بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا}
 
(11/557)

6676- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ"
6677- "فَدَخَلَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالُوا كَذَا وَكَذَا قَالَ فِيَّ أُنْزِلَتْ كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ قُلْتُ إِذًا يَحْلِفُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ "لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"
قوله: "باب قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ} الآية" كذا لأبي ذر وساق في رواية كريمة إلى قوله: "عذاب أليم" وقد سبق تفسير العهد قبل خمسة أبواب، ويستفاد من الآية أن العهد غير اليمين لعطف اليمين عليه، ففيه حجة على من احتج بها بأن العهد يمين، واحتج بعض المالكية بأن العرف جرى على أن العهد والميثاق والكفالة والأمانة أيمان لأنها من صفات الذات، ولا يخفي ما فيه. قال ابن بطال: وجه الدلالة أن الله خص العهد بالتقدمة على سائر الأيمان فدل على تأكد الحلف به لأن عهد الله ما أخذه على عباده وما أعطاه عباده كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآية لأنه قدم على ترك الوفاء به. قوله: "وقول الله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} كذا لأبي ذر. وفي رواية غيره: "وقوله جل ذكره": قال ابن التين وغيره: اختلف في معناه فعن زيد بن أسلم: لا تكثروا الحلف بالله وإن كنتم بررة، وفائدة ذلك إثبات الهيبة في القلوب، ويشير إليه قوله: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} وعن سعيد بن جبير: هو أن يحلف أن لا يصل رحمه مثلا فيقال له صل، فيقول قد حلفت وعلى هذا فمعنى قوله أن تبروا كراهة أن تبروا فينبغي أن يأتي الذي هو خير ويكفر انتهى. وقد أخرجه الطبري من طريق على بن أبي طلحة عن ابن عباس ولفظه: "لا تجعل الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفر واصنع الخير" وقيل هو أن يحلف أن يفعل نوعا من الخير تأكيدا له بيمينه فنهى عن ذلك حكاه الماوردي، وهو شبيه النهي عن النذر كما سيأتي نظيره، وعلى هذا فلا يحتاج إلى تقدير لا، قال الراغب وغيره: العرضة ما يجعل معرضا لشيء آخر كما قالوا بعير عرضة للسفر، ومنه قول الشاعر "ولا يجعلني عرضة للوائم" ويقولون فلان عرضة للناس أي يقعون فيه، وفلانة عرضة للنكاح إذا صلحت له وقويت عليه، وجعلت فلانا عرضة في كذا أي أقمته فيه، وتطلق العرضة أيضا على الهمة كقول حسان "هي الأنصار عرضتها اللقاء". قوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً - إلى قوله:- وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} هكذا وقع في رواية أبي ذر، وسقط ذلك لجميعهم، ووقع فيه تقديم وتأخير، والصواب قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً -إلى قوله- وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} وقد وقع في رواية النسفي بعد قوله عرضة لأيمانكم ما نصه "وقوله {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} الآية وقوله {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} الآية "وقد مشى شرح ابن بطال على ما وقع عند أبي ذر فقال: في هذا دليل على تأكيد لوفاء بالعهد لأن الله تعالى قال ولا تنقضوا الأيمان
(11/558)

