بَاب فِي الْقَدَرِ 1
 
كتاب القدر
باب
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
82 – كِتَاب الْقَدَرِ
6594- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَنْبَأَنِي سُلَيْمَانُ الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ بِرِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ أَوْ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ أَوْ ذِرَاعَيْنِ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا قَالَ آدَمُ إِلاَّ ذِرَاعٌ"
6595- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ فَمَا الرِّزْقُ فَمَا الأَجَلُ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ"
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم كتاب القدر" زاد أبو ذر عن المستملي باب في القدر وكذا للأكثر دون قوله: "كتاب القدر". والقدر بفتح القاف والمهملة قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} قال الراغب: القدر بوضعه يدل على القدرة وعلى المقدور الكائن بالعلم، ويتضمن الإرادة عقلا والقول نقلا، وحاصله وجود شيء في وقت وعلى حال بوفق العلم والإرادة والقول، وقدر الله الشيء بالتشديد قضاه ويجوز بالتخفيف. وقال ابن القطاع قدر الله الشيء جعله بقدر والرزق صنعه وعلى الشيء ملكه. ومضى في "باب التعوذ من جهد البلاء" في كتاب الدعوات ما قال ابن بطال في التفرقة بين القضاء والقدر. وقال الكرماني: المراد بالقدر حكم الله. وقالوا -أي العلماء- القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله. وقال أبو المظفر بن السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاره في بحار الحيرة ولم يبلغ شفاء العين ولا ما يطمئن به القلب، لأن القدر سر من أسرار الله تعالى اختص العليم الخبير به وضرب دونه الأستار وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب، وقيل إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة ولا ينكشف لهم قبل دخولها. انتهى وقد أخرج الطبراني بسند حسن من حديث ابن مسعود رفعه: "إذا ذكر القدر فأمسكوا" وأخرج مسلم من طريق طاووس: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر، وسمعت عبد الله بن عمر يقول:
(11/477)

"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس". قلت: والكيس بفتح الكاف ضد العجز ومعناه الحذق في الأمور، ويتناول أمور الدنيا والآخرة، ومعناه أن كل شيء لا يقع في الوجود إلا وقد سبق به علم الله ومشيئته، وإنما جعلهما في الحديث غاية لذلك للإشارة إلى أن أفعالنا وإن كانت معلومة لنا ومرادة منا فلا تقع مع ذلك منا إلا بمشيئة الله، وهذا الذي ذكره طاوس مرفوعا وموقوفا مطابق لقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} فإن هذه الآية نص في أن الله خالق كل شيء ومقدره وهو أنص من قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} واشتهر على ألسنة السلف والخلف أن هذه الآية نزلت في القدرية. وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة "جاء مشركو قريش يخاصمون النبي صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت". وقد تقدم في الكلام على سؤال جبريل في كتاب الإيمان شيء من هذا وأن الإيمان بالقدر من أركان الأيمان، وذكر هناك بيان مقالة القدرية بما أغنى عن إعادته. ومذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} . قوله: "أبو الوليد" هو الطيالسي. قوله: "أنبأني سليمان الأعمش" سيأتي في التوحيد من رواية آدم عن شعبة بلفظ: "حدثنا الأعمش" ويؤخذ منه أن التحديث والإنباء عند شعبة بمعنى واحد، ويظهر به غلط من نقل عن شعبة أنه يستعمل الإنباء في الإجازة لكونه صرح بالتحديث، ولثبوت النقل عنه أنه لا يعتبر الإجازة ولا يروى بها. