بَاب وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا
 
6601- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَسْأَلْ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا وَلْتَنْكِحْ فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا"
6602- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ "عَنْ أُسَامَةَ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ وَعِنْدَهُ سَعْدٌ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذٌ أَنَّ ابْنَهَا يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهَا "لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى كُلٌّ بِأَجَلٍ فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ"
6603- حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ الجُمَحِيُّ "أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُصِيبُ سَبْيًا وَنُحِبُّ الْمَالَ كَيْفَ تَرَى فِي الْعَزْلِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ ذَلِكَ لاَ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلاَّ هِيَ كَائِنَةٌ"
6604- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَقَدْ خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً مَا تَرَكَ فِيهَا شَيْئًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلاَّ ذَكَرَهُ عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ إِنْ كُنْتُ لاَرَى الشَّيْءَ قَدْ نَسِيتُ فَأَعْرِفُ مَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ إِذَا غَابَ عَنْهُ فَرَآهُ فَعَرَفَهُ"
6605- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ "عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الأَرْضِ وَقَالَ "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ أَوْ مِنْ الْجَنَّةِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ أَلاَ نَتَّكِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لاَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الْآيَةَ"
(11/494)

قوله: "باب "وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً" أي حكما مقطوعا بوقوعه، والمراد بالأمر واحد الأمور المقدرة ويحتمل أن يكون واحد الأوامر، لأن كل موجود بكن. حديث أبي هريرة "لا تسأل المرأة طلاق أختها -إلى قوله في آخره- فإن لها ما قدر لها" وقد مضى شرحه في "باب الشروط التي لا تحل في النكاح" من كتاب النكاح قال ابن العربي: في هذا الحديث من أصول الدين السلوك في مجاري القدر، وذلك لا يناقض العمل في الطاعات ولا يمنع التحرف في الاكتساب والنظر لقوت غد وإن كان لا يتحقق أنه يبلغه. وقال ابن عبد البر: هذا الحديث من أحسن أحاديث القدر عند أهل العلم لما دل عليه من أن الزوج لو أجابها وطلق من تظن أنها تزاحمها في رزقها فإنه لا يحصل لها من ذلك إلا ما كتب الله لها سواء أجابها أو لم يجبها، وهو كقول الله تعالى في الآية الأخرى {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} حديث أسامة وهو ابن زيد، قوله: "عاصم" هو الأحول، وأبو عثمان هو النهدي. قوله: "وعنده سعد" هو ابن عبادة، ومعاذ هو ابن جبل، وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب الجنائز وما قيل في تسمية الابن المذكور وبيان الجمع بين هذه الرواية والرواية التي فيها "أن ابنتها". حديث أبي سعيد، قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد. قوله: "جاء رجل من الأنصار" تقدم في غزوة المريسيع وفي عشرة النساء من كتاب النكاح عن أبي سعيد قال: "سألنا" وأخرجه النسائي من طريق ابن محيريز أن أبا سعيد وأبا صرمة أخبراه أنهم أصابوا سبايا، قال: "فتراجعنا في العزل، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم" فلعل أبا سعيد باشر السؤال وإن كان الذين تراجعوا في ذلك جماعة، وقد وقع عند البخاري في تاريخه وابن السكن وغيره في الصحابة من حديث مجدي الضمري قال: "غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة المريسيع فأصبنا سبيا، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن العزل" الحديث، وأبو صرمة مختلف في صحبته، وقد وقع في صحيح مسلم من طريق ابن محيريز "دخلت أنا وأبو صرمة على أبي سعيد فقال: يا أبا سعيد هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في العزل" الحديث، والثابت أن أبا صرمة وهو بكسر المهملة وسكون الراء إنما سأل أبا سعيد، وقد تقدم شرح الحديث مستوفي في النكاح، والغرض منه هنا قوله في آخره: "وليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا هي كائنة" . قوله: "حدثنا موسى بن مسعود" هو أبو حذيفة النهدي، وسفيان هو الثوري، قوله: "لقد خطبنا" في رواية جرير عن الأعمش عند مسلم: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما". قوله: "إلا ذكره" في رواية جرير "إلا حدث به". قوله: "علمه من علمه وجهله من جهله" في رواية جرير "حفظه من حفظه ونسيه من نسيه" وزاد: "قد علمه أصحابي هؤلاء" أي علموا وقوع ذلك المقام وما وقع فيه من الكلام، وقد سميت في أول بدء الخلق من روى نحو حديث حذيفة هذا من الصحابة كعمر وأبي زيد بن أخطب وأبي سعيد قال وغيرهم فلعل حذيفة أشار إليهم أو إلى بعضهم، وقد أخرج مسلم من طريق أبي إدريس الخولاني عن حذيفة "والله إني لأعلم كل فتنة كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما بي أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى شيئا لم يكن يحدث به غيري" وقال في آخره: "فذهب أولئك الرهط غيري" وهذا لا يناقض الأول بل يجمع بأن يحمل على مجلسين، أو المراد بالأول أعم من المراد بالثاني. قوله: "إن كنت لأرى الشيء قد نسيت" كذا للأكثر بحذف المفعول. وفي رواية الكشميهني بإثباته ولفظه: "نسيته". قوله: "فأعرفه كما يعرف الرجل الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه" في رواية محمد بن يوسف عن سفيان عند الإسماعيلي: "كما يعرف الرجل" بحذف المفعول. وفي رواية الكشميهني:
(11/495)

"الرجل وجه الرجل غاب عنه ثم رآه فعرفه" قال عياض: في هذا الكلام تلفيق، وكذا في رواية جرير "وأنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه" قال والصواب كما ينسي الرجل وجه الرجل -أو كما لا يذكر الرجل وجه الرجل- إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه. قلت: والذي يظهر لي أن الرواية في الأصلين مستقيمة، وتقدير ما في حديث سفيان أنه يرى الشيء الذي كان نسيه فإذا رآه عرفه وقوله: "كما يعرف الرجل الرجل غاب عنه" أي الذي كان غاب عنه فنسى صورته ثم إذا رآه عرفه، وأخرجه الإسماعيلي من رواية ابن المبارك عن سفيان بلفظ: "إني لأرى الشيء نسيته فأعرفه كما يعرف الرجل إلخ". "تنبيه": أخرج هذا الحديث القاضي عياض في "الشفاء" من طريق أبي داود بسنده إلى قوله: "ثم إذا رآه عرفه" ثم قال حذيفة "ما أدري أنسى أصحابي أم تناسوه" والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة إلا قد سماه لنا" قلت: ولم أر هذه الزيادة في كتاب أبي داود، وإنما أخرجه أبو داود بسند آخر مستقل من وجه آخر عن حذيفة. حديث على، قوله: "عن أبي حمزة" بمهملة وزاي هو محمد بن ميمون السكري. قوله: "عن سعد بن عبيدة" بضم العين هو السلمي الكوفي يكني أبا حمزة وكان صهر أبي عبد الرحمن شيخه في هذا الحديث، ووقع في تفسير {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} من طريق شعبة عن الأعمش "سمعت سعد بن عبيدة" وأبو عبد الرحمن السلمي اسمه عبد الله بن حبيب وهو من كبار التابعين، ووقع مسمى في رواية معتمر ابن سليمان عن منصور عن سعد بن عبيدة عند الفريابي. قوله: "عن علي" في رواية مسلم البطين عن أبي عبد الرحمن السلمي" أخذ بيدي علي فانطلقنا نمشي حتى جلسنا على شاطئ الفرات، فقال على: قال رسول صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث مختصرا. قوله: "كنا جلوسا" في رواية عبد الواحد عن الأعمش "كنا قعودا" وزاد في رواية سفيان الثوري عن الأعمش "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بقيع