بَاب الصِّرَاطُ جَسْرُ جَهَنَّمَ 2 |
قلت: الأول منصوص والثاني محتمل، لكن يشكل عليه أن الصورة لا تختص بالمؤمنين، فلو كان الإكرام لأجلها لشاركهم الكفار وليس كذلك. قال النووي: وظاهر الحديث أن النار لا تأكل جميع أعضاء السجود السبعة وهي الجبهة واليدان والركبتان والقدمان، وبهذا جزم بعض العلماء. وقال عياض: ذكر الصورة ودارات الوجوه يدل على أن المراد بأثر السجود الوجه خاصة خلافا لمن قال يشمل الأعضاء السبعة، ويؤيد اختصاص الوجه أن في بقية الحديث: "أن منهم من غاب في النار إلى نصف ساقيه" وفي حديث سمرة عند مسلم: "وإلى ركبتيه" وفي رواية هشام بن سعد في حديث أبي سعيد "وإلى حقوه" قال النووي: وما أنكره هو المختار، ولا يمنع من ذلك قوله في الحديث الآخر في مسلم: "إن قوما يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دارات وجوههم" فإنه يحمل على أن هؤلاء قوم مخصوصون من جملة الخارجين من النار، فيكون الحديث خاصا بهم وغيره عاما فيحمل على عمومه إلا ما خص منه. قلت: إن أراد أن هؤلاء يخصون بأن النار لا تأكل وجوههم كلها وأن غيرهم لا تأكل منهم محل السجود خاصة وهو الجبهة سلم من الاعتراض، وإلا يلزمه تسليم ما قال القاضي في حق الجميع إلا هؤلاء، وإن كانت علامتهم الغرة كما تقدم النقل عمن قاله. وما تعقبه بأنها خاصة بهذه الأمة فيضاف إليها التحجيل وهو في اليدين والقدمين مما يصل إليه الوضوء فيكون أشمل مما قاله النووي من جهة دخول جميع اليدين والرجلين لا تخصيص الكفين والقدمين ولكن ينقص منه الركبتان، وما استدل به القاضي من بقية الحديث لا يمنع سلامة هذه الأعضاء مع الانغمار، لأن تلك الأحوال الأخروية خارجة على قياس أحوال أهل الدنيا، ودل التنصيص على دارات الوجوه أن الوجه كله لا تؤثر فيه النار إكراما لمحل السجود، ويحمل الاقتصار عليها على التنويه بها لشرفها. وقد استنبط ابن أبي جمرة من هذا أن من كان مسلما ولكنه كان لا يصلي لا يخرج إذ لا علامة له، لكن يحمل على أنه يخرج في القبضة لعموم قوله لم يعملوا خيرا قط، وهو مذكور في حديث أبي سعيد الآتي في التوحيد، وهل المراد بمن يسلم من الإحراق من كان يسجد أو أعم من أن يكون بالفعل أو القوة؟ الثاني أظهر ليدخل فيه من أسلم مثلا وأخلص فبغته الموت قبل أن يسجد ووجدت بخط أبي رحمه الله تعالى ولم أسمعه منه من نظمه ما يوافق مختار النووي وهو قوله:
يا رب أعضاء السجود عتقتها ... من عبدك الجاني وأنت الواقي والعتق يسري بالغنى يا ذا الغنى ... فامنن على الفاني بعتق الباقي قوله: "فيخرجونهم قد امتحشوا" هكذا وقع هنا، وكذا وقع في حديث أبي سعيد في التوحيد عن يحيى بن بكير عن الليث بسنده، ووقع عند أبي نعيم من رواية أحمد بن إبراهيم بن ملحان عن يحيى بن بكير "فيخرجون من عرفوا" ليس فيه: "قد امتحشوا" وإنما ذكرها بعد قوله فيقبض قبضة، وكذا أخرجه البيهقي وابن منده من رواية روح بن الفرج ويحيى بن أبي أيوب العلاف كلاهما عن يحيى بن بكير به، قال عياض: ولا يبعد أن الامتحاش يختص بأهل القبضة والتحريم على النار أن تأكل صورة الخارجين أولا قبلهم ممن عمل الخير على التفصيل السابق والعلم عند الله تعالى. وتقدم ضبط "امتحشوا" وأنه بفتح المثناة والمهملة وضم المعجمة أي احترقوا وزنه ومعناه، والمحش احتراق الجلد وظهور العظم. قال عياض: ضبطناه عن متقني شيوخنا وهو وجه الكلام، وعند بعضهم بضم المثناة وكسر الحاء، ولا يعرف في اللغة امتشحه متعديا وإنما سمع لازما مطاوع محشته يقال محشته، وأمحشته، وأنكر يعقوب بن السكيت الثلاثي. وقال غيره: أمحشته فامتحش وأمحشه الحر أحرقه والنار أحرقته (11/457) وامتحش هو غضبا.