بَاب صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ 3
 
عتقاء الله" وأخرجه مسلم من وجه آخر عن أبي سعيد وزاد: "فيدعون الله فيذهب عنهم هذا الاسم" وفي حديث حذيفة عند البيهقي في "البعث" من رواية حماد بن أبي سليمان عن ربعي عنه "قال لهم الجهنميون، فذكر لي أنهم استعفوا الله من ذلك الاسم فأعفاهم. وزعم بعض الشراح أن هذه التسمية ليست تنقيصا لهم بل للاستذكار لنعمة الله ليزدادوا بذلك شكرا، كذا قال، وسؤالهم إذهاب ذلك الاسم عنهم يخدش في ذلك. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل، ووهيب هو ابن خالد، وعمرو هو ابن يحيى المازني، وأبوه يحيى هو ابن عمارة بن أبي حسن المازني. قوله: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يقول الله تعالى: من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه" هكذا روى يحيى بن عمارة عن أبي سعيد الخدري آخر الحديث ولم يذكر أوله، ورواه عطاء ابن يسار عن أبي سعيد مطولا وأوله الرؤية وكشف الساق والعرض ونصب الصراط والمرور عليه وسقوط من يسقط وشفاعة المؤمنين في إخوانهم وقول الله أخرجوا من عرفتم صورته، وفيه من في قلبه مثقال دينار وغير ذلك، وفيه قول الله تعالى شفعت الملائكة والنبيون والمؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد صاروا حمما، وقد ساق المصنف أكثر في تفسير سورة النساء، وساقه بتمامه في كتاب التوحيد، وسأذكر فوائده في شرح حدث الباب الذي يلي هذا مع الإشارة إلى ما تضمنته هذه الطريق إن شاء الله تعالى. وتقدمت لهذه الرواية طريق أخرى في كتاب الإيمان في "باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال" وتقدم ما يتعلق بذلك هناك. واستدل الغزالي بقوله: "من كان في قلبه" على نجاة من أيقن بذلك وحال بينه وبين النطق به الموت. وقال في حق من قدر على ذلك فأخر فمات: يحتمل أن كون امتناعه عن النطق بمنزلة امتناعه عن الصلاة فيكون غير مخلد في النار، ويحتمل غير ذلك. ورجح غيره الثاني فيحتاج إلى تأويل قوله: "في قلبه" فيقدر فيه محذوف تقديره منضما إلى النطق به مع القدرة عليه. حديث النعمان بن بشير أورده من وجهين أحدهما أعلى من الآخر، لكن في العالي عنعنة أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، وفي النازل تصريحه بالسماع فانجبر ما فاته من العلو الحسي بالعلو المعنوي، وإسرائيل في الطريق هو ابن يونس بن أبي إسحاق المذكور، والنعمان هو ابن بشير بن سعد الأنصاري، ووقع مصرحا به في رواية مسلم عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار جميعا عن غندر، ووقع في رواية يحيى بن آدم عن إسرائيل عن أبي إسحاق "سمعت النعمان بن بشير الأنصاري يقول" فذكر الحديث. قوله: "أهون أهل النار عذابا" قال ابن التين يحتمل أن يراد به أبو طالب. قلت: وقد بينت في قصة أبي طالب من المبعث النبوي أنه وقع في حديث ابن عباس عند مسلم التصريح بذلك ولفظه: "أهون أهل النار عذابا أبو طالب". قوله: "أخمص" بخاء معجمة وصاد مهملة وزن أحمر: ما لا يصل إلى الأرض من باطن القدم عند المشي. قوله: "جمرة" في رواية مسلم: "جمرتان" وكذا في رواية إسرائيل "على أخمص قدمه جمرتان" قال ابن التين: يحتمل أن يكون الاقتصار على الجمرة للدلالة على الأخرى لعلم السامع بأن لكل أحد قدمين، ووقع في رواية الأعمش عن أبي إسحاق عند مسلم بلفظ: "من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه" وفي حديث أبي سعيد عنده نحوه وقال: "يغلي دماغه من حرارة نعله". قوله: "منها دماغه" في رواية إسرائيل "منهما" بالتثنية، وكذا في حديث ابن عباس. قوله: "كما يغلي المرجل بالقمقم" زاد في رواية الأعمش "لا يرى أن أحدا أشد عذابا منه وأنه لأهونهم عذابا" والمرجل بكسر الميم ويسكون الراء وفتح