الغرقد -بفتح الغين المعجمة والقاف بينهما راء ساكنة- في جنازة" فظاهره أنهم كانوا جميعا شهدوا الجنازة، لكن أخرجه في الجنائز من طريق منصور عن سعد بن عبيدة فبين أنهم سبقوا بالجنازة وأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ولفظه: "كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله". قوله: "ومعه عود ينكت به في الأرض" في رواية شعبة "وبيده عود فجعل ينكت به في الأرض" وفي رواية منصور "ومعه مخصرة" بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الصاد المهملة هي عصا أو قضيب يمسكه الرئيس ليتوكأ عليه ويدفع به عنه ويشير به لما يريد، وسميت بذلك لأنها تحمل تحت الخصر غالبا للاتكاء عليها، وفي اللغة اختصر الرجل إذا أمسك المخصرة. قوله: "فنكس" بتشديد الكاف أي أطرق. قوله: "فقال ما منكم من أحد" زاد في رواية منصور "ما من نفس منفوسة" أي مصنوعة مخلوقة، واقتصر في رواية أبي حمزة والثوري على الأول. قوله: "إلا قد كتب مقعده من النار أو من الجنة" أو للتنويع، ووقع في رواية سفيان ما قد يشعر بأنها بمعنى في الواو ولفظه: "إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار" وكأنه يشير إلى ما تقدم من حديث ابن عمر الدال على أن لكل أحد مقعدين. وفي رواية منصور "إلا كتب مكانها من الجنة والنار" وزاد فيها "وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة" وإعادة "إلا" يحتمل أن يكون "ما من نفس" بدل "ما منكم" "وإلا" الثانية بدلا من الأولى وأن يكون من باب اللف والنشر فيكون فيه تعميم بعد تخصيص والثاني في كل منهما أعم من الأول أشار إليه الكرماني. قوله: "فقال رجل من القوم" في رواية سفيان وشعبة "فقالوا
(11/496)

يا رسول الله" وهذا الرجل وقع في حديث جابر عند مسلم أنه سراقة بن مالك بن جعشم ولفظه: "جاء سراقة فقال يا رسول الله أنعمل اليوم فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أو فيما يستقبل؟ قال: بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. فقال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وأخرجه الطبراني وابن مردويه نحوه وزاد: وقرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى -إلى قوله- العسرى} وأخرجه ابن ماجه من حديث سراقة نفسه لكن دون تلاوة الآية. ووقع هذا السؤال وجوابه سوى تلاوة الآية لشريح بن عامر الكلابي أخرجه أحمد والطبراني ولفظه: "قال: ففيم العمل إذا؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وأخرج الترمذي من حديث ابن عمر قال: "قال عمر: يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو أمر قد فرغ منه؟ قال: فيما قد فرغ منه" فذكر نحوه. وأخرج البزار والفريابي من حديث أبي هريرة "إن عمر قال: يا رسول الله" فذكره. وأخرجه أحمد والبزار والطبراني من حديث أبي بكر الصديق "قلت يا رسول الله نعمل على ما فرغ منه" الحديث نحوه، ووقع في حديث سعد بن أبي وقاص "فقال رجل من الأنصار" والجمع بينها تعدد السائلين عن ذلك، فقد وقع في حديث عبد الله بن عمرو أن السائل عن ذلك جماعة ولفظه: "فقال أصحابه: ففيم العمل إن كان قد فرغ منه؟ فقال: سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل" الحديث أخرجه الفريابي. قوله: "ألا نتكل يا رسول الله" في رواية سفيان "أفلا" والفاء معقبة لشيء محذوف تقديره أفإذا كان كذلك أفلا نتكل، وزاد في رواية منصور وكذا في رواية شعبة "أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل" أي نعتمد على ما قدر علينا، وزاد في رواية منصور "فمن كان منا من أهل السعادة فيصير إلى عمل السعادة ومن كان منا من أهل الشقاوة" مثله. قوله: "اعملوا فكل ميسر" زاد شعبة "لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل السعادة" الحديث. وفي رواية منصور قال: "أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة" الحديث. وحاصل السؤال: ألا نترك مشقة العمل فإنا سنصير إلى ما قدر علينا، وحاصل الجواب: لا مشقة لأن كل أحد ميسر لما خلق له، وهو يسير على من يسره