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود، ووقع في رواية آدم "سمعت عبد الله بن مسعود". قوله: "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق" قال الطيبي: يحتمل أن تكون الجملة حالية ويحتمل أن تكون اعتراضية وهو أولى لتعم الأحوال كلها وأن ذلك من دأبه وعادته، والصادق معناه المخبر بالقول الحق، ويطلق على الفعل يقال صدق القتال وهو صادق فيه، والمصدوق معناه الذي يصدق له في القول يقال: صدقته الحديث إذا أخبرته به إخبارا جازما، أو معناه الذي صدقه الله تعالى وعده. وقال الكرماني: لما كان مضمون الخبر أمرا مخالفا لما عليه الأطباء أشار بذلك إلى بطلان ما ادعوه، ويحتمل أنه قال ذلك تلذذا به وتبركا وافتخارا، ويؤيده وقوع هذا اللفظ بعينه في حديث أنس ليس فيه إشارة إلى بطلان شيء يخالف ما ذكر، وهو ما أخرجه أبو داود من حديث المغيرة بن شعبة "سمعت الصادق المصدوق يقول: لا تنزع الرحمة إلا من شقي" ومضى في علامات النبوة من حديث أبي هريرة "سمعت الصادق المصدوق يقول هلاك أمتي على يدي أغيلمة من قريش" وهذا الحديث اشتهر عن الأعمش بالسند المذكور هنا، قال علي بن المديني في "كتاب العلل": كنا نظن أن الأعمش تفرد به حتى وجدناه من رواية سلمة بن كهيل عن زيد بن وهب. قلت: وروايته عند أحمد والنسائي، ورواه حبيب بن حسان عن زيد بن وهب أيضا وقع لنا في "الحلية"، ولم ينفرد به زيد عن ابن مسعود بل رواه عنه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عند أحمد، وعلقمة عند أبي يعلى، وأبو وائل في فوائد تمام، ومخارق بن سليم وأبو عبد الرحمن السلمي كلاهما عند الفريابي في كتاب القدر، وأخرجه أيضا من رواية طارق ومن رواية أبي الأحوص الجشمي كلاهما عن عبد الله مختصرا، وكذا لأبي الطفيل عند مسلم، وناجية بن كعب في "فوائد العيسوي" وخيثمة بن عبد الرحمن عند الخطابي وابن أبي حاتم، ولم يرفعه بعض هؤلاء عن ابن مسعود؛ ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مع ابن مسعود جماعة من الصحابة مطولا ومختصرا، منهم أنس وقد ذكر عقب هذا، وحذيفة بن أسيد عند مسلم، وعبد الله بن عمر في القدر لابن
(11/478)

وهب، وفي أفراد الدار قطني، وفي مسند البزار من وجه آخر ضعيف، والفريابي بسند قوي، وسهل بن سعد وسيأتي في هذا الكتاب، وأبو هريرة عند مسلم، وعائشة عند أحمد بسند صحيح، وأبو ذر عند الفريابي، ومالك بن الحويرث عند أبي نعيم في الطب والطبراني، ورباح اللخمي عند ابن مردويه في التفسير، وابن عباس في فوائد المخلص من وجه ضعيف، وعلى في الأوسط للطبراني من وجه ضعيف، وعبد الله بن عمرو في الكبير بسند حسن، والعرس بن عميرة عند البزار بسند جيد، وأكثم بن أبي الجون عند الطبراني، وابن منده بسند حسن، وجابر عند الفريابي، وقد أشار الترمذي في الترجمة إلى أبي هريرة وأنس فقط، وقد أخرجه أبو عوانة في صحيحه عن بضع وعشرين نفسا من أصحاب الأعمش منهم من أقرانه سليمان التيمي وجرير بن حازم وخالد الحداء، ومن طبقة شعبة الثوري وزائدة وعمار بن زريق وأبو خيثمة، ومما لم يقع لأبي عوانة رواية شريك عن الأعمش وقد أخرجها النسائي في التفسير، ورواية ورقاء بن عمر ويزيد بن عطاء وداود بن عيسى أخرجها تمام، وكنت خرجته في جزء من طرق نحو الأربعين نفسا عن الأعمش فغاب عني الآن، ولو أمعنت