بَاب {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} قَضَى
 
قَالَ مُجَاهِدٌ بِفَاتِنِينَ بِمُضِلِّينَ إِلاَّ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَصْلَى الْجَحِيمَ
{قَدَّرَ فَهَدَى} قَدَّرَ الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ وَهَدَى الأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا
6619- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ "أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّاعُونِ فَقَالَ "كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مَا مِنْ عَبْدٍ يَكُونُ فِي بَلَدٍ يَكُونُ فِيهِ وَيَمْكُثُ فِيهِ لاَ يَخْرُجُ مِنْ الْبَلَدِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يُصِيبُهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ"
قوله: "باب قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، قضى" فسر كتب بقضى وهو أحد معانيها، وبه جزم الطبري في تفسيرها. وقال الراغب: ويعبر بالكتابة عن القضاء الممضى كقوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} أي فيما قدره، ومنه {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقوله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} يعني ما قدره وقضاه،
(11/514)

قال: وعبر بقوله لنا ولم يعبر بقوله علينا تنبيها على أن الذي يصيبنا نعده نعمة لا نقمة، قلت: ويؤيد هذا الآية التي تليها حيث قال: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} وقد تقدم في تفسيره أن المراد الفتح أو الشهادة وكل منهما نعمة. قال ابن بطال: وقد قيل إن هذه الآية وردت فيما أصاب العباد من أفعال الله التي اختص بها دون خلقه ولم يقدرهم على كسبها دون ما أصابوه مكتسبين له مختارين. قلت: والصواب التعميم وأن ما يصيبهم باكتسابهم واختيارهم هو مقدور لله تعالى وعن إرادته وقع، والله أعلم. قوله: "قال مجاهد {بفاتنين} بمضلين، إلا من كتب الله أنه يصلى الجحيم" وصله عبد بن حميد بمعناه من طريق إسرائيل عن منصور في قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} قال لا يفتنون إلا من كتب عليه الضلالة، ووصله أيضا من طريق شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظه، وأخرجه الطبري من تفسير ابن عبا من رواية علي بن أبي طلحة عنه بلفظ: "لا تضلون أنتم ولا أضل منكم إلا من قضيت عليه أنه صال الجحيم" ومن طريق حميد "سألت الحسن فقال: ما أنتم عليه بمضلين إلا من كان في علم الله أنه سيصلى الجحيم" ومن طريق عمر بن عبد العزيز قال في تفسير هذه الآية "إنكم والآلهة التي تعبدونها لستم بالذي تفتنون عليها إلا من قضيت أنه من سيصلى الجحيم". قوله: "قدر فهدى قدر الشقاء والسعادة، وهدى الأنعام لمراتعها" وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} قدر للإنسان الشقوة والسعادة وهدى الأنعام لمراتعها، وتفسير مجاهد هذا للمعنى لا للفظ وهو كقوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} قال الراغب: هداية الله للخلق على أربعة أضرب: الأول العامة لكل أحد بحسب احتماله وإليها أشار بقوله: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} والثاني الدعاء على ألسنة الأنبياء وإليها أشار بقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} والثالث التوفيق الذي يختص به من اهتدى وإليها أشار بقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} وقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} والرابع الهدايات في الآخرة إلى الجنة وإليها أشار بقوله: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} قال: وهذه الهدايات الأربع مرتبة فإنه من لا يحصل له الأولى لا تحصل له الثانية ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة ولا تحصل الرابعة إلا لمن حصلت له الثالثة ولا تحصل الثالثة إلا لمن حصلت له اللتان قبلها، وقد تحصل الأولى دون الثانية والثانية دون الثالثة، والإنسان لا يهدي أحدا إلا بالدعاء وتعريف الطرق دون بقية الأنواع المذكورة، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وإلى بقية الهدايات أشار بقوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} . حديث عائشة في الطاعون وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب الطب، والغرض من قوله فيه: يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له. "تنبيه": سند حديث عائشة هذا من ابتدائه إلى يحيى بن يعمر مراوزة، وقد سكن يحيى المذكور مرو مدة فلم يبق من رجال السند من ليس مروزيا إلا طرفاه البخاري وعائشة.
(11/515)

باب { وماكنا لنهتدي لولا أن هدنا الله - لو أن الله هاني لكنت من المتقين }
...