بَاب الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 3
 
عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله كيف نصلي عليك -يعني في الصلاة- قال: تقولون اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم" الحديث، أخبرنا إبراهيم بن محمد حدثني سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "كان يقول في الصلاة: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم" الحديث، قال الشافعي: فلما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم التشهد في الصلاة، وروي عنه أنه علمهم كيف يصلون عليه في الصلاة، لم يجز أن نقول التشهد في الصلاة واجب والصلاة عليه فيه غير واجبة. وقد تعقب بعض المخالفين هذا الاستدلال من أوجه: أحدها ضعف إبراهيم بن أبي يحيى والكلام فيه مشهور، الثاني على تقدير صحته فقوله في الأول "يعني في الصلاة" لم يصرح بالقائل "يعني" الثالث قوله في الثاني "إنه كان يقول في الصلاة" وإن كان ظاهره أن الصلاة المكتوبة لكنه يحتمل أن يكون المراد بقوله في الصلاة أي في صفة الصلاة عليه، وهو احتمال قوي، لأن أكثر الطرق عن كعب بن عجرة كما قدم تدل على أن السؤال وقع عن صفة الصلاة لا عن محلها، الرابع ليس في الحديث ما يدل على تعين ذلك في التشهد خصوصا بينه وبين السلام من الصلاة، وقد أطنب قوم في نسبة الشافعي في ذلك إلى الشذوذ، منهم أبو جعفر الطبري وأبو جعفر الطحاوي وأبو بكر بن المنذر والخطابي، وأورد عياض في "الشفاء" مقالاتهم وعاب عليه ذلك غير واحد لأن موضوع كتابه يقتضي تصويب ما ذهب إليه الشافعي لأنه من جملة تعظيم المصطفى، وقد استحسن هو القول بطهارة فضلاته مع أن الأكثر على خلافه لكنه استجاده لما فيه من الزيادة في تعظيمه، وانتصر جماعة للشافعي فذكروا أدلة نقلية ونظرية، ودفعوا دعوى الشذوذ فنقلوا القول بالوجوب عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأصح ما ورد في ذلك عن الصحابة والتابعين ما أخرجه الحاكم بسند قوي عن ابن مسعود قال: "يتشهد الرجل ثم يصلي على النبي ثم يدعو لنفسه" وهذا أقوى شيء يحتج به للشافعي، فإن ابن مسعود ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد في الصلاة وأنه قال: "ثم ليتخير من الدعاء ما شاء" فلما ثبت عن ابن مسعود الأمر بالصلاة عليه قبل الدعاء دل على أنه اطلع على زيادة ذلك بين التشهد والدعاء، واندفعت حجة من تمسك بحديث ابن مسعود في دفع ما ذهب إليه الشافعي مثل ما ذكر عياض قال: وهذا تشهد ابن مسعود الذي علمه له النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه ذكر الصلاة عليه، وكذا قول الخطابي أن في آخر حديث ابن مسعود "إذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك" لكن رد عليه بأن هذه الزيادة مدرجة، وعلى تقدير ثبوتها فتحمل على أن مشروعية الصلاة عليه وردت بعد تعليم التشهد، ويتقوى ذلك بما أخرجه الترمذي عن عمر موقوفا "الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم" قال ابن العربي: ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي فيكون له حكم الرفع انتهى. وورد له شاهد مرفوع في "جزء الحسن بن عرفة" وأخرج العمري في "عمل يوم وليلة" عن ابن عمر بسند جيد قال: "لا تكون صلاة إلا بقراءة وتشهد وصلاة علي" فخرج البيهقي في "الخلافيات" بسند قوي عن الشعبي وهو من كبار التابعين قال: "من لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد فليعد صلاته" وأخرج الطبري بسند صحيح عن مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو من كبار التابعين قال: "كنا نعلم التشهد فإذا قال وأشهد أن محمدا عبده ورسوله يحمد ربه ويثنى عليه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل حاجته" وأما فقهاء الأمصار فلم يتفقوا على مخالفة الشافعي في ذلك بل جاء عن أحمد روايتان، وعن إسحاق الجزم به في العمد فقال: إذا تركها يعيد والخلاف أيضا عند المالكية ذكرها ابن الحاجب في سنن الصلاة ثم قال: على الصحيح، فقال شارحه ابن