التتبع لزادوا على ذلك. قوله: "إن أحدكم" قال أبو البقاء في إعراب المسند: لا يجوز في أن إلا الفتح لأنه مفعول حدثنا فلو كسر لكان منقطعا عن قوله حدثنا، وجزم النووي في شرح مسلم بأنه بالكسر على الحكاية وجوز الفتح، وحجة أبي البقاء أن الكسر على خلاف الظاهر ولا يجوز العدول عنه إلا لمانع، ولو جاز من غير أن يثبت به النقل لجاز في مثل قوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ} وقد اتفق القراء على أنها بالفتح. وتعقبه الخوبي بأن الرواية جاءت بالفتح وبالكسر فلا معنى للرد. قلت: وقد جزم ابن الجوزي بأنه في الرواية بالكسر فقط، قال الخوبي: ولو لم تجيء به الرواية لما امتنع جوازا على طريق الرواية بالمعنى، وأجاب عن الآية بأن الوعد مضمون الجملة وليس بخصوص لفظها فلذلك اتفقوا على الفتح، فأما هنا فالتحديث يجوز أن يكون بلفظه وبمعناه. قوله: "يجمع في بطن أمه" كذا لأبي ذر عن شيخيه، وله عن الكشميهني: "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه" وهي روية آدم في التوحيد وكذا للأكثر عن الأعمش. وفي رواية أبي الأحوص عنه "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه" وكذا لأبي معاوية ووكيع وابن نمير. وفي رواية ابن فضيل ومحمد بن عبيد عند ابن ماجه: "إنه يجمع خلق أحدكم في بطن أمه" وفي رواية شريك مثل آدم لكن قال: "ابن آدم" يدل "أحدكم" والمراد بالجمع ضم بعضه إلى بعض بعد الانتشار. وفي قوله: "خلق" تعبير بالمصدر عن الجثة وحمل على أنه بمعنى المفعول كقولهم: هذا درهم ضرب الأمير أي مضروبه، أو على حذف مضاف أي ما يقوم به خلق أحدكم، أو أطلق مبالغة كقوله: "وإنما هي إقبال وإدبار" جعلها نفس الإقبال والإدبار لكثرة وقوع ذلك منها، قال القرطبي في "المفهم": المراد أن المني يقع في الرحم حين انزعاجه بالقوة الشهوانية الدافعة مبثوثا متفرقا فيجمعه الله في محل الولادة من الرحم. قوله: "أربعين يوما" زاد في رواية آدم "أو أربعين ليله" وكذا لأكثر الرواة عن شعبة بالشك. وفي رواية يحيى القطان ووكيع وجرير وعيسى بن يونس "أربعين يوما" بغير شك. وفي رواية سلمة بن كهيل "أربعين ليلة" بغير شك، ويجمع بأن المراد يوم بليلته أو ليلة بيومها، ووقع عند أبي عوانة من رواية وهب بن جرير عن شعبة مثل رواية آدم لكن زاد: "نطفة" بين قوله: "أحدكم" وبين قوله: "أربعين" فبين أن الذي يجمع هو النطفة، والمراد بالنطفة المني وأصله الماء الصافي القليل، والأصل في ذلك أن ماء الرجل إذا لاقى ماء المرأة بالجماع وأراد الله أن
(11/479)

يخلق من ذلك جنينا هيأ أسباب ذلك، لأن في رحم المرأة قوتين: قوة انبساط عند ورود مني الرجل حتى ينتشر في جسد المرأة، وقوة انقباض بحيث لا يسيل من فرجها مع كونه منكوسا ومع كون المني ثقيلا بطبعه، وفي مني الرجل قوة الفعل وفي مني المرأة قوة الانفعال، فعند الامتزاج يصير مني الرجل كالأنفحة للبن، وقيل في كل منهما قوة فعل وانفعال لكن الأول في الرجل أكثر وبالعكس في المرأة، وزعم كثير من أهل التشريح أن مني الرجل لا أثر له في الولد إلا في عقده وأنه إنما يتكون من دم الحيض، وأحاديث الباب تبطل ذلك، وما ذكر أولا أقرب إلى موافقة الحديث والله أعلم. قال ابن الأثير في النهاية: يجوز أن يريد بالجمع مكث النطفة في الرحم، أي تمكس النطفة أربعين يوما تخمر فيه حتى تتهيأ للتصوير ثم تخلق بعد ذلك، وقيل إن ابن مسعود فسره بأن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشرا طارت في جسد المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين يوما