(11/430)

الجيم بعدها لام قدر من نحاس، ويقال أيضا لكل إناء يغلي فيه الماء من أي صنف كان، والقمقم معروف من آنية العطار، ويقال هو إناء ضيق الرأس يسخن فيه الماء يكون من نحاس وغيره فارسي ويقال رومي وهو معرب وقد يؤنث فيقال قمقمة، قال ابن التين: في هذا التركيب نظر. وقال عياض: الصواب "كما يغلي المرجل والقمقم" بواو العطف لا بالباء، وجوز غيره أن تكون الباء بمعنى مع، ووقع في رواية الإسماعيلي: "كما يغلي المرجل أو القمقم" بالشك، تقدم شيء من هذا في قصة أبي طالب. حديث عدي بن حاتم، تقدم شرحه قريبا في آخر "باب من نوقش الحساب". حديث أبي سعيد في ذكر أبي طالب، تقدم في قصة أبي طالب من طريق الليث حدثني ابن الهاد وعطف عليه السند المذكور هنا واختصر المتن، ويزيد المذكور هنا هو ابن الهاد المذكور هناك، واسم كل من ابن أبي حازم والدراوردي عبد العزيز، وهما مدنيان مشهوران وكذا سائر رواة هذا السند. قوله: "لعله تنفعه شفاعتي" ظهر من حديث العباس وقوع هذا الترجي، واستشكل قوله صلى الله عليه وسلم تنفعه شفاعتي بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وأجيب بأنه خص ولذلك عدوه في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل معنى المنفعة في الآية يخالف معنى المنفعة في الحديث، والمراد بها في الآية الإخراج من النار وفي الحديث المنفعة بالتخفيف، وبهذا الجواب جزم القرطبي. وقال البيهقي في البعث: صحة الرواية في شأن أبي طالب فلا معنى للإنكار من حيث صحة الرواية، ووجهه عندي أن الشفاعة في الكفار إنما امتنعت لوجود الخبر الصادق في أنه لا يشفع فيهم أحد، وهو عام في حق كل كافر، فيجوز أن يخص منه من ثبت الخبر بتخصيصه، قال: وحمله بعض أهل النظر على أن جزاء الكافر من العذاب يقع على كفره وعلى معاصيه، فيجوز أن الله يضع عن بعض الكفار بعض جزاء معاصيه تطييبا لقلب الشافع لا ثوابا للكافر لأن حسناته صارت بموته على الكفر هباء. وأخرج مسلم عن أنس "وأما الكافر فيعطى حسناته في الدنيا حتى إذا أقصى إلى الآخرة لم تكن له حسنة" وقال القرطبي في "المفهم": اختلف في هذه الشفاعة هل هي بلسان قولي أو بلسان حالي؟ والأول يشكل بالآية، وجوابه جواز التخصيص؛ والثاني يكون معناه أن أبا طالب لما بالغ في إكرام النبي صلى الله عليه وسلم والذب عنه جوزي على ذلك بالتخفيف فأطلق على ذلك شفاعة لكونها بسببه. قال: ويجاب عنه أيضا أن المخفف عنه لما لم يجد أثر التخفيف فكأنه لم ينتفع بذلك، ويؤيد ذلك ما تقدم أنه يعتقد أن ليس في النار أشد عذابا منه، وذلك أن القليل من عذاب جهنم لا تطيقه الجبال فالمعذب لاشتغاله بما هو فيه يصدق عليه أنه لم يحصل له انتفاع بالتخفيف. قلت: وقد يساعد ما سبق ما تقدم في النكاح من حديث أم حبيبة في قصة بنت أم سلمة "أرضعتني وإياها ثويبة" قال عروة "إن أبا لهب رؤى في المنام فقال: لم أر بعدكم خيرا غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة" وقد تقدم الكلام عليه هناك، وجوز القرطبي في "التذكرة" أن الكافر إذا عرض على الميزان ورجحت كفة سيئاته بالكفر اضمحلت حسناته فدخل النار، لكنهم يتفاوتون في ذلك: فمن كانت له منهم حسنات من عتق ومواساة مسلم ليس كمن ليس له شيء من ذلك، فيحتمل أن يجازي بتخفيف العذاب عنه بمقدار ما عمل، لقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} قلت: لكن هذا البحث النظري معارض بقوله تعالى: {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} وحديث أنس الذي أشرت إليه، وأما ما أخرجه ابن مردويه والبيهقي من حديث ابن مسعود رفعه: "ما أحسن محسن من
(11/431)