(11/164)

عبد السلام: يريد أن في وجوبها قولين، وهو ظاهر كلام ابن المواز منهم. وأما الحنفية فألزم بعض شيوخنا من قال بوجوب الصلاة عليه كما ذكر كالطحاوي ونقله السروجي في "شرح الهداية" عن أصحاب "المحيط" و "العقد" و "التحفة" و "المغيث" من كتبهم أن يقولوا بوجوبها في التشهد لتقدم ذكره في آخر التشهد، لكن لهم أن يلتزموا ذلك لكن لا يجعلونه شرطا في صحة الصلاة. وروى الطحاوي أن حرملة انفرد عن الشافعي بإيجاب ذلك بعد التشهد وقبل سلام التحلل قال: لكن أصحابه قبلوا ذلك وانتصروا له وناظروا عليه انتهى. واستدل له ابن خزيمة ومن تبعه بما أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه، وكذا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، من حديث فضالة بن عبيد قال: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على النبي فقال: عجل هذا، ثم دعاه فقال: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ثم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بما شاء" وهذا مما يدل على أن قول ابن مسعود المذكور قريبا مرفوع فإنه بلفظه، وقد طعن ابن عبد البر في الاستدلال بحديث فضالة للوجوب فقال: لو كان كذلك لأمر المصلي بالإعادة كما أمر المسيء بإعادة صلاته، وكذا أشار إليه ابن حزم. وأجيب باحتمال أن يكون الوجوب وقع عند فراغه. ويكفي التمسك بالأمر في دعوى الوجوب. وقال جماعة منهم الجرجاني من الحنفية: لو كانت فرضا للزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، لأنه علمهم التشهد وقال: "فيتخير من الدعاء ما شاء" ولم يذكر الصلاة عليه. وأجيب باحتمال أن لا تكون فرضت حينئذ. وقال شيخنا في "شرح الترمذي": قد ورد هذا في الصحيح بلفظ: "ثم ليتخير" و "ثم" للتراخي فدل على أنه كان هناك شيء بين التشهد والدعاء. واستدل بعضهم بما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رفعه: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليستعذ بالله من أربع" . الحديث وعلى هذا عول ابن جزم في إيجاب هذه الاستعاذة في التشهد وفي كون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مستحبة عقب التشهد لا واجبة، وفيه ما فيه، والله أعلم. وقد انتصر ابن القيم للشافعي فقال: أجمعوا على مشروعية الصلاة عليه في التشهد، وإنما اختلفوا في الوجوب والاستحباب، وفي تمسك من لم يوجبه بعمل السلف الصالح نظر لأن عملهم كان بوفاقه، إلا إن كان يريد بالعمل الاعتقاد فيحتاج إلى نقل صريح عنهم بأن ذلك ليس بواجب وأنى يوجد ذلك؟ قال: وأما قول عياض أن الناس شنعوا على الشافعي فلا معنى له، فأي شناعة في ذلك لأنه لم يخالف نصا ولا إجماعا ولا قياسا ولا مصلحة راجحة؟ بل القول بذلك من محاسن مذهبه. وأما نقله للإجماع فقد تقدم رده، وأما دعواه أن الشافعي اختار تشهد ابن مسعود فيدل على عدم معرفة باختيارات الشافعي فإنه إنما اختار تشهد ابن عباس وأما ما احتج به جماعة من الشافعية من الأحاديث المرفوعة الصريحة في ذلك فإنها ضعيفة كحديث سهل بن سعد وعائشة وأبي مسعود وبريدة وغيرهم، وقد استوعبها البيهقي في "الخلافيات" ولا بأس بذكرها للتقوية لا أنها تنهض بالحجة. قلت: ولم أر عن أحد من الصحابة والتابعين التصريح بعدم الوجوب إلا ما نقل عن إبراهيم النخعي، ومع ذلك فلفظ المنقول عنه كما تقدم يشعر بأن غيره كان قائلا بالوجوب فإنه عبر بالأجزاء. قوله في ثاني حديثي الباب "ابن أبي حازم والدراوردي" اسم كل منهما عبد العزيز، وابن أبي حازم ممن يحتج به البخاري، والدراوردي إنما يخرج له في المتابعات أو مقرونا بآخر، ويزيد شيخهما هو ابن عبد الله بن الهاد، وعبد الله بن خباب بمعجمة وموحدتين الأولى ثقيلة. قوله: "هذا السلام عليك" أي عرفناه كما وقع تقريره في الحديث الأول وتقدمت بقية فوائده في الذي قبله، واستدل بهذا الحديث على تعين هذا اللفظ الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم
(11/165)

لأصحابه في امتثال الأمر سواء قلنا بالوجوب مطلقا أو مقيدا بالصلاة، وأما تعينه في الصلاة فعن أحمد في رواية، والأصح عند أتباعه لا تجب، واختلف في الأفضل: فعن أحمد أكمل ما ورد، وعنه يتخير، وأما الشافعية فقالوا يكفي أن يقول: "اللهم صل على محمد" واختلفوا هل يكفي الإتيان بما يدل على ذلك كأن يقوله بلفظ الخبر فيقول: صل الله على محمد مثلا، والأصح إجزاؤه. وذلك أن الدعاء بلفظ الخبر آكد فيكون جائزا بطريق الأولى. ومن منع وقف عند التعبد. وهو الذي رجحه ابن العربي. بل كلامه يدل على أن الثواب الوارد لمن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم إنما يحصل لمن صلى عليه بالكيفية المذكورة. واتفق أصحابنا على أنه لا يجزئ أن يقتصر على الخبر كأن يقول الصلاة على محمد، إذ ليس فيه إسناد الصلاة إلى الله تعالى، واختلفوا في تعين لفظ محمد، لكن جوزوا الاكتفاء بالوصف دون الاسم كالنبي ورسول الله لأن لفظ محمد وقع التعبد به فلا يجزئ عنه إلا ما كان أعلى منه، ولهذا قالوا لا يجزئ الإتيان بالضمير ولا بأحمد مثلا في الأصح فيهما مع تقدم ذكره في التشهد بقوله النبي وبقوله محمد، وذهب الجمهور إلى الاجتزاء بكل لفظ أدى المراد بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم حتى قال بعضهم: ولو قال في أثناء التشهد الصلاة والسلام عليك أيها النبي أجزأ، وكذا لو قال أشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، بخلاف ما إذا قدم عبده ورسوله، وهذا ينبغي أن ينبني على أن ترتيب ألفاظ التشهد لا يشترط وهو الأصح، ولكن دليل مقابله قوي لقولهم "كما يعلمنا السورة" وقول ابن مسعود "عدهن في يدي" ورأيت لبعض المتأخرين فيه تصنيفا، وعمدة الجمهور في الاكتفاء بما ذكر أن الوجوب ثبت بنص القرآن بقوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فلما سأل الصحابة عن الكيفية وعلمها لهم النبي صلى الله عليه وسلم واختلف النقل لتلك الألفاظ اقتصر على ما اتفقت عليه الروايات وترك ما زاد على ذلك كما في التشهد، إذ لو كان المتروك واجبا لما سكت عنه انتهى. وقد استشكل ذلك ابن الفركاح في "الإقليد" فقال: جعلهم هذا هو الأقل يحتاج إلى دليل على الاكتفاء بمسمى الصلاة، فإن الأحاديث الصحيحة ليس فيها الاقتصار، والأحاديث التي فيها الأمر بمطلق الصلاة ليس فيها ما يشير إلى ما يجب من ذلك في الصلاة، وأقل ما وقع في الروايات "اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم" ومن ثم حكى الفوراني عن صاحب الفروع في إيجاب ذكر إبراهيم وجهين، واحتج لمن لم يوجبه بأنه ورد بدون ذكره في حديث زيد بن خارجة عند النسائي بسند قوي ولفظه: "صلوا علي وقولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد" وفيه نظر لأنه من اختصار بعض الرواة فإن النسائي أخرجه من هذا الوجه بتمامه، وكذا الطحاوي واختلف