بَاب فِي الأَمَلِ وَطُولِهِ. وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ارْتَحَلَتْ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً وَارْتَحَلَتْ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابَ وَغَدًا حِسَابٌ وَلاَ عَمَلٌ" بِمُزَحْزِحِهِ بِمُبَاعِدِهِ
 
6417- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ مُنْذِرٍ عَنْ رَبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا مُرَبَّعًا وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ وَقَالَ هَذَا الإِنْسَانُ وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ
(11/235)

بِهِ أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا"
6418- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطُوطًا فَقَالَ هَذَا الأَمَلُ وَهَذَا أَجَلُهُ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الأَقْرَبُ"
قوله: "باب في الأمل وطوله" الأمل بفتحتين رجاء ما تحبه النفس من طول عمر وزيادة غنى، وهو قريب المعنى من التمني. وقيل الفرق بينهما أن الأمل ما تقدم له سبب والتمني بخلافه. وقيل لا ينفك الإنسان من أمل، فإن فاته ما أمله عول على التمني. ويقال الأمل إرادة الشخص تحصيل شيء يمكن حصوله فإذا فاته تمناه. قوله: "وقوله تعالى {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} الآية" كذا للنسفي وساق في رواية كريمة وغيرها إلى الغرور، وقع في رواية أبي ذر إلى قوله: "فقد فاز" والمطلوب هنا ما سقط من روايته وهو الإشارة إلى أن متعلق الأمل ليس بشيء لأنه متاع الغرور، شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغره حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته، والشيطان هو المدلس وهو الغرور بالفتح الناشئ عنه الغرور بالضم، وقد قرئ في الشاذ هنا بفتح الغين أي متاع الشيطان، ويجوز أن يكون بمعنى المفعول وهو المخدوع فتتفق القراءتان. قوله: "بمزحزحه: بمباعده" وقع هذا في رواية النسفي وكذا لأبي ذر عن المستملي والكشميهني، والمراد أن معنى قوله: "زحزح" في هذه الآية فمن زحزح بوعد، وأصل الزحزحة الإزالة، ومن أزيل عن الشيء فقد بوعد منه وقال للكرماني: مناسبة هذه الآية للترجمة أن في أول الآية "كل نفس ذائقة الموت" وفي آخرها {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أو أن قوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ} مناسب لقوله: "وما هو بمزحزحه" وفي تلك الآية {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} قوله: "وقوله {ذرهم يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} الآية" كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة وغيرها إلى {يَعْلَمُونَ} وسقط قوله: "وقوله" للنسفي، قال الجمهور هي عامة. وقال جماعة هي في الكفار خاصة والأمر فيه للتهديد، وفيه زجر عن الانهماك في ملاذ الدنيا. قوله: "وقال علي بن أبي طالب ارتحلت الدنيا مدبرة إلخ" هذه قطعة من أثر لعلي جاء عنه موقوفا ومرفوعا، وفي أوله شيء مطابق للترجمة صريحا، فعند ابن أبي خشيبة في "المصنف" وابن المبارك في "الزهد" من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد وزبيد الأيامي عن رجل من بني عامر، وسمي في رواية لابن أبي شيبة مهاجر العامري، وكذا في "الحلية" من طريق أبي مريم عن زبيد عن مهاجر بن عمير قال: قال علي "إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسى الآخرة. ألا وإن الدنيا ارتحلت مدبرة" الحديث كالذي في الأصل سواء، ومهاجر المذكور هو العامري المبهم قبله وما عرفت حاله، وقد جاء مرفوعا أخرجه ابن أبي الدنيا في "كتاب قصر الأمل" من رواية اليمان بن حذيفة عن علي بن أبي حفصة مولى علي "عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أشد ما أتخوف عليكم خصلتين" فذكر معناه واليمان وشيخه لا يعرفان، وجاء من حديث جابر أخرجه أبو عبد الله بن منده من طريق المنكدر بن محمد ابن المنكدر عن أبيه عن جابر مرفوعا، والمنكدر ضعيف، وتابعه علي بن أبي علي اللهبي عن
(11/236)