مسلم ولا كافر إلا أثابه الله قلنا يا رسول الله ما إثابة الكافر؟ قال: المال والولد والصحة أشباه ذلك. قلنا وما إثابته في الآخرة؟ قال: عذابا دون العذاب. ثم قرأ: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب". فالجواب عنه أن سنده ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فيحتمل أن يكون التخفيف فيما يتعلق بعذاب معاصيه، بخلاف عذاب الكفر. حديث أنس الطويل في الشفاعة، أورده هنا من طريق أبي عوانة، ومضى في تفسير البقرة من رواية هشام الدستوائي ومن رواية سعيد بن أبي عروبة، ويأتي في التوحيد من طريق همام أربعتهم عن قتادة وأخرجه أيضا أحمد من رواية شيبان عن قتادة ويأتي في التوحيد من طريق معبد بن هلال عن أنس وفيه زيادة للحسن عن أنس، ومن طريق حميد عن أنس باختصار، وأخرجه أحمد من طريق النضر بن أنس عن أنس، وأخرجه أيضا من حديث ابن عباس، وأخرجه ابن خزيمة من طريق معتمر عن حميد عن أنس، وعند الحاكم من حدث ابن مسعود والطبراني من حديث عبادة بن الصامت، ولابن أبي شيبة من حديث سلمان الفارسي وجاء من حديث أبي هريرة كما مضى في التفسير من رواية أبي زرعة عنه، وأخرجه الترمذي من رواية العلاء بن يعقوب عنه، من حدث أبي سعيد كما سيأتي في التوحيد، وله طرق عن أبي سعيد مختصرة، وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وحذيفة معا، وأبو عوانة من رواية حذيفة عن أبي بكر الصديق، ومضى في الزكاة في تفسير سبحان من حديث ابن عمر باختصار، وعند كل منهم ما ليس عند الآخر، وسأذكر ما عند كل منهم من فائدة مستوعبا إن شاء الله تعالى. قوله: "يجمع الله الناس يوم القيامة" في رواية المستملى "جمع" بصيغة الفعل الماضي والأول المعتمد ووقع في رواية معبد بن هلال "إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض" وأول حديث أبي هريرة "أنا سيد الناس يوم القيامة، يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون" وزاد في رواية إسحاق بن راهويه عن جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعه فيه: "وتدنو الشمس من رءوسهم فيشتد عليهم حرها ويشق عليهم دنوها فينطلقون من الضجر والجزع مما هم فيه" وهذه الطريق عند مسلم عن أبي خيثمة عن جرير، لكن لم يسق لفظها، وأول حديث أبي بكر "عرض علي ما هو كائن من أمر الدنيا والآخرة يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيفظع الناس لذلك والعرق كاد يلجمهم" وفي رواية معتمر "يلبثون ما شاء الله من الحبس" وقد تقدم في "باب ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون" ما أخرجه مسلم من حديث المقداد أن الشمس تدنو حتى تصير من الناس قدر ميل وسائر ما ورد في ذلك وبيان تفاوتهم في العرق بقدر أعمالهم، وفي حديث سلمان "تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين، ثم تدنو من جماجم الناس فيعرقون حتى يرشح العرق في الأرض قامة، ثم يرتفع الرجل حتى يقول عق عق" وفي رواية النضر بن أنس "لغم ما هم فيه والخلق ملجمون بالعرق، فأما المؤمن فهو عليه كالزكمة، وأما الكافر فيغشاه الموت" وفي حديث عبادة بن الصامت رفعه: "إني لسيد الناس يوم القيامة بغير فخر، وما من الناس إلا من هو تحت لوائي ينتظر الفرج، وإن معي لواء الحمد" ووقع في رواية هشام وسعيد وهمام "يجتمع المؤمنون فيقولون" وتبين من رواية النضر بن أنس أن التعبير بالناس، أرجح لكن الذي يطلب الشفاعة هم المؤمنون. قوله: "فيقولون لو استشفعنا" في رواية مسلم: "فيلهمون ذلك" وفي لفظ: "فيهتمون بذلك". وفي رواية همام "حتى يهتموا بذلك". قوله: "على ربنا" في رواية هشام وسعيد "إلى ربنا" وتوجه بأنه ضمن معنى استشفعنا سعي لأن
(11/432)