وقال أبو نصر الفارابي: والامتحاش الاحتراق. قوله: "فيصب عليهم ماء يقال له ماء الحياة" في حديث أبي سعيد "فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له ماء الحياة" والأفواه جمع فوهة على غير قياس والمراد بها الأوائل، وتقدم في الإيمان من طريق يحيى بن عمران عن أبي سعيد "في نهر الحياة أو الحياء" بالشك. وفي رواية أبي نضرة عند مسلم: "على نهر يقال له الحيوان أو الحياة" وفي أخرى له "فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة" وفي تسمية ذلك النهر به إشارة إلى أنهم لا يحصل لهم الفناء بعد ذلك. قوله: "فينبتون نبات الحبة" بكسر المهملة وتشديد الموحدة، تقدم في كتاب الإيمان أنها بزور الصحراء والجمع حبب بكسر المهملة وفتح الموحدة بعدها مثلها، وأما الحبة بفتح أوله وهو ما يزرعه الناس فجمعها حبوب بضمتين، ووقع في حديث أبي سعيد "فينبتون في حافتيه" وفي رواية لمسلم: "كما تنبت الغثاءة" بضم الغين المعجمة بعدها مثلثة مفتوحة وبعد الألف همزة ثم هاء تأنيث هو في الأصل كل ما حمله السيل من عيدان وورق وبزور وغيرها، والمراد به هنا ما حمله من البزور خاصة. قوله: "في حميل السيل" بالحاء المهملة المفتوحة والميم المكسورة أي ما يحمله السيل. وفي رواية يحيى بن عمارة المشار إليها إلى جانب السيل، والمراد أن الغثاء الذي يجيء به السيل يكون فيه الحبة فيقع في جانب الوادي فتصبح من يومها نابتة، ووقع في رواية لمسلم: "في حمئة السيل" بعد الميم همزة ثم هاء، وقد تشبع الميم فيصير بوزن عظيمة، وهو ما تغير لونه من الطين، وخص بالذكر لأنه يقع فيه النبت غالبا. قال ابن أبي جمرة فيه إشارة إلى سرعة نباتهم، لأن الحبة أسرع في النبات من غيرها، وفي السيل أسرع لما يجتمع فيه من الطين الرخو الحادث مع الماء مع ما خالطه من حرارة الزبل المجذوب معه، قال: ويستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم كان عارفا بجميع أمور الدنيا بتعليم الله تعالى له وإن لم يباشر ذلك. وقال القرطبي: اقتصر المازري على أن موقع التشبيه السرعة، وبقي عليه نوع آخر دل عليه قوله في الطريق الأخرى "ألا ترونها تكون إلى الحجر ما يكون منها إلى الشمس أصفر وأخضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض" وفيه تنبيه على أن ما يكون إلى الجهة التي تلي الجنة يسبق إليه البياض المستحسن، وما يكون منهم إلى جهة النار يتأخر النصوع عنه فيبقى أصيفر وأخيضر إلى أن يتلاحق البياض ويستوي الحسن والنور ونضارة النعمة عليهم. قال: ويحتمل أن يشير بذلك إلى أن الذي يباشر الماء يعني الذي يرش عليهم يسرع نصوعه وإن غيره يتأخر عنه النصوع لكنه يسرع إليه، والله أعلم. قوله: "ويبقى رجل" زاد في رواية الكشميهني: "منهم مقبل بوجهه على النار هو آخر أهل النار دخولا الجنة" تقدم القول في آخر أهل النار خروجا منها في شرح الحديث الثاني والعشرين من الباب الذي قبله، ووقع في وصف هذا الرجل أنه كان نباشا وذلك في حديث حذيفة كما تقدم في أخبار بني إسرائيل "أن رجلا كان يسيء الظن بعمله، فقال لأهله أحرقوني" الحديث وفي آخره: "كان نباشا" ووقع في حديث حذيفة عن أبي بكر الصديق عند أحمد وأبي عوانة وغيرهما وفيه: "ثم يقول الله: انظروا هل بقي في النار أحد عمل خيرا قط؟ فيجدون رجلا فيقال له: هل عملت خيرا قط؟ فيقول: لا، غير أني كنت أسامح الناس في البيع" الحديث وفيه: "ثم يخرجون من النار رجلا آخر فيقال له: هل عملت خيرا قط؟ فيقول: لا، غير أني أمرت ولدي إذا مت فأحرقوني" الحديث. وجاء من وجه آخر أنه "كان يسأله الله أن يجيره من النار ولا يقول أدخلني (11/458) الجنة" أخرجه الحسين المروزي في زيادات الزهد لابن المبارك من حديث عوف الأشجعي رفعه: "قد علمت آخر أهل الجنة دخولا الجنة رجل كان يسأل الله أن يجيره من النار ولا يقول أدخلني الجنة، فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بقي بين ذلك فيقول: يا رب قربني من باب الجنة أنظر إليها وأجد من ريحها، فيقربه، فيرى شجرة" الحديث، وهو عند ابن أبي شيبة أيضا. وهذا يقوي التعدد، لكن الإسناد ضعيف. وقد ذكرت عن عياض في شرح الحديث السابع عشر أن آخر من يخرج من النار هل هو آخر من يبقى على الصراط أو هو غيره وإن اشترك كل منهما في أنه آخر من يدخل الجنة، ووقع في نوادر الأصول للترمذي الحكيم من حديث أبي هريرة أن أطول أهل النار فيها مكثا من يمكث سبعة آلاف سنة وسند هذا الحديث واه والله أعلم. وأشار ابن أبي جمرة إلى المغايرة بين آخر من يخرج من النار وهو المذكور في الباب الماضي وأنه يخرج منها بعد أن يدخلها حقيقة وبين آخر من يخرج ممن يبقى مارا على الصراط فيكون التعبير بأنه خرج من النار بطريق المجاز لأنه أصابه من حرها وكربها ما يشارك به بعض من دخلها. وقد وقع في "غرائب مالك للدار قطني" من طريق عبد الملك بن الحكم وهو واه عن مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه: "إن آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقال له جهينة، فيقول أهل الجنة: عند جهينة الخبر اليقين" وحكى السهيلي أنه جاء أن اسمه هناد، وجوز غيره أن يكون أحد الاسمين لأحد المذكورين والآخر للآخر. قوله: "فيقول يا رب" في رواية إبراهيم بن سعد في التوحيد "أي رب". قوله: "قد قشبني ريحها" بقاف وشين معجمة مفتوحتين مخففا -وحكى التشديد- ثم موحدة، قال الخطابي: قشبه الدخان إذا ملأ خياشيمه وأخذ يكظمه، وأصل القشب خلط السم بالطعام يقال قشبه إذا سمه، ثم استعمل فيما إذا بلغ الدخان والرائحة الطيبة منه غايته. وقال النووي: معنى قشبني سمني وآذاني وأهلكني، هكذا قاله جماهير أهل اللغة. وقال الداودي: معناه غير جلدي وصورتي. قلت: ولا يخفى حسن قول الخطابي، وأما الداودي فكثيرا ما يفسر الألفاظ الغريبة بلوازمها ولا يحافظ على أصول معانيها. وقال ابن أبي جمرة: إذا فسرنا القشب بالنتن والمستقذر كانت فيه إشارة إلى طيب ريح الجنة وهو من أعظم نعيمها، وعكسها النار في جميع ذلك. وقال ابن القطاع: قشب الشيء خلطه بما يفسده من سم أو غيره، وقشب الإنسان لطخه بسوء كاغتابه وعابه، وأصله السم فاستعمل بمعنى أصابه المكروه إذا أهلكه أو أفسده أو غيره أو أزال عقله أو تقذره هو، والله أعلم. قوله: "وأحرقني ذكاؤها" كذا للأصيلي وكريمة هنا بالمد وكذا في رواية إبراهيم بن سعد. وفي رواية أبي ذر وغيره ذكاها بالقصر وهو الأشهر