ثم تنزل دما في الرحم فذلك جمعها. قلت: هذا التفسير ذكره الخطابي، وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير من رواية الأعمش أيضا عن خيثمة بن عبد الرحمن عن ابن مسعود، وقوله: "فذلك جمعها" كلام الخطابي أو تفسير بعض رواة حديث الباب وأظنه الأعمش، فظن ابن الأثير أن تتمة كلام ابن مسعود فأدرجه فيه، ولم يتقدم عن ابن مسعود في رواية خيثمة ذكر الجمع حتى يفسره، وقد رجح الطيبي هذا التفسير فقال: الصحابي أعلم بتفسير ما سمع وأحق بتأويله وأولى بقبول ما يتحدث به وأكثر احتياطا في ذلك من غيره فليس لمن بعده أن يتعقب كلامه. قلت: وقد وقع في حديث مالك بن الحويرث رفعه ما ظاهره يخالف التفسير المذكور ولفظه: "إذا أراد الله خلق عبد فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في عرق وعضو منها، فإذا كان يوم السابع جمعه الله ثم أحضره كل عرق له دون آدم {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} وفي لفظ: "ثم تلا: {أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} وله شاهد من حديث رباح اللخمي لكن ليس فيه ذكر يوم السابع. وحاصله أن في هذا زيادة تدل على أن الشبه يحصل في اليوم السابع، وأن فيه ابتداء جمع المني، وظاهر الروايات الأخرى أن ابتداء جمعه من ابتداء الأربعين. وقد وقع في رواية عبد الله بن ربيعة عن ابن مسعود أن النطفة التي تقضي منها النفس إذا وقعت في الرحم كانت في الجسد أربعين يوما ثم تحادرت دما فكانت علقة. وفي حديث جابر أن النطفة إذا استقرت في الرحم أربعين يوما أو ليلة أذن الله في خلقها. ونحوه في حديث عبد الله بن عمرو، وفي حديث حذيفة بن أسيد من رواية عكرمة بن خالد عن أبي الطفيل عنه أن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك. وكذا في رواية يوسف المكي عن أبي الطفيل عند الفريابي. وعنده وعند مسلم من رواية عمرو بن الحارث عن أبي الزبير عن أبي الطفيل "إذا مر بالنطفة ثلاث وأربعون" وفي نسخة "ثنتان وأربعون ليلة" وفي رواية ابن جريج عن أبي الزبير عند أبي عوانة "ثنتان وأربعون" وهي عند مسلم لكن لم يسق لفظها قال مثل عمرو بن الحارث. وفي رواية ربيعة بن كلثوم عن أبي الطفيل عند مسلم أيضا: "إذا أراد الله أن يخلق شيئا يأذن له لبضع وأربعين ليلة". وفي رواية عمرو بن دينار عن أبي الطفيل "يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين" وهكذا رواه ابن عيينة عن عمرو عند مسلم، ورواه الفريابي من طريق محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو فقال: "خمسة وأربعين ليلة فجزم بذلك" فحاصل الاختلاف أن حديث ابن مسعود لم يختلف في ذكر الأربعين، وكذا في كثير من الأحاديث وغالبها كحديث أنس ثاني حديثي الباب لا تحديد فيه، وحديث حذيفة بن أسيد اختلفت ألفاظ نقلته: فبعضهم
(11/480)

جزم بالأربعين كما في حديث ابن مسعود، وبعضهم زاد ثنتين أو ثلاثا أو خمسا أو بضعا، ثم منهم من جزم ومنهم من تردد، وقد جمع بينها القاضي عياض بأنه ليس في رواية ابن مسعود بأن ذلك يقع عند انتهاء الأربعين الأولى وابتداء الأربعين الثانية بل أطلق الأربعين، فاحتمل أن يرد أن ذلك يقع في أوائل الأربعين الثانية، ويحتمل أن يجمع الاختلاف في العدد الزائد على أنه بحسب اختلاف الأجنة، وهو جيد لو كانت مخارج الحديث مختلفة، لكنها متحدة وراجعة إلى أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد، فدل على أنه لم يضبط القدر الزائد على الأربعين والخطب فيه سهل، وكل ذلك لا يدفع الزيادة التي في حديث مالك بن الحويرث في إحضار