في إيجاب الصلاة على الآل ففي تعينها أيضا عند الشافعية والحنابلة روايتان، والمشهور عندهم لا، وهو قول الجمهور وادعى كثير منهم فيه الإجماع وأكثر من أثبت الوجوب من الشافعية نسبوه إلى الترنجي، ونقل البيهقي في "الشعب" عن أبي إسحاق المروزي وهو من كبار الشافعية قال: أنا أعتقد وجوبها، قال البيهقي: وفي الأحاديث الثابتة دلالة على صحة ما قال. قلت: وفي كلام الطحاوي في مشكلة ما يدل على أن حرملة نقله عن الشافعي واستدل به على مشروعية الصلاة على النبي وآله في التشهد الأول والمصحح عند الشافعية استحباب الصلاة عليه فقط لأنه مبني على التخفيف وأما الأول فبناه الأصحاب على حكم ذلك في التشهد الأخير إن قلنا بالوجوب. قلت: واستدل بتعليمه صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكيفية بعد سؤالهم عنها بأنها أفضل كيفيات الصلاة عليه، لأنه لا يختار لنفسه إلا الأشرف الأفضل؛ ويترتب على ذلك لو حلف أن يصلي عليه أفضل الصلاة فطريق البر أن يأتي بذلك هكذا صوبه النووي في "الروضة" بعد
(11/166)

ذكر حكاية الرافعي عن إبراهيم المروزي أنه قال: يبر إذا قال: كلما ذكره الذاكرون، وكلما سها عن ذكره الغافلون. قال النووي وكأنه أخذ ذلك من كون الشافعي ذكر هذه الكيفية. قلت: وهي في خطبة الرسالة، لكن بلفظ غفل بدل سها. وقال الأذرعي: إبراهيم المذكور كثير النقل من تعليقة القاضي حسين، ومع ذلك فالقاضي قال: في طريق البر يقول اللهم صل على محمد كما هو أهله ومستحقه، وكذا نقله البغوي في تعليقه. قلت: ولو جمع بينها فقال ما في الحديث وأضاف إليه أثر الشافعي وما قاله القاضي لكان أشمل، ويحتمل أن يقال: يعمد إلى جميع ما اشتملت عليه الروايات الثابتة فيستعمل منها ذكرا يحصل به البر، وذكر شيخنا مجد الدين الشيرازي في جزء له في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض العلماء أنه قال: أفضل الكيفيات أن يقول: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وأزواجه وذريته وسلم عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك. وعن آخر نحوه لكن قال: عدد الشفع والوتر وعدد كلماتك التامة. ولم يسم قائلها. والذي يرشد إليه الدليل أن البر يحصل بما في حديث أبي هريرة لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا فليقل اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم" الحديث والله أعلم. "تنبيه": إن كان مستند المروزي ما قاله الشافعي فظاهر كلام الشافعي أن الضمير لله تعالى، فإن لفظه: "وصلى الله على نبيه كلما ذكره الذاكرون" فكان حق من غير عبارته أن يقول: اللهم صل على محمد كلما ذكرك الذاكرون إلخ، واستدل به على جواز الصلاة على غير الأنبياء، وسيأتي البحث فيه في الباب الذي بعده، واستدل به على أن الواو لا تقتضي الترتيب لأن صيغة الأمر وردت بالصلاة والتسليم بالواو في قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا} وقدم تعليم السلام قبل الصلاة كما قالوا "علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك" واستدل به على رد قول النخعي: يجزئ في امتثال الأمر بالصلاة قوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته في التشهد، لأنه لو كان كما قال لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى ذلك ولما عدل إلى تعليمهم كيفية أخرى، واستدل به على أن إفراد الصلاة عن التسليم لا يكره وكذا العكس، لأن تعليم التسليم تقدم قبل تعليم الصلاة كما تقدم فأفرد التسليم مدة في التشهد قبل الصلاة عليه، وقد صرح النووي بالكراهة، واستدل بورود الأمر بهما معا في الآية، وفيه