في اللغة. وقال ابن القطاع: يقال ذكت النار تذكو ذكا بالقصر وذكوا بالضم وتشديد الواو أي كثر لهبها واشتد اشتعالها ووهجها، وأما ذكا الغلام ذكاء بالمد فمعناه أسرعت فطنته. قال النووي: المد والقصر لغتان ذكره جماعه فيها، وتعقبه مغلطاي بأنه لم يوجد عن أحد من المصنفين في اللغة ولا في الشارحين لدواوين العرب حكاية المد إلا عن أبي حنيفة الدينوري في "كتاب النبات" في مواضع منها ضرب العرب المثل بجمر الغضا لذكائه، قال: وتعقبه علي بن حمزة الأصبهاني فقال: ذكا النار مقصور ويكتب بالألف لأنه واوي يقال ذكت النار تذكو ذكوا وذكاء النار وذكو النار بمعنى وهو التهابها والمصدر ذكاء وذكو وذكو، بالتخفيف والتثقيل، فأما الذكاء بالمد فلم يأت عنهم في النار وإنما جاء في الفهم. وقال ابن قرقول في "المطالع" وعليه يعتمد الشيخ، وقع في مسلم فقد أحرقني ذكاؤها بالمد والمعروف في شدة حر النار القصر إلا أن الدينوري ذكر فيه المد وخطأه علي بن حمزة فقال: ذكت النار ذكا وذكوا ومنه طيب ذكي منتشر الريح، وأما الذكاء بالمد فمعناه تمام الشيء ومنه ذكاء القلب. وقال صاحب الأفعال: ذكا الغلام والعقل أسرع في الفطنة، (11/459) وذكا الرجل ذكاء من حدة فكره، وذكت النار ذكا بالقصر توقدت. قوله: "فاصرف وجهي عن النار" قد استشكل كون وجهه إلى جهة النار والحال أنه ممن يمر على الصراط طالبا إلى الجنة فوجهه إلى الجنة، لكن وقع في حديث أبي أمامة المشار إليه قبل أنه ينقلب على الصراط ظهرا لبطن فكأنه في تلك الحالة انتهى إلى آخره فصادف أن وجهه كان من قبل النار، ولم يقدر على صرفه عنها باختياره فسأل ربه في ذلك. قوله: "فيصرف وجهه عن النار" بضم أوله على البناء للمجهول. وفي رواية شعيب "فيصرف الله" ووقع في رواية أنس عن ابن مسعود عند مسلم وفي حديث أبي سعيد عند أحمد والبزار نحوه أنه "يرفع له شجرة فيقول: رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله: لعلي إن أعطيتك تسألني غيرها، فيقول: لا يا رب ويعاهده أن لا يسأل غيرها وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه" وفيه أنه "يدنو منها وأنه يرفع له شجرة أخرى أحسن من الأولى عند باب الجنة ويقول في الثالثة ائذن لي في دخول الجنة" وكذا وقع في حديث أنس الآتي في التوحيد من طريق حميد عنه رفعه: "آخر من يخرج من النار ترفع له شجرة" ونحوه لمسلم من طريق النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد بلفظ: "إن أدنى أهل الجنة منزلة رجل صرف الله وجهه عن النار قبل الجنة ومثلت له شجرة" ويجمع بأنه سقط من حديث أبي هريرة هنا ذكر الشجرات كما سقط من حديث ابن مسعود ما ثبت في حديث الباب من طلب القرب من باب الجنة. قوله: "ثم يقول بعد ذلك: يا رب قربني إلى باب الجنة" في رواية شعيب "قال يا رب قدمني". قوله: "فيقول: أليس قد زعمت" في رواية شعيب "فيقول الله: أليس قد أعطيت العهد والميثاق". قوله: "لعلي إن أعطيتك ذلك" في رواية التوحيد "فهل عسيت إن فعلت بك ذلك أن تسألني غيره" أما "عسيت" ففي سينها الوجهان الفتح والكسر، وجملة "أن تسألني" هي خبر عسى، والمعنى هل يتوقع منك سؤال شيء غير ذلك وهو استفهام تقرير لأن ذلك عادة بني آدم، والترجي راجع إلى المخاطب لا إلى الرب، وهو من باب إرخاء العنان إلى الخصم ليبعثه ذلك على التفكر في أمره والإنصاف