الشبه في اليوم السابع، وأن فيه يبتدئ الجمع بعد الانتشار، وقد قال ابن منده إنه حديث متصل على شرط الترمذي والنسائي، واختلاف الألفاظ بكونه في البطن وبكونه في الرحم لا تأثير له لأنه في الرحم حقيقة والرحم في البطن، وقد فسروا قوله تعالى: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} بأن المراد ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة البطن، فالمشيمة في الرحم والرحم في البطن. قوله: "ثم علقة مثل ذلك" في رواية آدم "ثم تكون علقة مثل ذلك" وفي رواية مسلم: "ثم تكون في ذلك علقة" مثل ذلك و"تكون" هنا بمعنى "تصير" ومعناه أنها تكون بتلك الصفة مدة الأربعين ثم تنقلب إلى الصفة التي تليها، ويحتمل أن يكون المراد تصيرها شيئا فشيئا، فيخالط الدم النطفة في الأربعين الأولى بعد انعقادها وامتدادها، وتجري في أجزائها شيئا فشيئا حتى تتكامل علقة في أثناء الأربعين، ثم يخالطها اللحم شيئا فشيئا إلى أن تشتد فتصير مضغة ولا تسمى علقة قبل ذلك ما دامت نطفة، وكذا ما بعد ذلك من زمان العلقة والمضغة. وأما ما أخرجه أحمد من طريق أبي عبيده قال قال عبد الله رفعه: "إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما على حالها لا تتغير" ففي سنده ضعف وانقطاع، فإن كان ثابتا حمل نفي التغير على تمامه، أي لا تنتقل إلى وصف العلقة إلا بعد تمام الأربعين، ولا ينفي أن المني يستحيل في الأربعين الأولى دما إلى أن يصير علقة انتهى. وقد نقل الفاضل على بن المهذب الحموي الطبيب اتفاق الأطباء على أن خلق الجنين في الرحم يكون في نحو الأربعين، وفيها تتميز أعضاء الذكر دون الأنثى لحرارة مزاجه وقواه وأعبد إلى قوام المني الذي تتكون أعضاؤه منه ونضجه فيكون أقبل للشكل والتصوير، ثم يكون علقة مثل ذلك، والعلقة قطعة دم جامد، قالوا: وتكون حركة الجنين في ضعف المدة التي يخلق فيها، ثم يكون مضغة مثل ذلك أي لحمة صغيرة وهي الأربعون الثالثة فتتحرك، قال: واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر. وذكر الشيخ شمس الدين ابن القيم أن داخل الرحم خشن كالسفنج، وجعل فيه قبولا للمني كطلب الأرض العطشى للماء فجعله طالبا مشتاقا إليه بالطبع، فلذلك يمسكه ويشتمل عليه ولا يزلقه بل ينضم عليه لئلا يفسده الهواء، فيأذن الله لملك الرحم في عقده وطبخه أربعين يوما وفي تلك الأربعين يجمع خلقه. قالوا: إن المني إذا اشتمل عليه الرحم ولم يقذفه استدار على نفسه واشتد إلى تمام ستة أيام فينقط فيه ثلاث نقط في مواضع القلب والدماغ والكبد، ثم يظهر فيما بين تلك النقط خطوط خمسة إلى تمام ثلاثة أيام، ثم تنفذ الدموية فيه إلى تمام خمسة عشر فتتميز الأعضاء الثلاثة، ثم تمتد رطوبة النخاع إلى تمام اثني عشر يوما ثم ينفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الضلوع والبطن عن الجنين في تسعة أيام، ثم يتم هذا التمييز بحيث يظهر للحس في أربعة أيام فيكمل أربعين يوما، فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "يجمع خلقه في أربعين يوما" وفيه تفصيل ما أجمل فيه، ولا ينافي ذلك قوله: "ثم تكون علقة مثل ذلك" فإن العلقة وإن كانت قطعة دم لكنها في هذه
(11/481)