الله. قال الطيبي: الجواب من الأسلوب الحكيم، منعهم عن ترك العمل وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد من العبودية، وزجرهم عن التصرف في الأمور المغيبة فلا يجعلوا العبادة وتركها سببا مستقلا لدخول الجنة والنار بل هي علامات فقط. قوله: "ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآية" وساق في رواية سفيان ووكيع الآيات إلى قوله: {لِلْعُسْرَى} ووقع في حديث ابن عباس عند الطبراني نحو حديث عمر وفي آخره: "قال اعمل فكل ميسر" وفي آخره عند البزار "فقال القوم بعضهم لبعض: فالجد إذا" وأخرجه الطبراني في آخر حديث سراقة ولفظه: "فقال يا رسول الله ففيم العمل؟ قال كل ميسر لعمله، قال: الآن الجد الآن الجد" وفي آخر حديث عمر عند الفريابي "فقال عمر ففيم العمل إذا؟ قال: كل لا ينال إلا بالعمل، قال عمر: إذا نجتهد" وأخرج الفريابي بسند صحيح إلى بشير بن كعب أحد كبار التابعين قال: "سأل غلامان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيم العمل: فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم شيء نستأنفه؟ قال: بل فيما جفت به الأقلام، قالا: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما هو عامل، قالا: فالجد الآن" وفي الحديث جواز القعود عند القبور والتحدث عندها بالعلم والموعظة. وقال المهلب: نكته الأرض بالمخصرة أصل في تحريك الأصبع في التشهد نقله ابن بطال، وهو بعيد، وإنما هي عادة لمن يتفكر في شيء يستحضر معانيه، فيحتمل أن يكون ذلك تفكرا منه صلى الله عليه وسلم في أمر الآخرة بقرينة حضور الجنازة، ويحتمل أن يكون فيما
(11/497)

أبداه بعد ذلك لأصحابه من الحكم المذكورة، ومناسبته للقصة أن فيه إشارة إلى التسلية عن الميت بأنه مات بفراغ أجله. وهذا الحديث أصل لأهل السنة في أن السعادة والشقاء بتقدير الله القديم، وفيه رد على الجبرية لأن التيسير ضد الجبر لأن الجبر لا يكون إلا عن كره ولا يأتي الإنسان الشيء بطريق التيسير إلا وهو غير كاره له. واستدل به على إمكان معرفة الشقي من السعيد في الدنيا كمن اشتهر له لسان صدق وعكسه لأن العمل أمارة على الجزاء على ظاهر هذا الخبر، ورد بما تقدم في حديث ابن مسعود، وأن هذا العمل الظاهر قد ينقلب لعكسه على وفق ما قدر، والحق أن العمل علامة وأمارة، فيحكم بظاهر الأمر وأمر الباطن إلى الله تعالى. قال الخطابي: لما أخبر صلى الله عليه وسلم عن سبق الكائنات رام من تمسك بالقدر أن يتخذه حجة في ترك العمل فأعلمهم أن هنا أمرين لا يبطل أحدهما بالآخر: باطن وهو العلة الموجبة في حكم الربوبية، وظاهر وهو العلامة اللازمة في حق العبودية، وإنما هي أمارة مخيلة في مطالعة علم العواقب غير مفيدة حقيقة، فبين لهم أن كلا ميسر لما خلق له، وأن عمله في العاجل دليل على مصيره في الآجل، ولذلك مثل بالآيات. ونظير ذلك الرزق مع الأمر بالكسب، والأجل مع الإذن في المعالجة. وقال في موضع آخر: هذا الحديث إذا تأملته وجدت فيه الشفاء مما يتخالج في الضمير من أمر القدر، وذلك أن القائل "أفلا نتكل وندع العمل" لم يدع شيئا مما يدخل في أبواب المطالبات والأسئلة إلا وقد طالب به وسأل عنه، فأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القياس في هذا الباب متروك والمطالبة ساقطة، وأنه لا يشبه الأمور التي عقلت معانيها وجرت معاملة البشر فيما بينهم عليها، بل طوى الله علم الغيب عن خلقه وحجبهم عن دركه كما أخفى عنهم أمر الساعة فلا يعلم أحد متى حين قيامها انتهى. وقد تقدم كلام ابن السمعاني في نحو ذلك في أول كتاب القدر. وقال غيره: وجه الانفصال عن شبهة القدرية أن الله أمرنا بالعمل فوجب علينا الامتثال، وغيب عنا المقادير لقيام الحجة، ونصب الأعمال علامة على ما سبق مشيئته. فمن عدل عنه ضل وتاه لأن القدر سر من أسرار الله لا يطلع عليه إلا هو، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة كشف لهم عنه حينئذ. وفي أحاديث هذا الباب أن أفعال العباد وإن صدرت عنهم لكنها قد سبق علم الله بوقوعها بتقديره، ففيها بطلان قول القدرية صريحا، والله أعلم.
(11/498)