من نفسه. قوله: "فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره فيعطي الله ما شاء من عهد وميثاق" يحتمل أن يكون فاعل "شاء" الرجل المذكور أو الله، قال ابن أبي جمرة: إنما بادر للحلف من غير استخلاف لما وقع له من قوة الفرح بقضاء حاجته فوطن نفسه على أن لا يطلب مزيدا وأكده بالحلف. قوله: "فإذا رأى ما فيها سكت" في رواية شعيب "فإذا بلغ بابها ورأى زهرتها وما فيها من النضرة" وفي رواية إبراهيم بن سعد "من الحبرة" بفتح المهملة وسكون الموحدة، ولمسلم: "الخير" بمعجمة وتحتانية بلا هاء، والمراد أنه يرى ما فيها من خارجها إما لأن جدارها شفاف فيرى باطنها من ظاهرها كما جاء في وصف الغرف، وإما أن المراد بالرؤية العلم الذي يحصل له من سطوع رائحتها الطيبة وأنوارها المضيئة كما كان يحصل له أذى لفح النار وهو خارجها. قوله: "ثم قال" في رواية إبراهيم بن سعد "ثم يقول". قوله: "ويلك" في رواية شعيب "ويحك". قوله: "يا رب لا تجعلني أشقى خلقك" المراد بالخلق هنا من دخل الجنة، فهو لفظ عام أريد به خاص، ومراده أنه يصير إذا استمر خارجا عن الجنة أشقاهم، وكونه أشقاهم ظاهر لو استمر خارج الجنة وهم من داخلها، قال الطيبي: معناه يا رب قد أعطيت العهد والميثاق ولكن تفكرت في كرمك ورحمتك فسألت وقع في الرواية التي في كتاب الصلاة "لا أكون أشقى خلقك" وللقابسي "لأكونن" قال ابن التين المعنى لئن أبقيتني على هذه الحالة ولم تدخلني الجنة لأكونن، والألف في الرواية الأولى زائدة. وقال الكرماني: معناه لا أكون كافرا. قلت: هذا أقرب (11/460) مما قال ابن التين ولو استحضر هذه الرواية التي هنا ما احتاج إلى التكلف الذي أبداه، فإن قوله: "لا أكون" لفظه لفظ الخبر ومعناه الطلب، ودل عليه قوله: "لا تجعلني" ووجه كونه أشقى أن الذي يشاهد ما يشاهده ولا يصل إليه يصير أشد حسرة ممن لا يشاهد، وقوله: "خلقك" مخصوص بمن ليس من أهل النار. قوله: "فإذا ضحك منه" تقدم معنى الضحك في شرح الحديث الماضي قريبا. قوله: "ثم يقال له تمن من كذا فيتمنى" في رواية أبي سعيد عند أحمد "فيسأل ويتمنى مقدار ثلاثة أيام من أيام الدنيا" وفي رواية التوحيد "حتى إن الله ليذكره من كذا" وفي حديث أبي سعيد "ويلقنه الله ما لا علم له به". قوله: "قال أبو هريرة" هو موصول السند المذكور. قوله: "وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولا" سقط هذا من رواية شعيب. وثبت في رواية إبراهيم بن سعد هنا، ووقع ذلك في رواية مسلم مرتين إحداهما هنا والأخرى في أوله عند قوله: "ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار".قوله: "قال عطاء وأبو سعيد" أي الخدري، والقائل هو عطاء بن يزيد بينه إبراهيم بن سعد في روايته عن الزهري قال: قال عطاء بن يزيد وأبو سعيد الخدري. قوله: "لا يغير عليه شيئا" في رواية إبراهيم بن سعد لا يرد عليه. قوله: "هذا لك ومثله معه، قال أبو سعيد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" ووقع في رواية إبراهيم بن سعد "قال أبو سعيد وعشرة أمثاله يا أبا هريرة فقال" فذكره، وفيه: "قال أبو سعيد الخدري: أشهد أني حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" ووقع في حديث أنس عند ابن مسعود "يرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها" ووقع في حديث حذيفة عن أبي بكر "انظر إلى ملك أعظم ملك فإن لك مثله وعشرة أمثاله، فيقول أتسخر بي وأنت الملك" ووقع عند أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعا في هذا الحديث: "فقال أبو سعيد ومثله معه، فقال أبو هريرة وعشرة أمثاله، فقال أحدهما لصاحبه حدث بما سمعت وأحدث بما سمعت" وهذا مقلوب فإن الذي في الصحيح هو المعتمد وقد وقع عند البزار من الوجه الذي أخرجه منه أحمد على وفق ما في الصحيح. نعم وقع في حديث أبي سعيد الطويل المذكور في التوحيد من طريق أخرى عنه بعد ذكر من يخرج من عصاة الموحدين فقال في آخره: "فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه" فهذا موافق لحديث أبي هريرة في الاقتصار على المثل ويمكن أن يجمع أن يكون عشرة الأمثال إنما سمعه أبو سعيد في حق آخر أهل الجنة دخولا والمذكور هنا في حق جميع من يخرج بالقبضة، وجمع عياص بين حديثي أبي سعيد وأبي هريرة باحتمال أن يكون أبو هريرة سمع أولا قوله: "ومثله معه" فحدت به ثم حدث النبي صلى الله عليه وسلم بالزيادة فسمعه أبو سعيد، وعلى هذا فيقال سمعه أبو سعيد وأبو هريرة معا أولا ثم سمع أبو سعيد الزيادة بعد، وقد وقع في حديث أبي سعيد أشياء كثيرة زائدة على حديث أبي هريرة نبهت على أكثرها فيما تقدم قريبا، وظاهر قوله: "هذا لك وعشرة أمثاله" أن العشرة زائدة على الأصل. ووقع في رواية أنس عن ابن مسعود "لك الذي تمنيت وعشرة أضعاف الدنيا" وحمل على أنه تمنى أن يكون له مثل الدنيا فيطابق حديث أبي سعيد. ووقع في رواية لمسلم عن ابن مسعود "لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها" والله أعلم. وقال الكلاباذي إمساكه أولا عن السؤال حياء من ربه والله يحب أن يسئل لأنه يحب صوت عبده المؤمن فيباسطه بقوله أولا "لعلك إن أعطيت هذا تسأل غيره" وهذه حالة المقصر فكيف حالة المطيع، وليس نقض هذا العبد عهده وتركه ما أقسم عليه جهلا منه ولا قلة مبالاة بل علما منه بأن نقض هذا العهد أولى من الوفاء به، لأن سؤاله ربه أولى من ترك السؤال مراعاة للقسم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى خيرا منها فليكفر على يمينه وليأت الذي (11/461) هو خير" فعمل هذا العبد على وفق هذا الخبر، والتكفير قد ارتفع عنه في الآخرة. قال ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى: في هذا الحديث من الفوائد جواز مخاطبة الشخص بما لا تدرك حقيقته، وجواز التعبير عن ذلك بما يفهمه، وأن الأمور التي في الآخرة لا تشبه بما في الدنيا إلا في الأسماء والأصل مع المبالغة في تفاوت الصفة والاستدلال على العلم الضروري بالنظري، وأن الكلام إذا كان محتملا لأمرين يأتي المتكلم بشيء يتخصص به مراده عند السامع، وأن التكليف لا ينقطع إلا بالاستقرار في الجنة أو النار، وأن امتثال الأمر في الموقف يقع بالاضطرار. وفيه فضيلة الإيمان لأنه لما تلبس به المنافق ظاهرا بقيت عليه حرمته إلى أن وقع التمييز بإطفاء النور وغير ذلك، وأن الصراط مع دقته وحدته يسع جميع المخلوقين منذ آدم إلى قيام الساعة. وفيه أن النار مع عظمها وشدتها لا تتجاوز الحد الذي أمرت بإحراقه، والآدمي مع حقارة جرمه يقدم على المخالفة ففيه معنى شديد من التوبيخ وهو كقوله تعالى في وصف الملائكة {غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وفيه إشارة إلى توبيخ الطغاة