأنبياء من آله؟ ويمكن الجواب عن ذلك بأن المطلوب الثواب الحاصل لهم لا جميع الصفات التي كانت سببا للثواب، وقد نقل العمراني في "البيان" عن الشيخ أبي حامد أنه نقل هذا الجواب عن نص الشافعي، واستبعد ابن القيم صحة ذلك عن الشافعي لأنه مع فصاحته ومعرفته بلسان العرب لا يقول هذا الكلام الذي يستلزم هذا التركيب الركيك المعيب من كلام العرب، كذا قال، وليس التركيب المذكور بركيك بل التقدير اللهم صل على محمد وصل على آل محمد كما صليت إلى آخره فلا يمتنع تعلق التشبيه بالجملة الثانية. السابع أن التشبيه إنما هو للمجموع بالمجموع فإن في الأنبياء من آل إبراهيم كثرة، فإذا قوبلت تلك الذوات الكثيرة من إبراهيم وآل إبراهيم بالصفات الكثيرة التي لمحمد أمكن انتفاء التفاضل. قلت: ويعكر على هذا الجواب أنه وقع في حديث أبي سعيد ثاني حديثي الباب مقابلة الاسم فقط بالاسم فقط ولفظه: "اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم". الثامن أن التشبيه بالنظر إلى ما يحصل لمحمد وآل محمد من صلاة كل فرد فرد، فيحصل من مجموع صلاة المصلين من أول التعليم إلى آخر الزمان أضعاف ما كان لآل إبراهيم، وعبر ابن العربي عن هذا بقوله: المراد دوام ذلك واستمراره. التاسع أن التشبيه راجع إلى المصلي فيما يحصل له من الثواب لا بالنسبة إلى ما يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ضعيف لأنه يصير كأنه قال اللهم أعطني ثوابا على صلاتي على النبي صلى الله عليه وسلم
(11/161)

كما صليت على آل إبراهيم، ويمكن أن يجاب بأن المراد مثل ثواب المصلي على آل إبراهيم. العاشر دفع المقدمة المذكورة أولا وهي أن المشبه به يكون أرفع من المشبه، وأن ذلك ليس مطردا، بل قد يكون التشبيه بالمثل بل وبالدون كما في قوله تعالى {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} وأين يقع نور المشكاة من نوره تعالى؟ ولكن لما كان المراد من المشبه به أن يكون شيئا ظاهرا واضحا للسامع حسن تشبيه النور بالمشكاة، وكذا هنا لما كان تعظيم إبراهيم وآل إبراهيم بالصلاة عليهم مشهورا واضحا عند جميع الطوائف حسن أن يطلب لمحمد وآل محمد بالصلاة عليهم مثل ما حصل لإبراهيم وآل إبراهيم، ويؤيد ذلك ختم الطلب المذكور بقوله: "في العالمين" أي كما أظهرت الصلاة على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، ولهذا لم يقع قوله في العالمين إلا في ذكر آل إبراهيم دون ذكر آل محمد على ما وقع في الحديث الذي ورد فيه وهو حديث أبي مسعود فيما أخرجه مالك ومسلم وغيرهما، وعبر الطيبي عن ذلك بقوله: ليس التشبيه المذكور من باب إلحاق الناقص بالكامل بل من باب إلحاق ما لم يشتهر بما اشتهر. وقال الحليمي: سبب هذا التشبيه أن الملائكة قالت في بيت إبراهيم "رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد" وقد علم أن محمدا وآل محمد من أهل بيت إبراهيم فكأنه قال: أجب دعاء الملائكة الذين قالوا ذلك محمد وآل محمد كما أجبتها عندما قالوها في آل إبراهيم الموجودين حينئذ، ولذلك ختم بما ختمت به الآية وهو قوله: "إنك حميد مجيد". وقال النووي بعد أن ذكر بعض هذه الأجوبة: أحسنها ما نسب إلى الشافعي والتشبيه لأصل الصلاة بأصل الصلاة أو للمجموع بالمجموع. وقال ابن القيم بعد أن زيف أكثر الأجوبة إلا تشبيه المجموع بالمجموع: وأحسن منه أن يقال هو صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، وقد ثبت ذلك عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} قال: محمد من آل إبراهيم فكأنه أمرنا أن نصلي على محمد وعلى آل محمد خصوصا بقدر ما صلينا عليه مع إبراهيم وآل إبراهيم عموما فيحصل لآله ما يليق بهم ويبقى الباقي كله له، وذلك القدر أزيد مما لغيره من آل إبراهيم قطعا، ويظهر حينئذ فائدة التشبيه، وأن المطلوب له بهذا اللفظ أفضل من المطلوب بغيره من الألفاظ. ووجدت في مصنف لشيخنا مجد الدين الشيرازي اللغوي جوابا آخر نقله عن بعض أهل الكشف حاصله أن التشبيه لغير اللفظ المشبه به لا لعينه، وذلك أن المراد بقولنا "اللهم صل على محمد" اجعل من أتباعه من يبلغ النهاية في أمر الدين كالعلماء بشرعه بتقريرهم أمر الشريعة "كما صليت على إبراهيم" بأن جعلت في أتباعه أنبياء يقررون الشريعة، والمراد بقوله: "وعلى آل محمد" اجعل من أتباعه ناسا محدثين بالفتح يخبرون بالمغيبات كما صليت على إبراهيم بأن جعلت فيهم أنبياء يخبرون بالمغيبات، والمطلوب حصول صفات الأنبياء لآل محمد وهم أتباعه في الدين كما كانت حاصلة بسؤال إبراهيم، وهذا محصل ما ذكره، وهو جيد إن سلم أن المراد بالصلاة هنا ما ادعاه، والله أعلم. وفي نحو هذه الدعوى جواب آخر: المراد اللهم استجب دعاء محمد في أمته كما استجبت دعاء إبراهيم في بنيه، ويعكر على هذا عطف الآل في الموضعين. قوله: "على آل إبراهيم" هم ذريته من إسماعيل وإسحاق كما جزم به جماعة من الشراح، وإن ثبت أن إبراهيم كان له أولاد من غير سارة وهاجر فهم داخلون لا محالة. ثم إن المراد المسلمون منهم بل المتقون، فيدخل فيهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون دون من عداهم، وفيه ما تقدم في آل محمد. قوله: "وبارك" المراد بالبركة هنا الزيادة من الخير والكرامة، وقيل المراد التطهير من العيوب والتزكية، وقيل المراد إثبات ذلك واستمراره من قولهم بركت الإبل أي ثبتت على