بعد توكيدها، ولم يتقدم غير ذلك العهد فعلم أنه يمين. ثم ظهر لي أنه أراد ما وقع قبل قوله: "ولا تنقضوا" وهو قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} لكن لا يلزم من عطف الأيمان على العهد أن يكون العهد يمينا بل هو كالآية السابقة {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} فالآيات كلها دالات على تأكيد الوفاء بالعهد، وأما كونه يمينا فشيء آخر، ولعل البخاري أشار إلى ذلك، وقد تقدم كلام الشافعي "من حلف بعهد الله" قبل خمسة أبواب، وقوله: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} أي شهيدا في العهد أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير. وأخرج عن مجاهد قال: يعني وكيلا، واستدل بقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} على أن اليمين الغموس لا كفارة فيها لأن ابن عباس فسرها بأن الرجل يحلف أن لا يصل قرابته فجعل الله له مخرجا في التكفير وأمره أن يصل قرابته ويكفر عن يمينه ولم يجعل لحالف الغموس مخرجا كذا قال، وتعقبه الخطابي بأنه لا يدل على ترك الكفارة في اليمين الغموس بل قد يدل لمشروعيتها. قوله: "حدثنا موسى بن إسماعيل" هو التبوذكي. قوله: "حدثنا أبو عوانة" هو الوضاح، وقد تقدم عن موسى هذا بعض هذا الحديث بدون قصة الأشعث في الشهادات لكن عن عبد الواحد وهو ابن زياد بدل أبي عوانة فالحديث عند موسى المذكور عنهما جميعا. قوله: "عن أبي وائل" هو شقيق بن سلمة، وقد تقدم في الشرب من رواية أبي حمزة وهو السكري، وفي الأشخاص من رواية أبي معاوية كلاهما عن الأعمش عن شقيق، وقد تقدم قريبا من رواية شعبة عن سليمان وهو الأعمش، ويستفاد منه أنه مما لم يدلس فيه الأعمش فلا يضر مجيئه عنه بالعنعنة. قوله: "عن عبد الله" في تفسير آل عمران عن حجاج بن منهال عن أبي عوانة بهذا السند عن عبد الله بن مسعود. قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا وقع التصريح بالرفع في رواية الأعمش، ولم يقع ذلك في رواية منصور الماضية في الشهادات وفي الرهن، ووقع مرفوعا في رواية شعبة الماضية قريبا عن منصور والأعمش جميعا. قوله: "من حلف على يمين صبر" بفتح الصاد وسكون الموحدة، ويمين الصبر هي التي تلزم ويجبر عليها حالفها يقال أصبره اليمين أحلفه بها في مقاطع الحق، زاد أبو حمزة عن الأعمش "هو بها فاجر" وكذا للأكثر. وفي رواية أبي معاوية "هو عليها فاجر ليقتطع" وكأن فيها حذفا تقديره هو في الإقدام عليها، والمراد بالفجور لازمه وهو الكذب، وقد وقع في رواية شعبة "على يمين كاذبة". قوله: "يقتطع بها مال امرئ مسلم" في رواية حجاج بن منهال "ليقتطع بها" بزيادة لام تعليل ويقتطع يفتعل من القطع كأنه قطعه عن صاحبه أو أخذ قطعة من ماله بالحلف المذكور. قوله: "لقي الله وهو عليه غضبان" في حديث وائل بن حجر عند مسلم: "وهو عنه معرض" وفي رواية كردوس عن الأشعث عند أبي داود "إلا لقي الله وهو أجذم" وفي حديث أبي أمامة بن ثعلبة عند مسلم والنسائي نحوه في هذا الحديث: "فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة" وفي حديث عمران عند أبي داود "فليتبوأ مقعده من النار". قوله: "فأنزل الله تصديق ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} كذا في رواية الأعمش ومنصور، ووقع في رواية جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين عند مسلم والترمذي وغيرهما جميعا عن أبي وائل عن عبد الله "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه" الحديث ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} فذكر هذه الآية، ولولا التصريح في رواية الباب بأنها نزلت في ذلك لكان ظاهر هذه الرواية أنها نزلت قبل ذلك، وقد تقدم في تفسير آل عمران أنها نزلت فيمن أقام سلعته بعد العصر فحلف كاذبا، وتقدم أنه يجوز
(11/559)

أنها نزلت في الأمرين معا. وقال الكرماني: لعل الآية لم تبلغ ابن أبي أوفى إلا عند إقامته السلعة فظن أنها نزلت في ذلك، أو أن القصتين وقعتا في وقت واحد فنزلت الآية، واللفظ عام متناول لهما ولغيرهما.