الاستشفاع طلب الشفاعة وهي انضمام الأدنى إلى الأعلى ليستعين به على ما يرومه. وفي حديث حذيفة وأبي هريرة معا "يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقوم المؤمنون حي تنزلف لهم الجنة فيأتون آدم" و "حتى" غاية لقيامهم المذكور. ويؤخذ منه أن طلبهم الشفاعة يقع حين تزلف لهم الجنة. ووقع في أول حديث أبي نضرة عن أبي سعيد في مسلم رفعه: "أنا أول من تنشق عنه الأرض" الحديث وفيه: "فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيأتون آدم" الحديث قال القرطبي "كأن ذلك يقع إذا جيء بجهنم، فإذا زفرت فزع الناس حينئذ وجثوا على ركبهم". قوله: "حتى يريحنا" في رواية مسلم: "فيريحنا" وفي حديث ابن مسعود عند ابن حبان: "إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة حتى يقول: يا رب أرحني ولو إلى النار" وفي رواية ثابت عن أنس "يطول يوم القيامة على الناس، فيقول بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر فليشفع لنا إلى ربنا فليقض بيننا" وفي حديث سلمان "فإذا رأوا ما هم فيه قال بعضهم لبعض: ائتوا أباكم آدم". قوله: "حتى يريحنا من مكاننا هذا" في رواية ثابت "فليقض بيننا" وفي رواية حذيفة وأبي هريرة فيقولون "يا أبانا استفتح لنا الجنة". قوله: "فيأتون آدم" في رواية شيبان "فينطلقون حتى يأتوا آدم فيقولون أنت الذي" في رواية مسلم: "يا آدم أنت أبو البشر" وفي رواية همام وشيبان "أنت أبو البشر" وفي حديث أبي هريرة نحو رواية مسلم. وفي حديث حذيفة "فيقولون يا أبانا". قوله: "خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه" زاد في رواية همام "وأسكنك جنته وعلمك أسماء كل شيء" وفي حديث أبي هريرة "وأمر الملائكة فسجدوا لك" وفي حديث أبي بكر "أنت أبو البشر وأنت اصطفاك الله". قوله: "فاشفع لنا عند ربنا" في رواية مسلم: "عند ربك" وكذا لشيبان في حديث أبي بكر وأبي هريرة اشفع لنا إلى ربك، وزاد أبو هريرة "ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما بلغنا". قوله: "لست هناكم" قال عياض: قوله لست هناكم كناية عن أن منزلته دون المنزلة المطلوبة قاله تواضعا وإكبارا لما يسألونه، قال: وقد يكون فيه إشارة إلى أن هذا المقام ليس لي بل لغيري. قلت: وقد وقع في رواية معبد بن هلال "فيقول لست لها" وكذا في بقية المواضع. وفي رواية حذيفة "لست بصاحب ذاك" وهو يؤيد الإشارة المذكورة. قوله: "ويذكر خطيئته" زاد مسلم التي أصاب، والراجع إلى الموصول محذوف تقديره أصابها، زاد همام في روايته: "أكله من الشجرة. وقد نهي عنها" وهو بنصب أكله بدل من قوله خطيئته وفي رواية هشام "فيذكر ذنبه فيستحي" وفي رواية ابن عباس "إني قد أخرجت بخطيئتي من الجنة" وفي رواية أبي نضرة عن أبي سعيد "وإني أذنبت ذنبا فأهبطت به إلى الأرض" وفي رواية حذيفة وأبي هريرة معا "هل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم" وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور "إني أخطأت وأنا في الفردوس فإن يغفر لي اليوم حسبي" وفي حديث أبي هريرة "إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري". قوله: "ائتوا نوحا فيأتونه" في رواية مسلم: "ولكن ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. فيأتون نوحا" وفي رواية هشام "فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض" وفي حديث أبي بكر "انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم، إلى نوح، ائتوا عبدا شاكرا" وفي حديث أبي هريرة "اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدا شكورا" وفي حديث أبي بكر "فينطلقون إلى نوح فيقولون: يا نوح اشفع لنا إلى ربك، فإن الله اصطفاك واستجاب لك في دعائك ولم يدع على الأرض من الكافرين ديارا" ويجمع بينهما بأن آدم
