باب قول الله تعالى { و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما } و في كم يقطع؟ 2
 
الزهري مرارا، وأما ابن عيينة فإنما سمع منه سنة ثلاث وعشرين ومائة ورجع الزهري فمات في التي بعدها، ولو سلم أن ابن عيينة أرجح في الزهري من يونس فلا معارضة بين روايتيهما فتكون عائشة أخبرت بالفعل والقول معا وقد وافق الزهري في الرواية عن عمرة جماعة كما سبق، وقد وقع الطحاوي فيما عابه على من احتج بحديث الزهري مع اضطرابه على رأيه فاحتج بحديث محمد بن إسحاق عن أيوب ابن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال: "قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم " أخرجه أبو داود واللفظ له وأحمد والنسائي والحاكم، ولفظ الطحاوي " كان قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم " وهو أشد في الاضطراب من حديث الزهري فقيل عنه هكذا وقيل عنه عن عمرو بن شعيب عن عطاء عن ابن عباس وقيل عنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولفظه: "كانت قيمة المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم " وقيل عنه عن عمرو عن عطاء مرسلا وقيل عن عطاء عن أيمن " أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته دينار " كذا قال منصور والحكم بن عتيبة عن عطاء وقيل عن منصور عن مجاهد وعطاء جميعا عن أيمن وقيل عن مجاهد عن أيمن بن أم أيمن عن أم أيمن قالت: "لم يقطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن المجن وثمنه يومئذ دينار " أخرجه النسائي، ولفظ الطحاوي " لا تقطع يد السارق إلا في حجفة وقومت يومئذ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا أو عشرة دراهم " وفي لفظ له " أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن المجن، وكان يقوم يومئذ بدينار " واختلف في لفظه أيضا على عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فقال حجاج ابن أرطاة عنه بلفظ: "لا قطع فيما دون عشرة دراهم " وهذه الرواية لو ثبتت لكانت نصا في تحديد النصاب إلا أن حجاج بن أرطاة ضعيف ومدلس حتى ولو ثبتت روايته لم تكن مخالفة لرواية الزهري بل يجمع بينهما بأنه كان أولا لا قطع فيما دون العشرة ثم شرع القطع في الثلاثة فما فوقها فزيد في تغليظ الحد كما زيد في تغليظ حد الخمر كما تقدم، وأما سائر الروايات فليس فيها إلا إخبار عن فعل وقع في عهده صلى الله عليه وسلم وليس فيه تحديد النصاب فلا ينافي رواية ابن عمر الآتية أنه " قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم " وهو مع كونه حكاية فعل فلا يخالف حديث عائشة من رواية الزهري فإن ربع دينار صرفه ثلاثة دراهم، وقد أخرج البيهقي من طريق ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن سليمان بن يسار عن عمرة قالت: "قيل لعائشة ما ثمن المجن؟ قالت ربع دينار " وأخرج أيضا من طريق ابن إسحاق عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: "أتيت بنبطي قد سرق فبعثت إلى عمرة فقالت: أي بني إن لم يكن بلغ ما سرق ربع دينار فلا تقطعه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثتني عائشة أنه قال: "لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا" فهذا يعارض حديث ابن إسحاق الذي اعتمده الطحاوي وهو من رواية ابن إسحاق أيضا، وجمع البيهقي بين ما اختلف في ذلك عن عائشة بأنها كانت تحدث به تارة وتارة تستفتي فتفتى، واستند إلى ما أخرجه من طريق عبد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة " أن جارية سرقت، فسئلت عائشة فقالت: القطع في ربع دينار فصاعدا". الطريق الثاني لحديث عائشة قوله: "حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبدة" هو ابن سليمان ثم قال: "حدثنا عثمان حدثنا حميد بن عبد الرحمن" وقد أخرجه مسلم عن عثمان هذا قال: "حدثنا عبدة بن سليمان وحميد بن عبد الرحمن " جمعهما وضمهما إلا غيرهما فقال: "كلهم عن هشام " وحميد بن عبد الرحمن هذا هو الرؤاسي بضم الراء ثم همزة خفيفة ثم سين مهملة، وقد أخرجه مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير عنه ونسبه كذلك. قوله: "عن أبيه أخبرتني عائشة أن يد السارق لم تقطع إلخ" وقع عند الإسماعيلي من طريق هارون ابن إسحاق عن عبدة