قوله: "فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن"؟ كذا وقع عند مسلم من رواية وكيع عن الأعمش، وأبو عبد الرحمن هي كنية ابن مسعود. وفي رواية جرير في الرهن "ثم إن الأشعث بن قيس خرج إلينا فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن" والجمع بينهما أنه خرج عليهم من مكان كان فيه فدخل المكان الذي كانوا فيه. وفي رواية الثوري عن الأعمش ومنصور جميعا -كما سيأتي في الأحكام- فجاء الأشعث وعبد الله يحدثهم، ويجمع بأن خروجه من مكانه الذي كان فيه إلى المكان الذي كان فيه عبد الله وقع وعبد الله يحدثهم فلعل الأشعث تشاغل بشيء فلم يدرك تحديث عبد الله فسأل أصحابه عما حدثهم به. قوله: "فقالوا كذا وكذا" في رواية جرير "فحدثناه" وبين شعبة في روايته أن الذي حدثه بما حدثهم به ابن مسعود هو أبو وائل الراوي ولفظه في الأشخاص "قال فلقيني الأشعث فقال: ما حدثكم عبد الله اليوم؟ قلت كذا وكذا" وليس بين قوله فلقيني وبين قوله في الرواية خرج إلينا فقال ما يحدثكم منافاة، وإنما انفرد في هذه الرواية لكونه المجيب. قوله: "قال في أنزلت" رواية جرير "قال فقال صدق، لفي والله أنزلت" واللام لتأكيد القسم دخلت على في، ومراده أن الآية ليست بسب خصومته التي يذكرها. وفي رواية أبي معاوية "في والله كان ذلك" وزاد جرير عن منصور "صدق" قال ابن مالك "لفي والله نزلت": شاهد على جواز توسط القسم بين جزءي الجواب، وعلى أن اللام يجب وصلها بمعمولي الفعل الجوابي المتقدم لا بالفعل. قوله: "كان لي" في رواية الكشميهني: "كانت". قوله: "بئر" في رواية أبي معاوية "أرض" وادعى الإسماعيلي في الشرب أن أبا حمزة تفرد بقوله: "في بئر" وليس كما قال فقد وافقه أبو عوانة كما ترى، وكذا يأتي في الأحكام من رواية الثوري عن الأعمش ومنصور جميعا، ومثله في رواية شعبة الماضية قريبا عنهم لكن بين أن ذلك في حديث الأعمش وحده، ووقع في رواية جرير عن منصور "في شيء" ولبعضهم "في بئر" ووقع عند أحمد من طريق عاصم عن شقيق أيضا: "في بئر". قوله: "في أرض ابن عم لي" كذا للأكثر أن الخصومة كانت في بئر يدعيها الأشعث في أرض لخصمه. وفي رواية أبي معاوية "كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني" ويجمع بأن المراد أرض البئر لا جميع الأرض التي هي أرض البئر والبئر من جملتها، ولا منافاة بين قوله ابن عم لي وبين قوله من اليهود لأن جماعة من اليمن كانوا تهودوا لما غلب يوسف ذو نواس على اليمن فطرد عنها الحبشة فجاء الإسلام وهم على ذلك، وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في أوائل السيرة النبوية مبسوطا، وقد تقدم في الشرب أن اسم ابن عمه المذكور الخفشيش بن معدان بن معد يكرب، وبينت الخلاف في ضبط الخفشيش وأنه لقب واسمه جرير وقيل معدان حكاه ابن طاهر، والمعروف أنه اسم كنيته أبو الخير. وأخرج الطبراني من طريق الشعبي عن الأشعث قال: "خاصم رجل من الحضرميين رجلا منا يقال له الخفشيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: للحضرمي جيء بشهودك على حقك وإلا حلف لك" الحديث. قلت: وهذا يخالف السياق الذي في الصحيح، فإن كان ثابتا حمل على تعدد القصة، وقد أخرج أحمد والنسائي من حديث عدي بن عميرة الكندي قال: "خاصم رجل من كندة يقال له امرؤ القيس بن عابس الكندي رجلا من حضر موت في أرض" فذكر نحو قصة الأشعث وفيه: "إن مكنته من اليمين ذهبت أرضي. وقال من حلف" فذكر الحديث وتلا الآية، ومعد يكرب جد الخفشيش وهو جد