ابن المنكدر بتمامه وهو ضعيف أيضا وفي بعض طرق هذا الحديث: "فاتباع الهوى يصرف بقلوبكم عن الحق، وطول الأمل يصرف هممكم إلى الدنيا". ومن كلام علي أخذ بعض الحكماء قوله: "الدنيا مدبرة والآخرة مقبلة فعجب لمن يقبل على المدبرة ويدبر على المقبلة" وورد في ذم الاسترسال مع الأمل حديث أنس رفعه: "أربعة من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا" أخرجه البزار: وعن عبد الله بن عمرو رفعه: "صلاح أول هذه الأمة بالزهادة واليقين، وهلاك آخرها بالبخل والأمل" أخرجه الطبراني وابن أبي الدنيا، وقيل إن قصر الأمل حقيقة الزهد، وليس كذلك بل هو سبب، لأن من قصر أمله زهد، ويتولد من طول الأمل الكسل عن الطاعة، والتسويف بالتوبة، والرغبة في الدنيا، والنسيان للآخرة، والقسوة في القلب، لأن رقته وصفاءه إنما يقع بتذكير الموت والقبر والثواب والعقاب وأهوال القيامة كما قال تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} وقيل: من قصر أمله قل همه وتنور قلبه، لأنه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة، وقل همه، ورضي بالقليل. وقال ابن الجوزي: الأمل مذموم للناس إلا للعلماء، فلولا أملهم لما صنفوا ولا ألفوا. وقال غيره: الأمل مطبوع في جميع بني آدم كما سيأتي في الحديث الذي في الباب بعده "لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين حب الدنيا وطول الأمل" وفي الأمل سر لطيف لأنه لولا الأمل ما تهنى أحد بعيش ولا طابت نفسه أن يشرع في عمل من أعمال الدنيا، وإنما المذموم منه الاسترسال فيه وعدم الاستعداد لأمر الآخرة، فمن سلم من ذلك لم يكلف بإزالته. له في أثر علي "فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل" جعل اليوم نفس العمل والمحاسبة مبالغة وهو كقولهم نهاره صائم، والتقدير في الموضعين ولا حساب فيه ولا عمل فيه، وقوله: "ولا حساب" بالفتح بغير تنوين ويجوز الرفع منونا، وكذا قوله ولا عمل قوله: "يحيى بن سعيد" هو القطان، وسفيان هو الثوري، وأبوه سعيد بن مسروق، ومنذر هو ابن يعلى الثوري ووقع في رواية الإسماعيلي: "أبو يعلى" فقط، والربيع بن خثيم بمعجمة ومثلثة مصغر، وعبد الله هو ابن مسعود ومن الثوري فصاعدا كوفيون. قوله: "خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا" الخط الرسم والشكل، والمربع المستوى الزوايا قوله: "وخط خطا في الوسط خارجا منه وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط" قيل هذه صفة الخط:
(11/237)

والأول المعتمد، وسياق الحديث يتنزل عليه، فالإشارة بقوله: "هذا الإنسان" إلى النقطة الداخلة، وبقوله: "وهذا أجله محيط به" إلى المربع، وبقوله: "وهذا الذي هو خارج أمله" إلى الخط المستطيل المنفرد، وبقوله: "وهذه إلى الخطوط" وهي مذكورة على سبيل المثال لا أن المراد انحصارها في عدد معين، ويؤيده قوله في حديث أنس بعده "إذ جاءه الخط الأقرب" فإنه أشار به إلى الخط المحيط به، ولا شك أن الذي يحيط به أقرب إليه من الخارج عنه، وقوله: "خططا" بضم المعجمة والطاء الأولى للأكثر ويجوز فتح الطاء، وقوله: "هذا إنسان" مبتدأ وخبر أي هذا الخط هو الإنسان على التمثيل. قوله: "وهذه الخطط" بالضم فيهما أيضا. وفي رواية المستملي والسرخسي "وهذه الخطوط". قوله: "الأعراض" جمع عرض بفتحتين وهو ما ينتفع به له الدنيا في الخير وفي الشر، والعرض بالسكون ضد الطويل، ويطلق على ما يقابل النقدين والمراد هنا الأول. قوله: "نهشه" بالنون والشين المعجمة أي أصابه. واستشكلت هذه الإشارات الأربع مع أن الخطوط ثلاثة فقط وأجاب الكرماني بأن للخط الداخل اعتبارين: فالمقدار الداخل منه هر الإنسان والخارج أمله، والمراد بالأعراض الآفات العارضة له فإن سلم من هذا لم يسلم من هذا وإن سلم من الجميع ولم تصبه آفة من مرض أو فقد مال أو غير ذلك بغته الأجل. والحاصل أن من لم يمت بالسيب مات بالأجل. وفي الحديث إشارة إلى الحض على قصر الأمل والاستعداد لبغتة الأجل. وعبر بالنهش وهو لدغ ذات السم مبالغة في الإصابة والإهلاك. قوله:" حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم، وثبت كذلك في رواية الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن عبد العزيز بن سلام عنه. قوله: "همام" هو ابن يحيى وثبت كذلك في رواية الإسماعيلي. قوله: "عن إسحاق" في رواية الإسماعيلي: "حدثنا إسحاق" وهو ابن أخي أنس لأمه. قوله: "خطوطا" قد فسرت في حديث ابن مسعود. قوله: "فبينما هو كذلك" في رواية الإسماعيلي: "يأمل" وعند البيهقي في الزهد من وجه عن إسحاق سياق المتن أتمم منه ولفظه: "خط خطوطا وخط خطا ناحية ثم قال هل تدرون ما هذا؟ هذا مثل ابن آدم ومثل التمني، وذلك الخط الأمل، بينما يأمل إذ جاءه الموت" وإنما جمع الخطوط ثم اقتصر في التفصيل على اثنين اختصارا، والثالث الإنسان، والرابع الآفات. وقد أخرج الترمذي حديث أنس من رواية حماد بن سلمة عن عبيد الله بن أبي بكر ابن أنس عن أنس بلفظ: "هذا ابن آدم وهذا أجله، ووضع يده عند قفاه ثم بسطها فقال: وثم أمله، وثم أجله إن أجله أقرب إليه من أمله". قال الترمذي: وفي الباب عن أبي سعيد. قلت: أخرجه أحمد من رواية علي بن علي عن أبي المتوكل عنه ولفظه: "إن النبي صلى الله عليه وسلم غرز عودا بين يديه ثم غرز إلى جنبه آخر ثم غرز الثالث فأبعده ثم قال: هذا الإنسان وهذا أجله وهذا أمله"، والأحاديث متوافقة على أن الأجل أقرب من الأمل
(11/238)