الأربعين الثانية تنتقل عن صورة المني ويظهر التخطيط فيها ظهورا خفيا على التدريج، ثم يتصلب في الأربعين يوما بتزايد ذلك التخليق شيئا فشيئا حتى يصير مضغة مخلقة ويظهر للحس ظهورا لا خفاء به. وعند تمام الأربعين الثالثة والطعن في الأربعين الرابعة ينفخ فيه الروح كما وقع في هذا الحديث الصحيح، وهو ما لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي، حتى قال كثير من فضلاء الأطباء وحذاق الفلاسفة إنما يعرف ذلك بالتوهم والظن البعيد، واختلفوا في النقطة الأولى أيها أسبق والأكثر نقط القلب. وقال قوم: أول ما يخلق منه السرة لأن حاجته من الغذاء أشد من حاجته إلى آلات قواه، فإن من السرة ينبعث الغذاء، والحجب التي على الجنين في السرة كأنها مربوط بعضها ببعض والسرة في وسطها ومنها يتنفس الجنين ويتربى وينجذب غذاؤه منها. قوله: "ثم يكون مضغة مثل ذلك" في رواية آدم "مثله" وفي رواية مسلم كما قال في العلقة، والمراد مثل مدة الزمان المذكور في الاستحالة، والعلقة الدم الجامد الغليظ سمى بذلك للرطوبة التي فيه وتعلقه بما مر به، والمضغة قطعة اللحم سميت بذلك لأنها قدر ما يمضغ الماضغ. قوله: "ثم يبعث الله ملكا" في رواية الكشميهني: "ثم يبعث إليه ملك" وفي رواية آدم كالكشميهني لكن قال: "الملك" ومثله لمسلم بلفظ: "ثم يرسل الله" واللام فيه للعهد، والمراد به عهد مخصوص وهو جنس الملائكة الموكلين بالأرحام، كما ثبت في رواية حذيفة بن أسيد من رواية ربيعة بن كلثوم "أن ملكا موكلا بالرحم" ومن رواية عكرمة بن خالد "ثم يتسور عليها الملك الذي يخلقها"، وهو بتشديد اللام. وفي رواية أبي الزبير عند الفريابي "أتى ملك الأرحام" وأصله عند مسلم لكن بلفظ: "بعث الله ملكا" وفي حديث ابن عمر "إذا أراد الله أن يخلق النطفة قال ملك الأرحام" وفي ثاني حديثي الباب عن أنس "وكل الله بالرحم ملكا" وقال الكرماني: إذا ثبت أن المراد بالملك من جعل إليه أمر تلك الرحم فكيف يبعث أو يرسل؟ وأجاب بأن المراد أن الذي يبعث بالكلمات غير الملك الموكل بالرحم الذي يقول يا رب نطفة إلخ، ثم قال: ويحتمل أن يكون المراد بالبعث أنه يؤمر بذلك. قلت: وهو الذي ينبغي أن يعول عليه، وبه جزم القاضي عياض وغيره. وقد وقع في رواية يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة عن الأعمش "إذا استقرت النطفة في الرحم أخذها الملك بكفه فقال: أي رب أذكر أو أنثى"؟ الحديث وفيه: "فيقال انطلق إلى أم الكتاب فإنك تجد قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد ذلك" فينبغي أن يفسر الإرسال المذكور بذلك. واختلف في أول ما يتشكل من أعضاء الجنين فقيل قلبه لأنه الأساس وهو معدن الحركة الغريزية، وقيل الدماغ لأنه مجمع الحواس ومنه ينبعث، وقيل الكبد لأن فيه النمو والاغتذاء الذي هو قوام البدن، ورجحه بعضهم بأنه مقتضى النظام الطبيعي، لأن النمو هو المطلوب أولا ولا حاجة له حينئذ إلى حس ولا حركة إرادية لأنه حينئذ بمنزلة النبات، وإنما يكون له قوة الحس والإرادة عند تعلق النفس به فيقدم الكبد ثم القلب ثم الدماغ. قوله: "فيؤمر بأربعة" في رواية الكشميهني: "بأربع" والمعدود إنما أبهم جاز تذكيره وتأنيثه، والمعنى أنه يؤمر بكتب أربعة أشياء من أحوال الجنين. وفي رواية آدم "فيؤمر بأربع كلمات" وكذا للأكثر، والمراد بالكلمات القضايا المقدرة، وكل قضية تسمى كلمة. قوله: "برزقه وأجله وشقي أو سعيد" كذا وقع في هذه الرواية ونقص منها ذكر العمل وبه تتم الأربع، وثبت قوله: "وعمله" في رواية آدم. وفي رواية أبي الأحوص عن الأعمش "فيؤمر بأربع كلمات ويقال له اكتب" فذكر الأربع، وكذا لمسلم والأكثر. وفي رواية لمسلم أيضا: "فيؤمر بأربع كلمات ويقال رزقه إلخ" وضبط بكتب بوجهين أحدهما بموحدة مكسورة وكاف مفتوحة
(11/482)