(11/560)

الأشعث بن قيس بن معد يكرب بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية، فهو ابن عمه حقيقة. ووقع في رواية لأبي داود من طريق كردوس عن الأشعث "أن رجلا من كندة ورجلا من حضر موت اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرص من اليمن" فذكر قصة تشبه قصة الباب إلا أن بينهما اختلافا في السياق، وأظنها قصة أخرى فإن مسلما أخرج من طريق علقمة بن وائل عن أبيه قال: "جاء رجل من حضر موت ورجل من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي" وإنما جوزت التعدد لأن الحضرمي يغاير الكندي لأن المدعي في حديث الباب هو الأشعث وهو الكندي جزما والمدعي في حديث وائل هو الحضرمي فافترقا، ويجوز أن يكون الحضرمي: نسب إلى البلد لا إلى القبيلة فإن أصل نسبة القبيلة كانت إلى البلد ثم اشتهرت النسبة إلى القبيلة، فلعل الكندي في هذه القصة كان يسكن حضر موت فنسب إليها والكندي لم يسكنها فاستمر على نسبته. وقد ذكروا الخفشيش في الصحابة، واستشكله بعض مشايخنا لقوله في الطريق المذكورة قريبا إنه يهودي ثم قال يحتمل أنه أسلم. قلت: وتمامه أن يقال إنما وصفه الأشعث بذلك باعتبار ما كان عليه أولا، ويؤيد إسلامه أنه وقع في رواية كردوس عن الأشعث في آخر القصة أنه لما سمع الوعيد المذكور قال: هي أرضه، فترك اليمين تورعا، ففيه إشعار بإسلامه. ويؤيده أنه لو كان يهوديا ما بالى بذلك لأنهم يستحلون أموال المسلمين، وإلى ذنك وقعت الإشارة بقوله تعالى حكاية عنهم "ليس علينا في الأميين سبيل" أي حرج، ويؤيد كونه مسلما أرضا رواية الشعبي الآتية قريبا. قوله: "فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية الثوري "خاصمته" وفي رواية جرير عن منصور "فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية أبي معاوية "فجحدني فقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "فقال: بينتك أو يمينه" في رواية أبي معاوية "فقال: ألك بينة؟ فقلت: لا. فقال لليهودي: احلف" وفي رواية أبي حمزة "فقال لي: شهودك. قلت: ما لي شهود. قال: فيمينه" وفي رواية وكيع عند مسلم: "ألك عليه بينة" وفي رواية جرير عن منصور "شاهداك أو يمينه" وتقدم في الشهادات توجيه الرفع وأنه يجوز النصب، ويأتي نظيره في لفظ رواية الباب، ويجوز أن يكون توجيه الرفع: لك إقامة شاهديك أو طلب يمينه، فحذف فيهما المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فرفع، والأصل في هذا التقدير قول سيبويه المثبت لك ما تدعيه شاهداك، وتأويله المثبت لك هو شهادة شاهديك إلخ. قوله: "قلت إذا يحلف عليها يا رسول الله" لم يقع في رواية أبي حمزة ما بعد قوله: "يحلف" وتقدم في الشرب "أن يحلف" بالنص لوجود شرائطه من الاستقبال وغيره وأنه يجوز الرفع وذكر فيه توجيه ذلك، وزاد في رواية أبي معاوية "إذا يحلف ويذهب بمالي" ووقع في حديث وائل من الزيادة بعد قوله ألك بينة "قال لا قال فلك يمينه، قال إنه فاجر ليس يبالي ما حلف عليه وليس يتورع من شيء، قال ليس لك منه إلا ذلك" ووقع في رواية