(11/433)

سبق إلى وصفه بأنه أول رسول فخاطبه أهل الموقف بذلك، وقد استشكلت هذه الأولية بأن آدم نبي مرسل وكذا شيث وإدريس وهم قبل نوح، وقد تقدم الجواب عن ذلك في شرح حديث جابر "أعطيت خمسا" في كتاب التيمم وفيه: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة" الحديث: ومحصل الأجوبة عن الإشكال المذكور أن الأولية مقيدة بقوله: "أهل الأرض" لأن آدم ومن ذكر معه لم يرسلوا إلى أهل الأرض، ويشكل عليه حديث جابر، ويجاب بأن بعثته إلى أهل الأرض باعتبار الواقع لصدق أنهم قومه بخلاف عموم بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لقومه ولغير قومه، أو الأولية مقيدة بكونه أهلك قومه، أو أن الثلاثة كانوا أنبياء ولم يكونوا رسلا، وإلى هذا جنح ابن بطال في حق آدم، وتعقبه عياض بما صححه ابن حبان من حديث أبي ذر فإنه كالصريح في أنه كان مرسلا، وفيه التصريح بإنزال الصحف على شيث وهو من علامات الإرسال، وأما إدريس فذهبت طائفة إلى أنه كان في بني إسرائيل وهو إلياس، وقد ذكر ذلك في أحاديث الأنبياء. ومن الأجوبة أن رسالة آدم كانت إلى بنيه وهم موحدون ليعلمهم شريعته، ونوح كانت رسالته إلى قوم كفار يدعوهم إلى التوحيد. قوله: "فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها" في رواية هشام "ويذكر سؤال ربه ما ليس له به علم" وفي رواية شيبان "سؤال الله" وفي رواية معبد بن هلال مثل جواب آدم لكن قال: "وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي" وفي حديث ابن عباس "فيقول ليس ذاكم عندي" وفي حديث أبي هريرة "إني دعوت بدعوة أغرقت أهل الأرض" ويجمع بينه وبين الأول بأنه اعتذر بأمرين: أحدهما نهي الله تعالى له أن يسأل ما ليس له به علم فخشي أن تكون شفاعته لأهل الموقف من ذلك، ثانيهما أن له دعوة واحدة محققة الإجابة وقد استوفاها بدعائه على أهل الأرض فخشي أن يطلب فلا يجاب. وقال بعض الشراح: كان الله وعد نوحا أن ينجيه وأهله، فلما غرق ابنه ذكر لربه ما وعده فقيل له: المراد من أهلك من آمن وعمل صالحا فخرج ابنك منهم، فلا تسأل ما ليس لك به علم. "تنبيهان": "الأول" سقط من حديث أبي حذيفة المقرون بأبي هريرة ذكر نوح، فقال في قصة آدم: اذهبوا إلى ابني إبراهيم. وكذا سقط من حديث ابن عمر، والعمدة على من حفظ. "الثاني" ذكر أبو حامد الغزالي في كشف علوم الآخرة أن بين إتيان أهل الموقف آدم وإتيانهم نوحا ألف سنة، وكذا بين كل نبي ونبي إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ولم أقف لذلك على أصل، ولقد أكثر في هذا الكتاب من إيراد أحاديث لا أصول لها فلا يغتر بشيء منها.قوله: "ائتوا إبراهيم" في رواية مسلم: "ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا" وفي رواية معبد بن هلال "ولكن عليكم بإبراهيم فهو خليل الله". قوله: "فيأتونه" في رواية مسلم: "فيأتون إبراهيم" زاد أبو هريرة في حديثه فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، قم اشفع لنا إلى ربك" وذكر مثل ما لآدم قولا وجوابا إلا أنه قال: "قد كنت كذبت ثلاث كذبات" وذكرهن. قوله: "فيقول لست هناكم، ويذكر خطيئته" زاد مسلم: "التي أصاب فيستحيي ربه منها" وفي حديث أبي بكر "ليس ذاكم عندي" وفي رواية همام "إني كنت كذبت ثلاث كذبات" زاد شيبان في روايته: "قوله إني سقيم" وقوله فعله كبيرهم هذا، وقوله لامرأته أخبريه أني أخوك" وفي رواية أبي نضرة عن أبي سعيد "فيقول إني كذبت ثلاث كذبات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله" وما حل بمهملة بمعنى جادل وزنه ومعناه. ووقع في رواية حذيفة المقرونة "لست بصاحب ذاك، إنما كنت خليلا من وراء وراء" وضبط بفتح الهمزة وبضمها، واختلف الترجيح فيهما.