ومثناة ساكنة ثم موحدة على البدل، والآخر بتحتانية مفتوحة بصيغة الفعل المضارع، وهو أوجه لأنه وقع في رواية آدم "فيؤذن بأربع كلمات فيكتب" وكذا في رواية أبي داود وغيره، وقوله: "سقي أو سعيد" بالرفع خبر مبتدأ محذوف، وتكلف الخوبي في قوله إنه يؤمر بأربع كلمات فيكتب منها ثلاثا والحق أن ذلك من تصرف الرواة، والمراد أنه يكتب لكل أحد إما السعادة وإما الشقاء، ولا يكتبهما لواحد معا، وإن أمكن وجودهما منه لأن الحكم إذا اجتمعا للأغلب وإذا ترتبا فللخاتمة فلذلك اقتصر على أربع وإلا لقال خمس، والمراد من كتابة الرزق تقديره قليلا أو كثيرا وصفته حراما أو حلالا، وبالأجل هل هو طويل أو قصير، وبالعمل هو صالح أو فاسد. ووقع لأبي داود من رواية شعبة والثوري جميعا عن الأعمش "ثم يكتب شقيا أو سعيدا" ومعنى قوله شقي أو سعيد أن الملك يكتب إحدى الكلمتين كأن يكتب مثلا أجل هذا الجنين كذا ورزقه كذا وعمله كذا وهو شقي باعتبار ما يختم له وسعيد باعتبار ما يختم له كما دل عليه بقية الخبر، وكان ظاهر السياق أن يقول ويكتب شقاوته وسعادته لكن عدل عن ذلك لأن الكلام مسوق إليهما والتفصيل وارد عليهما، أشار إلى ذلك الطيبي. ووقع في حديث أنس ثاني حديثي الباب: "إن الله وكل بالرحم ملكا فيقول: أي رب أذكر أو أنثى" وفي حديث عبد الله بن عمرو "إذا مكثت النطفة في الرحم أربعين ليلة جاءها ملك فقال: اخلق يا أحسن الخالقين، فيقضي الله ما شاء ثم يدفع إلى الملك فيقول: يا رب أسقط أم تام؟ فيبين له، ثم يقول: أواحد أم توأم؟ فيبين له، فيقول أذكر أم أنثى؟ فيبين له، ثم يقول: أناقص الأجل أم تام الأجل؟ فيبين له، ثم يقول: أشقى أم سعيد؟ فيبين له. ثم يقطع له رزقه مع خلقه فيهبط بهما، ووقع في غير هذه الرواية أيضا زيادة على الأربع، ففي رواية عبد الله بن ربيعة عن ابن مسعود "فيقول اكتب رزقه وأثره وخلقه وشقي أو سعيد" وفي رواية خصيف عن أبي الزبير عن جابر من الزيادة "أي رب مصيبته، فيقول كذا وكذا" وفي حديث أبي الدرداء عند أحمد والفريابي "فرغ الله إلى كل عبد من خمس: من عمله وأجله ورزقه وأثره ومضجعه" وأما صفة الكتابة فظاهر الحديث أنها الكتابة المعهودة في صحيفته، ووقع ذلك صريحا في رواية لمسلم في حديث حذيفة بن أسيد "ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص" وفي رواية الفريابي "ثم تطوى تلك الصحيفة إلى يوم القيامة" ووقع في حديث أبي ذر "فيقضي الله ما هو قاض فيكتب ما هو لاق بين عينيه. وتلا أبو ذر خمس آيات من فاتحة سورة التغابن" ونحوه في حديث ابن عمر في صحيح ابن حبان دون تلاوة الآية وزاد: "حتى النكبة ينكبها" وأخرجه أبو داود في "كتاب القدر المفرد" قال ابن أبي جمرة في الحديث في رواية أبي الأحوص: يحتمل أن يكون المأمور بكتابته الأربع المأمور بها ويحتمل غيرها، والأول أظهر لما بينته بقية الروايات، وحديث ابن مسعود بجميع طرقه يدل على أن الجنين يتقلب في مائة وعشرين يوما في ثلاثة أطوار كل طور منها في أربعين ثم بعد تكملتها ينفخ فيه الروح، وقد ذكر الله تعالى هذه الأطوار الثلاثة من غير تقييد بمدة في عدة سور، منها في الحج وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في كتاب الحيض في "باب مخلقة وغير مخلقة" ودلت الآية المذكور على أن التخليق يكون للمضغة، وبين الحديث أن ذلك يكون فيها إذا تكاملت الأربعين وهي المدة التي إذا انتهت سميت مضغه، وذكر الله النطفة ثم العلقة ثم المضغة في سور أخرى وزاد في سورة قد أفلح بعد المضغة "فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما" الآية، ويؤخذ منها ومن حديث الباب أن تصير المضغة عظاما بعد نفخ الروح، ووقع في آخر رواية أبي عبيدة المتقدم ذكرها قريبا بعد
(11/483)