والعصاة، وفيه فضل الدعاء وقوة الرجاء في إجابة الدعوة ولو لم يكن الداعي أهلا لذلك في ظاهر الحكم لكن فضل الكريم واسع. وفي قوله في آخره في بعض طرقه: "ما أغدرك" إشارة إلى أن الشخص لا يوصف بالفعل الذميم إلا بعد أن يتكرر ذلك منه. وفيه إطلاق اليوم على جزء منه لأن يوم القيامة في الأصل يوم واحد وقد أطلق اسم اليوم على كثير من أجزائه. وفيه جواز سؤال الشفاعة خلافا لمن منع محتجا بأنها لا تكون إلا لمذنب. قال عياض: وفات هذا القائل أنها قد تقع في دخول الجنة بغير حساب وغير ذلك كما تقدم بيانه، مع أن كل عاقل معترف بالتقصير فيحتاج إلى طلب العفو عن تقصيره، وكذا كل عامل يخشى أن لا يقبل عمله فيحتاج إلى الشفاعة في قبوله. قال: ويلزم هذا القائل أن لا يدعو بالمغفرة ولا بالرحمة وهو خلاف ما درج عليه السلف في أدعيتهم. وفي الحديث أيضا تكليف ما لا يطاق لأن المنافقين يؤمرون بالسجود وقد منعوا منه، كذا قيل وفيه نظر لأن الأمر حينئذ للتعجيز والتبكيت. وفيه إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة، قال الطيبي: وقول من أثبت الرؤية ووكل علم حقيقتها إلى الله فهو الحق، وكذا قول من فسر الإتيان بالتجلي هو الحق لأن ذلك قد تقدمه قوله: "هل تضارون في رؤية الشمس والقمر" وزيد في تقرير ذلك وتأكيده وكل ذلك يدفع المجاز عنه والله أعلم. واستدل به بعض السالمية ونحوهم على أن المنافقين وبعض أهل الكتاب يرون الله مع المؤمنين، وهو غلط لأن في سياق حديث أبي سعيد أن المؤمنين يرونه سبحانه وتعالى بعد رفع رءوسهم من السجود وحينئذ يقولون أنت ربنا، ولا يقع ذلك للمنافقين ومن ذكر معهم، وأما الرؤية التي اشترك فيها الجميع قبل فقد تقدم أنه صورة الملك وغيره. قلت: ولا مدخل أيضا لبعض أهل الكتاب في ذلك لأن في بقية الحديث أنهم يخرجون من المؤمنين ومن معهم ممن يظهر الإيمان ويقال لهم ما كنتم تعبدون؟ وأنهم يتساقطون في النار، وكل ذلك قبل الأمر بالسجود. وفيه أن جماعة من مذنبي هذه الأمة يعذبون بالنار ثم يخرجون بالشفاعة والرحمة خلافا لمن نفى ذلك عن هذه الأمة وتأول ما ورد بضروب متكلفة، والنصوص الصريحة متضافرة متظاهرة بثبوت ذلك، وأن تعذيب الموحدين بخلاف تعذيب الكفار لاختلاف مراتبهم من أخذ النار بعضهم إلى ساقه وأنها لا تأكل أثر السجود، وأنهم يموتون فيكون عذابهم إحراقهم وحبسهم عن دخول الجنة سريعا كالمسجونين، بخلاف الكفار الذين لا يموتون أصلا ليذوقوا العذاب ولا يحيون حياة يستريحون بها، على أن بعض أهل العلم أول ما وقع في حديث أبي سعيد من قوله (11/462) يموتون فيها إماتة بأنه ليس المراد أن يحصل لهم الموت حقيقة وإنما هو كناية عن غيبة إحساسهم، وذلك للرفق بهم، أو كني عن النوم بالموت وقد سمى الله النوم وفاة، ووقع في حديث أبي هريرة أنهم إذا دخلوا النار ماتوا فإذا أراد الله إخراجهم أمسهم ألم العذاب تلك الساعة، قال وفيه ما طبع عليه الآدمي من قوة الطمع وجودة الحيلة في تحصيل المطلوب، فطلب أولا أن يبعد من النار ليحصل له نسبة لطيفة بأهل الجنة، ثم طلب الدنو منهم وقد وقع في بعض طرقه طلب الدنو من شجرة بعد شجرة إلى أن طلب الدخول، ويؤخذ منه أن صفات الآدمي التي شرف بها على الحيوان تعود له كلها بعد بعثته كالفكر والعقل وغيرهما، انتهى ملخصا مع زيادات في غضون كلامه والله المستعان. (11/463) |