(12/103)

ابن سليمان فيه زيادة قصة في السند ولفظه عن هشام بن عروة "أن رجلا سرق قدحا فأتى به عمر بن عبد العزيز فقال هشام بن عروة قال أبي إن اليد لا تقطع في الشيء التافه" ثم قال: "حدثتني عائشة" وهكذا أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن عبدة بن سليمان، وهكذا رواه وكيع وغيره عن هشام لكن أرسله كله. قوله: "لم يقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن مجن حجفة أو ترس" المجن بكسر الميم وفتح الجيم مفعل من الاجتنان وهو الاستتار مما يحاذره المستتر وكسرت ميمه لأنه آلة في ذلك، والحجفة بفتح المهملة والجيم ثم فاء هي الدرقة وقد تكون من خشب أو عظم وتغلف بالجلد أو غيره، والترس مثله لكن يطارق فيه بين جلدين وقيل هما بمعنى واحد، وعلى الأول " أو " في الخبر للشك وهو المعتمد ويؤيده رواية عبد الله بن المبارك عن هشام التي تلي رواية حميد بن عبد الرحمن بلفظ: "في أدنى ثمن حجفة أو ترس كل واحد منهما ذو ثمن " والتنوين في قوله: "ثمن " للتكثير والمراد أنه ثمن يرغب فيه، فأخرج الشيء التافه كما فهمه عروة راوي الخبر وليس المراد ترسا بعينه ولا حجفة بعينها وإنما المراد الجنس وأن القطع كان يقع في كل شيء يبلغ قدر ثمن المجن سواء كان ثمن المجن كثيرا أو قليلا، والاعتماد إنما هو على الأقل فيكون نصابا ولا يقطع فيما دونه، ورواية أبي أسامة عن هشام جامعة بين الروايتين المذكورتين أولا، وقوله فيها "كان كل واحد منهما ذا ثمن" كذا ثبت في الأصول، وأفاد الكرماني أنه وقع في بعض النسخ "وكان كل واحد منهما ذو ثمن" بالرفع وخرجه على تقدير ضمير الشأن في كان. قوله: "رواه وكيع وابن إدريس عن هشام عن أبيه مرسلا" أما رواية وكيع فأخرجها ابن أبي شيبة في مصنفه عنه ولفظه عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "كان السارق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقطع في ثمن المجن وكان المجن يومئذ له ثمن ولم يكن يقطع في الشيء التافه " وأما رواية ابن إدريس وهو عبد الله الأودي الكوفي فأخرجها الدار قطني في " العلل " والبيهقي من طريق يوسف بن موسى عن جرير وعبد الله بن إدريس ووكيع ثلاثتهم عن هشام عن أبيه " أن يد السارق لم تقطع " فذكر مثل سياق أبي أسامة سواء وزاد: "ولم يكن يقطع في الشيء التافه " وقرأت بخط مغلطاي وتبعه شيخنا ابن الملقن أن رواية ابن إدريس عند عبد الرزاق عنه فيما ذكره الطبراني في " الأوسط " كذا قال الإسماعيلي، ووصله أيضا عن هشام عمر بن علي المقدمي وعثمان الغطفاني وعبد الله بن قبيصة الفزاري، وأرسله أيضا عبد الرحيم بن سليمان وحاتم بن إسماعيل وجرير. قلت: وقد ذكرت رواية جرير، وأما عبد الرحيم فاختلف عليه فقيل عنه مرسلا ووصله عنه أبو بكر بن أبي شيبة أخرجه مسلم. "تنبيه": لم تختلف الرواة عن هشام بن عروة عن أبيه في هذا المتن، وأما الزهري فاختلف عليه في سنده ولم يختلف عليه في المتن أيضا كما تقدم وهو حافظ فيحتمل أن يكون عروة حدثه به على الوجهين كما تقدم، ويحتمل أن يكون لفظ عروة هو الذي حفظه هشام عنه، وحمل يونس حديث عروة على حديث عمرة فساقه على لفظ عمرة وهذا يقع لهم كثيرا، ويشهد للأول أن النسائي أخرجه من طريق حفص بن حسان عن يونس عن الزهري عن عروة وحده عن عائشة بلفظ رواية ابن عيينة، ورواه أيضا من رواية القاسم بن مبرور عن يونس بهذا السند لكن لفظ المتن "أو نصف دينار فصاعدا" وهي رواية شاذة. الحديث الثاني حديث ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم" أورده من حديث مالك، قال ابن حزم لم يروه عن ابن عمر إلا نافع، وقال ابن عبد البر هو أصح حديث روي في ذلك. قوله: "تابعه محمد بن إسحاق" يعني عن نافع أي في قوله: "ثمنه" وروايته موصولة عند الإسماعيلي من