نظر. نعم يكره أن يفرد الصلاة ولا يسلم أصلا أما لو صلى في وقت وسلم في وقت آخر فإنه يكون ممتثلا، واستدل به على فضيلة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من جهة ورود الأمر بها واعتناء الصحابة بالسؤال عن كيفيتها، وقد ورد في التصريح بفضلها أحاديث قوية لم يخرج البخاري منها شيئا، منها ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رفعه: "من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا" وله شاهد عن أنس عند أحمد والنسائي وصححه ابن حبان، وعن أبي بردة بن نيار وأبي طلحة كلاهما عند النسائي ورواتهما ثقات، ولفظ أبي بردة ولفظ أبي طلحة عنده نحوه وصححه ابن حبان "من صلى علي من أمتي صلاة مخلصا من قلبه صلى الله عليه بها عشر صلوات ورفعه بها عشر درجات وكتب له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات" ، ومنها حديث ابن مسعود رفعه: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم على صلاة" وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان، وله شاهد عند البيهقي عن أبي أمامة بلفظ: "صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة، فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة" ولا بأس بسنده، وورد الأمر بإكثار الصلاة عليه يوم الجمعة من حديث أوس بن أوس وهو عند أحمد وأبي داود وصححه ابن حبان والحاكم، ومنها حديث: "البخيل
(11/167)

من ذكرت عنده فلم يصل علي" أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وإسماعيل القاضي وأطنب في تخريج طرقه وبيان الاختلاف فيه من حديث على ومن حديث ابنه الحسين ولا يقصر عن درجة الحسن، ومنها حديث: "من نسي الصلاة علي خطئ طريق الجنة" أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس والبيهقي في "الشعب" من حديث أبي هريرة وابن أبي حاتم من حديث جابر والطبراني من حديث حسين بن علي، وهذه الطرق يشد بعضها بعضا وحديث: "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي" أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ: "من ذكرت عنده ولم يصل على فمات فدخل النار فأبعده الله" وله شاهد عنده، وصححه الحاكم، وله شاهد من حديث أبي ذر في الطبراني وآخر عن أنس عند ابن أبي شيبة وآخر مرسل عن الحسن عند سعيد بن منصور، وأخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة ومن حديث مالك بن الحويرث ومن حديث عبد الله بن عباس عند الطبراني ومن حديث عبد الله بن جعفر عند الفريابي وعند الحاكم من حديث كعب بن عجرة بلفظ: "بعد من ذكرت عنده فلم يصل علي" وعند الطبراني من حديث جابر رفعه: "شقي عبد ذكرت عنده فلم يصل علي" وعند عبد الرزاق من مرسل قتادة "من الجفاء أن أذكر عند رجل فلا يصلي علي" ومنها حديث أبي بن كعب "أن رجلا قال يا رسول الله إني أكثر الصلاة فما أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت. قال الثلث؟ قال ما شئت، وإن زدت فهو خير" إلى أن قال: "أجعل لك كل صلاتي؟ قال: إذا تكفى همك" الحديث أخرجه أحمد وغيره بسند حسن، فهذا الجيد من الأحاديث الواردة في ذلك، وفي الباب أحاديث كثيرة ضعيفة وواهية، وأما ما وضعه القصاص في ذلك فلا يحصى كثرة وفي الأحاديث القوية غنية عن ذلك. قال الحليمي: المقصود بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم التقرب إلى الله بامتثال أمره وقضاء حق النبي صلى الله عليه وسلم علينا. وتبعه ابن عبد السلام فقال: ليست صلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة له، فإن مثلنا لا يشفع لمثله، ولكن الله أمرنا بمكافأة