(11/434)

قال النووي: أشهرهما الفتح بلا تنوين ويجوز بناؤها على الضم، وصوبه أبو البقاء والكندي، وصوب ابن دحية الفتح على أن الكلمة مركبة مثل شذر مذر، وإن ورد منصوبا منونا جاز، ومعناه لم أكن في التقريب والإدلال بمنزلة الحبيب. قال صاحب التحرير: كلمة تقال على سبيل التواضع، أي لست في تلك الدرجة. قال: وقد وقع لي فيه معنى مليح وهو أن الفضل الذي أعطيته كان بسفارة جبريل، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله بلا واسطة، وكرر وراء إشارة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم لأنه حصلت له الرؤية والسماع بلا واسطة، فكأنه قال أنا من وراء موسى الذي هو من وراء محمد، قال البيضاوي: الحق أن الكلمات الثلاث إنما كانت من معاريض الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق منها استصغارا لنفسه عن الشفاعة مع وقوعها، لأن من كان أعرف بالله وأقرب إليه منزلة كان أعظم خوفا. قوله: "ائتوا موسى الذي كلمه الله" في رواية مسلم: "ولكن ائتوا موسى" وزاد: "وأعطاه التوراة" وكذا في رواية هشام وغيره. وفي رواية معبد بن هلال "ولكن عليكم بموسى فهو كليم الله" وفي رواية الإسماعيلي: "عبدا أعطاه الله التوراة وكلمه تكليما" زاد همام في روايته: "وقربه نجيا" وفي رواية حذيفة المقرونة "اعمدوا إلى موسى". قوله: "فيأتونه" في رواية مسلم: "فيأتون موسى فيقول" وفي حديث أبي هريرة "فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وكلامه على الناس، اشفع لنا" فذكر مثل آدم قولا وجوابا لكنه قال: "إني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها". قوله: "فيقول لست هناكم" زاد مسلم: "فيذكر خطيئته التي أصاب قتل النفس" وللإسماعيلي: "فيستحيي ربه منها" وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور إني قتلت نفسا بغير نفس، وإن يغفر لي اليوم حسبي" وفي حديث أبي هريرة "إني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها" وذكر مثل ما في آدم. قوله: "ائتوا عيسى" زاد مسلم: "روح الله وكلمته" وفي رواية هشام "عبد الله ورسوله وكلمته وروحه" وفي حديث أبي بكر "فإنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى". قوله: "فيأتونه" في رواية مسلم: "فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم" وفي حديث أبي هريرة "فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد صبيا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ مثل آدم قولا وجوابا لكن قال: ولم يذكر ذنبا" لكن وقع في رواية الترمذي من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد "إني عبدت من دون الله" وفي رواية أحمد والنسائي من حديث ابن عباس "إني اتخذت إلها من دون الله" وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور نحوه وزاد: "وإن يغفر لي اليوم حسبي". قوله: "ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" في رواية مسلم: "عبد غفر له إلخ" زاد ثابت "من ذنبه" وفي رواية هشام "غفر الله له" وفي رواية معتمر "انطلقوا إلى من جاء اليوم مغفورا له ليس عليه ذنب" وفي رواية ثابت أيضا: "خاتم النبيين قد حضر اليوم، أرأيتم لو كان متاع في وعاء قد ختم عليه أكان يقدر على ما في الوعاء حتى يفض الخاتم" وعند سعيد بن منصور من هذا الوجه "فيرجعون إلى آدم فيقول أرأيتم إلخ" وفي حديث أبي بكر "ولكن انطلقوا إلى سيد ولد آدم فإنه أول من تنشق عنه الأرض" قال عياض: اختلفوا في تأويل قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فقيل: المتقدم ما قبل النبوة والمتأخر العصمة. وقيل: ما وقع عن سهو أو تأويل. وقيل: المتقدم ذنب آدم والمتأخر ذنب أمته، وقيل: المعنى أنه مغفور له غير مؤاخذ لو وقع، وقيل غير ذلك. قلت: واللائق بهذا المقام القول الرابع، وأما الثالث فلا يتأتى هنا، ويستفاد من قول عيسى في حق نبينا هذا ومن قول موسى
(11/435)