(11/561)

الشعبي عن الأشعث قال: "أرضي أعظم شأنا أن يحلف عليها، فقال: إن يمين المسلم يدرا بها أعظم من ذلك". قوله: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف" فذكر مثل حديث ابن مسعود سواء وزاد: "وهو فيها فاجر" وقد بينت أن هذه الزيادة وقعت في حديث ابن مسعود عند أبي حمزة وغيره، وزاد أبو حمزة "فأنزل الله ذلك تصديقا له" أي لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقع في رواية منصور حديث: "من حلف" من رواية الأشعث بل اقتصر على قوله: "فأنزل الله" وساق الآية. ووقع في رواية كردوس عن الأشعث "فتهيأ الكندي لليمين" وفي حديث وائل "فانطلق ليحلف، فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" الحديث. ووقع في رواية الشعبي عن الأشعث "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هو حلف كاذبا أدخله الله النار. فذهب الأشعث فأخبره القصة فقال: أصلح بيني وبينه، قال فأصلح بينهما" وفي حديث عدي بن عميرة "فقال له أمرؤ القيس: ما لمن تركها يا رسول الله؟ قال: الجنة. قال أشهد أني قد تركتها له كلها" وهذا يؤيد ما أشرت إليه من تعدد القصة. وفي الحديث سماع الحاكم الدعوى فيما لم يره إذا وصف وحدد وعرفه المتداعيان، لكن لم يقع في الحديث تصريح بوصف ولا تحديد، فاستدل به القرطبي على أن الوصف والتحديد ليس بلازم لذاته بل يكفي في صحة الدعوى تمييز المدعي به تمييزا ينضبط به. قلت: ولا يلزم من ترك ذكر التحديد والوصف في الحديث أن لا يكون ذلك وقع، ولا يستدل بسكوت الراوي عنه بأنه لم يقع بل يطالب من جعل ذلك شرطا بدليله فإذا ثبت حمل على أنه ذكر في الحديث ولم ينقله الراوي. وفيه أن الحاكم يسأل المدعي هل له بينة؟ وقد ترجم بذلك في الشهادات "وأن البينة على المدعي في الأموال كلها" واستدل به لمالك في قوله إن من رضى بيمين غريمه ثم أراد إقامة البينة بعد حلفه أنها لا تسمع إلا إن أتي بعذر يتوجه له في ترك إقامتها قبل استحلافه، قال ابن دقيق العيد: ووجهه أن "أو" تقتضي أحد الشيئين. فلو جاز إقامة البينة بعد الاستحلاف لكان له الأمران معا والحديث يقتضي أنه ليس له إلا أحدهما، قال: وقد يجاب بأن المقصود من هذا الكلام نفي طريق أخرى لإثبات الحق فيعود المعنى إلى حصر الحجة في البينة واليمين. ثم أشار إلى أن النظر إلى اعتبار مقاصد الكلام وفهمه يضعف هذا الجواب، قال وقد يستدل الحنفية به في ترك العمل بالشاهد واليمين في الأموال. قلت: والجواب عنه بعد ثبوت دليل العمل بالشاهد واليمين أنها زيادة صحيحة يجب المصير إليها لثبوت ذلك بالمنطوق وإنما يستفاد نفيه من حديث الباب بالمفهوم، واستدل به على توجيه اليمين في الدعاوي كلها على من ليست له بينة. وفيه بناء الأحكام على الظاهر وإن كان المحكوم له في نفس الأمر مبطلا. وفيه دليل للجمهور أن حكم الحاكم لا يبيح للإنسان ما لم يكن حلالا له خلافا لأبي حنيفة كذا أطلقه النووي، وتعقب بأن ابن عبد البر نقل الإجماع على أن الحكم لا يحل حراما في الباطن في الأموال. قال: واختلفوا في حل عصمة نكاح من عقد عليها بظاهر الحكم وهي في الباطن بخلافه فقال الجمهور: الفروج كالأموال. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وبعض المالكية: إن ذلك إنما هو في الأموال دون الفروج، وحجتهم في ذلك اللعان انتهى. وقد طرد ذلك بعض الحنفية في بعض المسائل في الأموال والله أعلم. وفيه التشديد على من حلف باطلا ليأخذ حق مسلم، وهو عند الجميع محمول على من مات على غير توبة صحيحة، وعند أهل السنة محمول على من شاء الله أن يعذبه كما تقدم تقريره مرارا وآخرها في الكلام على حديث أبي ذر في كتاب الرقاق، وقوله: "ولا ينظر الله إليه" قال في الكشاف: هو كناية عن عدم الإحسان إليه عند من يجوز عليه النظر، مجاز عند من لا يجوزه، والمراد بترك التزكية ترك الثناء عليه وبالغضب إيصال الشر إليه وقال المازري: ذكر بعض أصحابنا أن فيه دلالة على أن صاحب اليد أولى بالمدعي فيه. وفيه التنبيه على صورة الحكم في هذه الأشياء لأنه بدأ بالطالب فقال ليس لك إلا يمين الآخر، ولم يحكم بها للمدعى عليه إذا حلف بل إنما جعل اليمين تصرف دعوى المدعي لا غير، ولذلك ينبغي للحاكم إذا حلف المدعى عليه أن لا يحكم له بملك المدعى فيه ولا بحيازته بل يقره على حكم يمينه، واستدل به على أنه لا يشترط في المتداعيين أن يكون بينهما اختلاط أو يكونا ممن يتهم بذلك ويليق به لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المدعى عليه هنا بالحلف بعد أن سمع الدعوى ولم يسأل عن حالهما، وتعقب بأنه ليس فيه التصريح بخلاف ما ذهب إليه من قال به من المالكية
(11/562)

لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم من حاله ما أغناه عن السؤال فيه وقد قال خصمه عنه إنه فاجر لا يبالي ولا يتورع عن شيء ولم ينكر عليه ذلك ولو كان بريئا مما قال لبادر للإنكار عليه، بل في بعض طرق الحديث ما يدل على أن الغصب المدعى به وقع في الجاهلية ومثل ذلك تسمع الدعوى بيمينه فيه عندهم. وفي الحديث أيضا أن يمين الفاجر تسقط عنه الدعوى، وأن فجوره في دينه لا يوجب الحجر عليه ولا إبطال إقراره ولولا ذلك لم يكن لليمين معنى، وأن المدعى عليه إن أقر أن أصل المدعي لغيره لا يكلف لبيان وجه مصيره إليه ما لم يعلم إنكاره لذلك يعني تسليم المطلوب له ما قال، قال: وفيه أن من جاء بالبينة قضى له بحقه من غير يمين لأنه محال أن يسأله عن البينة دون ما يجب له الحكم به، ولو كانت اليمين من تمام الحكم له لقال له بينتك ويمينك على صدقها، وتعقب بأنه لا يلزم من كونه لا يحلف مع بينته على صدقها فيما شهدت أن الحكم له لا يتوقف بعد البينة على حلفه بأنه ما خرج عن ملكه ولا وهبه مثلا وأنه يستحق قبضه، فهذا وإن كان لم يذكر في الحديث فليس في الحديث ما ينفيه، بل فيه ما يشعر بالاستغناء عن ذكر ذلك لأن في بعض طرقه أن الخصم اعترف وسلم المدعى به للمدعي فأغنى ذلك عن طلبه يمينه، والغرض أن المدعي ذكر أنه لا بينة له فلم تكن اليمين إلا في جانب المدعى عليه فقط. وقال القاضي عياض: وفي هذا الحديث من الفوائد أيضا البداءة بالسماع من الطالب ثم من المطلوب هل يقر أو ينكر، ثم طلب البينة من الطالب إن أنكر المطلوب، ثم توجيه اليمين على المطلوب إذا لم يجد الطالب