(11/162)

الأرض، وبه سميت بركة الماء بكسر أوله وسكون ثانية لإقامة الماء فيها. والحاصل أن المطلوب أن يعطوا من الخير أوفاه، وأن يثبت ذلك ويستمر دائما. والمراد بالعالمين فيما رواه أبو مسعود في حديثه أصناف الخلق، وفيه أقوال أخرى: قيل ما حواه بطن الفلك، وقيل كل محدث، وقيل ما فيه روح، وقيل بقيد العقلاء، وقيل الإنس والجن فقط. قوله: "إنك حميد مجيد" أما الحميد فهو فعيل من الحمد بمعنى محمود، وأبلغ منه وهو من حصل له من صفات الحمد أكملها، وقيل هو بمعنى الحامد أي يحمد أفعال عباده. وأما المجيد فهو من المجد وهو صفة من كمل في الشرف، وهو مستلزم للعظمة والجلال كما أن الحمد يدل على صفة الإكرام، ومناسبة ختم هذا الدعاء بهذين الاسمين العظيمين أن المطلوب تكريم الله لنبيه وثناؤه عليه والتنويه به وزيادة تقريبه، وذلك مما يستلزم طلب الحمد والمجد ففي ذلك إشارة إلى أنهما كالتعليل للمطلوب، أو هو كالتذييل له، والمعنى إنك فاعل ما تستوجب به الحمد من النعم المترادفة، كريم بكثرة الإحسان إلى جميع عبادك. واستدل بهذا الحديث على إيجاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل صلاة لما وقع في هذا الحديث من الزيادة في بعض الطرق عن أبي مسعود، وهو ما أخرجه أصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم كلهم من طريق محمد بن إسحاق عن محمد ابن إبراهيم التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد عنه بلفظ: "فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا" وقد أشرت إلى شيء من ذلك في تفسير سورة الأحزاب. وقال الدار قطني: إسناده حسن متصل. وقال البيهقي: إسناده حسن صحيح. وتعقبه ابن التركماني بأنه قال في "باب تحريم قتل ماله روح" بعد ذكر حديث فيه ابن إسحاق: الحفاظ يتوقون ما ينفرد به. قلت: وهو اعتراض متجه لأن هذه الزيادة تفرد بها ابن إسحاق، لكن ما ينفرد به وإن لم يبلغ درجة الصحيح فهو في درجة الحسن إذا صرح بالتحديث وهو هنا كذلك، وإنما يصحح له من لا يفرق بين الصحيح والحسن ويجعل كل ما يصلح للحجة صحيحا وهذه طريقة ابن حبان ومن ذكر معه، وقد احتج بهذه الزيادة جماعة من الشافعية كابن خزيمة والبيهقي لإيجاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد بعد التشهد وقبل السلام، وتعقب بأنه لا دلالة فيه على ذلك، بل إنما يفيد إيجاب الإتيان بهذه الألفاظ على من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، وعلى تقدير أن يدل على إيجاب أصل الصلاة فلا يدل على هذا المحل المخصوص، ولكن قرب البيهقي ذلك بما تقدم أن الآية لما نزلت وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد علمهم كيفية السلام عليه في التشهد والتشهد داخل الصلاة فسألوا عن كيفية الصلاة فعلمهم، فدل على أن المراد بذلك إيقاع الصلاة عليه في التشهد بعد الفراغ من التشهد الذي تقدم تعليمه لهم، وأما احتمال أن يكون ذلك خارج الصلاة فهو بعيد كما قال عياض وغيره. وقال ابن دقيق العيد: ليس فيه تنصيص على أن الأمر به مخصوص بالصلاة، وقد كثر الاستدلال به على وجوب الصلاة، وقرر بعضهم الاستدلال بأن الصلاة عليه واجبة بالإجماع وليست الصلاة عليه خارج الصلاة واجبة بالإجماع فتعين أن تجب في الصلاة، قال: وهذا ضعيف، لأن قوله لا تجب في غير الصلاة بالإجماع إن أراد به عينا فهو صحيح لكن لا يفيد المطلوب لأنه يفيد أن تجب في أحد الموضعين لا بعينه، وزعم القرافي في "الذخيرة" أن الشافعي هو المستدل بذلك، ورده بنحو ما رد به ابن دقيق العيد، ولم يصب في نسبة ذلك للشافعي، والذي قاله الشافعي في "الأم": فرض الله الصلاة على رسوله بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فلم يكن فرض الصلاة عليه في موضع أولى منه في الصلاة، ووجدنا الدلالة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك: أخبرنا إبراهيم بن محمد حدثني صفوان بن سليم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن
(11/163)