فيما تقدم "إني قتلت نفسا بغير نفس وإن يغفر لي اليوم حسبي" مع أن الله قد غفر له بنص القرآن، التفرقة بين من وقع منه شيء ومن لم يقع شيء أصلا، فإن موسى عليه السلام مع وقوع المغفرة له لم يرتفع إشفاقه من المؤاخذة بذلك ورأى في نفسه تقصيرا عن مقام الشفاعة مع وجود ما صدر منه، بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك كله، ومن ثم احتج عيسى بأنه صاحب الشفاعة لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بمعنى أن الله أخبر أنه لا يؤاخذه بذنب لو وقع منه، وهذا من النفائس التي فتح الله بها في فتح الباري فله الحمد. قوله: "فيأتوني" في رواية النضر بن أنس عن أبيه "حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: إني لقائم أنتظر أمتي تعبر الصراط إذ جاء عيسى فقال: يا محمد هذه الأنبياء قد جاءتك يسألون لتدعو الله أن يفرق جمع الأمم إلى حيث يشاء لغم ما هم فيه" فأفادت هذه الرواية تعيين موقف النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، وأن هذا الذي وصف من كلام أهل الموقف كله يقع عند نصب الصراط بعد تساقط الكفار في النار كما سيأتي بيانه قريبا، وأن عيسى عليه السلام هو الذي يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الأنبياء جميعا يسألونه في ذلك. وقد أخرج الترمذي وغيره من حديث أبي بن كعب في نزول القرآن على سبعة أحرف وفيه: "وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام" ووقع في رواية معبد بن هلال "فيأتوني فأقول: أنا لها أنا لها" زاد عقبة بن عامر عند ابن المبارك في الزهد "فيأذن الله لي فأقوم، فيثور من مجلسي أطيب ريح شمها أحد" وفي حديث سلمان بن أبي بكر بن أبي شيبة: "يأتون محمدا فيقولون: يا نبي الله أنت الذي فتح الله بك وختم، وغفر لك ما تقدم وما تأخر، وجئت في هذا اليوم آمنا وترى ما نحن فيه، فقم فاشفع لنا إلى ربنا. فيقول: أنا صاحبكم، فيجوش الناس حتى ينتهي إلى باب الجنة" وفي رواية معتمر "فيقول: أنا صاحبها". قوله: "فأستأذن" في رواية هشام "فأنطلق حتى أستأذن". قوله: "على ربي" زاد همام "في داره فيؤذن لي" قال عياض: أي في الشفاعة. وتعقب بأن ظاهر ما تقدم أن استئذانه الأول والإذن له إنما هو في دخول الدار وهي الجنة، وأضيفت إلى الله تعالى إضافة تشريف، ومنه "والله يدعو إلى دار السلام" على القول بأن المراد بالسلام هنا الاسم العظيم وهو من أسماء الله تعالى، قيل الحكمة في انتقال النبي صلى الله عليه وسلم من مكانه إلى دار السلام أن أرض الموقف لما كانت مقام عرض وحساب كانت مكان مخافة وإشفاق، ومقام الشافع يناسب أن يكون في مكان إكرام، ومن ثم يستحب أن يتحرى للدعاء المكان الشريف لأن الدعاء فيه أقرب للإجابة. قلت: وتقدم في بعض طرقه أن من جملة سؤال أهل الموقف استفتاح باب الجنة. وقد ثبت في صحيح مسلم أنه أول من يستفتح باب الجنة. وفي رواية علي بن زيد عن أنس عند الترمذي "فآخذ حلقة باب الجنة فأقعقعها فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد، فيفتحون لي ويرحبون، فأخر ساجدا" وفي رواية ثابت عن أنس عند مسلم: "فيقول الخازن: من؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك" وله من رواية المختار بن فلفل عن أنس رفعه: "أنا أول من يقرع باب الجنة" وفي رواية قتادة عن أنس "آتي باب الجنة فأستفتح فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد، فيقال: مرحبا بمحمد" وفي حديث سلمان "فيأخذ بحلقة الباب وهي من ذهب فيقرع الباب فيقال: من هذا؟ فيقول: محمد، فيفتح له حتى يقوم بين يدي الله فيستأذن في السجود فيؤذن له" وفي حديث أبي بكر الصديق "فيأتي جبريل ربه فيقول ائذن له". قوله: "فإذا رأيته وقعت له ساجدا" في رواية أبي بكر "فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي" وفي رواية لابن حبان من طريق ثوبان عن أنس "فيتجلى له الرب ولا يتجلى لشيء قبله" وفي حديث أبي بن كعب عند أبي يعلى
(11/436)