البينة، وأن الطالب إذا ادعى أن المدعى به في يد المطلوب فاعترف استغنى عن إقامة البينة بأن يد المطلوب عليه، قال: وذهب بعض العلماء إلى أن كل ما يجرى بين المتداعيين من تساب بخيانة وفجور هدر لهذا الحديث، وفيه نظر لأنه إنما نسبه إلى الغصب في الجاهلية وإلى الفجور وعدم التوقي في الأيمان في حال اليهودية فلا يطرد ذلك في حق كل أحد. وفيه موعظة الحاكم المطلوب إذا أراد أن يحلف خوفا من أن يحلف باطلا فيرجع إلى الحق بالموعظة. واستدل به القاضي أبو بكر بن الطيب في سؤال أحد المتناظرين صاحبه عن مذهبه فيقول له ألك دليل على ذلك؟ فإن قال نعم سأله عنه ولا يقول له ابتداء ما دليلك على ذلك؟ ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم قال للطالب: ألك بينة. ولم يقل له قرب بينتك. وفيه إشارة إلى أن لليمين مكانا يختص به لقوله في بعض طرقه: "فانطلق ليحلف" وقد عهد في عهده صلى الله عليه وسلم الحلف عند منبره، وبذلك احتج الخطابي فقال: كانت المحاكمة والنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فانطلق المطلوب ليحلف فلم يكن انطلاقه إلا إلى المنبر لأنه كان في المسجد فلا بد أن يكون انطلاقه إلى موضع أخص منه. وفيه أن الحالف يحلف قائما لقوله: "فلما قام ليحلف" وفيه نظر لأن المراد بقوله قام ما تقدم من قوله انطلق ليحلف، واستدل به الشافعي أن من أسلم وبيده مال لغيره أنه يرجع إلى مالكه إذا أثبته، وعن المالكية اختصاصه بما إذا كان المال لكافر، وأما إذا كان لمسلم وأسلم عليه الذي هو بيده فإنه يقر بيده والحديث حجة عليهم. ومال ابن المنير في الحاشية: يستفاد منه أن الآية المذكورة في هذا الحديث نزلت في نقض العهد، وأن اليمين الغموس لا كفارة فيها لأن نقض العهد لا كفارة فيه، كذا قال، وغايته أنها دلالة اقتران. وقال النووي يدخل في قوله: "من اقتطع حق امرئ مسلم" من حلف على غير مال كجلد الميتة والسرجين وغيرهما مما ينتفع به، وكذا سائر الحقوق كنصيب الزوجة بالقسم، وأما التقييد بالمسلم فلا يدل على عدم تحريم حق الذمي بل هو حرام أيضا، لكن لا يلزم أن يكون فيه هذه العقوبة العظيمة، وهو تأويل حسن لكن ليس في الحديث المذكور دلالة على تحريم حق الذمي بل ثبت بدليل آخر. والحاصل أن المسلم والذمي
(11/563)

لا يفترق الحكم في الأمر فيهما في اليمين الغموس والوعيد عليها، وفي أخذ حقهما باطلا وإنما يفترق قدر العقوبة بالنسبة إليهما، قال: وفيه غلظ تحريم حقوق المسلمين، وأنه لا فرق بين قليل الحق وكثيره في ذلك، وكأن مراده عدم الفرق في غلط التحريم لا في مراتب الغلظ، وقد صرح ابن عبد السلام في "القواعد" بالفرق بين القليل والكثير وكذا بين ما يترتب عليه كثير المفسدة وحقيرها، وقد ورد الوعيد في الحالف الكاذب في حق الغير مطلقا في حديث أبي ذر "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم" الحديث، وفيه: "والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" أخرجه مسلم، وله شاهد عند أحمد وأبي داود والترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ: "ورجل حلف على سلعته بعد العصر كاذبا".
(11/564)

باب اليمين فيما لا يمللك ، وفي المعصية ، وفي الغضب
...