من أحسن إلينا، فإن عجزنا عنها كافأناه بالدعاء، فأرشدنا الله لما علم عجزنا عن مكافأة نبينا إلى الصلاة عليه. وقال ابن العربي: فائدة الصلاة عليه ترجع إلى الذي يصلي عليه لدلالة ذلك على نصوع العقيدة وخلوص النية وإظهار المحبة والمداومة على الطاعة والاحترام للواسطة الكريمة صلى الله عليه وسلم، وقد تمسك الأحاديث المذكورة من أوجب الصلاة عليه كلما ذكر، لأن الدعاء بالرغم والإبعاد والشقاء والوصف بالبخل والجفاء يقتضي الوعيد والوعيد على الترك من علامات الوجوب، ومن حيث المعنى أن فائدة الأمر بالصلاة عليه مكافأته على إحسانه وإحسانه مستمر فيتأكد إذا ذكر وتمسكوا أيضا بقوله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} فلو كان إذا ذكر لا يصلي عليه لكان كآحاد الناس. ويتأكد ذلك إذا كان المعنى بقوله: {دُعَاءَ الرَّسُولِ} الدعاء المتعلق بالرسول. وأجاب من لم يوجب ذلك بأجوبة: منها أنه قول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين فهو قول مخترع، ولو كان ذلك على عمومه للزم المؤذن إذا أذن وكذا سامعه وللزم القارئ إذا مر ذكره في القرآن وللزم الداخل في الإسلام إذا تلفظ بالشهادتين ولكان في ذلك من المشقة والحرج ما جاءت الشريعة السمحة بخلافه، ولكان الثناء على الله كلما ذكر أحق بالوجوب ولم يقولوا به. وقد أطلق القدوري وغيره من الحنفية أن القول بوجوب الصلاة عليه كلما ذكر مخالف للإجماع المنعقد قبل قائله، لأنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة أنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله صلى الله عليك، ولأنه لو كان كذلك لم يتفرغ السامع لعبادة أخرى، وأجابوا عن الأحاديث بأنها خرجت مخرج المبالغة في تأكيد ذلك وطلبه وفي حق
(11/168)

من اعتاد ترك الصلاة عليه ديدنا. وفي الجملة لا دلالة على وجوب تكرر ذلك بتكرر ذكره صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد واحتج الطبري لعدم الوجوب أصلا مع ورود صيغة الأمر بذلك بالاتفاق من جميع المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة على أن ذلك غير لازم فرضا حتى يكون تاركه عاصيا، قال: فدل ذلك على أن الأمر فيه للندب ويحصل الامتثال لمن قاله ولو كان خارج الصلاة. وما ادعاه من الإجماع معارض بدعوى غيره الإجماع على مشروعية ذلك في الصلاة إما بطريق الوجوب وإما بطريق الندب، ولا يعرف عن السلف لذلك مخالف إلا ما أخرجه ابن أبي شيبة والطبري عن إبراهيم أنه كان يرى أن قول المصلي في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته يجزئ عن الصلاة، ومع ذلك لم يخالف في أصل المشروعية وإنما ادعى إجزاء السلام عن الصلاة، والله أعلم. ومن المواطن التي اختلف في وجوب الصلاة عليه فيها التشهد الأول وخطبة الجمعة وغيرها من الخطب وصلاة الجنازة، ومما يتأكد ووردت فيه أخبار خاصة أكثرها بأسانيد جيدة عقب إجابة المؤذن وأول الدعاء وأوسطه وآخره وفي أوله آكد وفي آخر القنوت وفي أثناء تكبيرات العيد وعند دخول المسجد والخروج منه وعند الاجتماع والتفرق وعند السفر والقدوم وعند القيام لصلاة الليل وعند ختم القرآن وعند الهم والكرب وعند التوبة من الذنب وعند قراءة الحديث تبليغ العلم والذكر وعند نسيان الشيء، وورد ذلك أيضا في أحاديث ضعيفة وعند استلام الحجر وعند طنين الأذن وعند التلبية وعقب الوضوء وعند الذبح والعطاس، وورد المنع منها عندهما أيضا، وورد الأمر بالإكثار منها يوم الجمعة في حديث صحيح كما تقدم.
(11/169)

باب هل يصلي على غير النبي صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم)
...