(12/104)

طريق عبد الله بن المبارك عن مالك ومحمد بن إسحاق وعبيد الله بن عمر ثلاثتهم عن نافع "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم " وقد أخرجه المؤلف رحمه الله من رواية جويرية وهو ابن أسماء مثل هذا السياق سواء، ومن رواية عبيد الله وهو ابن عمر أي العمري مثله، ومن رواية موسى بن عقبة عن نافع بلفظ: "قطع النبي صلى الله عليه وسلم يد سارق" مثله. قوله: "وقال الليث حدثني نافع قيمته" يعني أن الليث رواه عن نافع كالجماعة لكن قال: "قيمته" بدل قولهم "ثمنه" ورواية الليث وصلها مسلم عن قتيبة ومحمد بن رمح عن الليث عن نافع عن ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم " وأخرجه مسلم أيضا من رواية سفيان الثوري عن أبي أيوب السختياني وأيوب بن موسى وإسماعيل بن أمية، ومن رواية ابن وهب عن حنظلة بن أبي سفيان ومالك وأسامة بن زيد كلهم عن نافع، قال بعضهم ثمنه وقال بعضهم قيمته، هذا لفظ مسلم ولم يميز، وقد أخرجه أبو داود من رواية ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية عن نافع ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد رجل سرق ترسا من صيغة النساء ثمنه ثلاثة دراهم " وأخرجه النسائي من رواية ابن وهب عن حنظلة وحده بلفظ: "ثمنه" ومن طريق مخلد بن يزيد عن حنظلة بلفظ: "قيمته" فوافق الليث في قوله: "قيمته " لكن خالف الجميع فقال: "خمسة دراهم" وقول الجماعة "ثلاثة دراهم" هو المحفوظ، وقد أخرجه الطحاوي من طريق عبيد الله بن عمر بلفظ: "قطع في مجن قيمته " ومن رواية أيوب ومن رواية مالك قال مثله، ومن رواية ابن إسحاق بلفظ: "أتى برجل سرق حجفة قيمتها ثلاثة دراهم فقطعه". "تنبيه": قوله: "قطع" معناه أمر لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يباشر القطع بنفسه " وقد تقدم في الباب قبله أن بلالا هو الذي باشر قطع يد المخزومية، فيحتمل أن يكون هو الذي كان موكلا بذلك ويحتمل غيره وقوله: "قيمته " قيمة الشيء ما تنتهي إليه الرغبة فيه، وأصله قومة فأبدلت الواو ياء لوقوعها بعد كسرة، والثمن ما يقابل به المبيع عند البيع، والذي يظهر أن المراد هنا، القيمة وأن من رواه بلفظ الثمن إما تجوزا وإما أن القيمة والثمن كانا حينئذ مستويين، قال ابن دقيق العيد: القيمة والثمن قد يختلفان والمعتبر إنما هو القيمة، ولعل التعبير بالثمن لكونه صادف القيمة في ذلك الوقت في ظن الراوي أو باعتبار الغلبة. وقد تمسك مالك بحديث ابن عمر في اعتبار النصاب بالفضة، وأجاب الشافعية وسائر من خالفه بأنه ليس في طرقه أنه لا يقطع في أقل من ذلك، وأورد الطحاوي حديث سعد الذي أخرجه ابن مالك أيضا وسنده ضعيف ولفظه: "لا يقطع السارق إلا في المجن" قال فعلمنا أنه لا يقطع في أقل من ثمن المجن، ولكن اختلف في ثمن المجن، ثم ساق حديث ابن عباس قال: "كان قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم " قال فالاحتياط أن لا يقطع إلا فيما اجتمعت فيه هذه الآثار وهو عشرة، ولا يقطع فيما دونها لوجود الاختلاف فيه وتعقب بأنه لو سلم في الدراهم لم يسلم في النص الصريح في ربع دينار كما تقدم إيضاحه، ودفع ما أعله به. والجمع بين ما اختلفت الروايات في ثمن المجن ممكن بالحمل على اختلاف الثمن والقيمة أو على تعدد المجان التي قطع فيها وهو أولى. وقال ابن دقيق العيد: الاستدلال بقوله: "قطع في مجن" على اعتبار النصاب ضعيف لأنه حكاية فعل ولا يلزم من القطع في هذا المقدار عدم القطع فيما دونه بخلاف قوله: "يقطع في ربع دينار فصاعدا" فإنه بمنطوقه يدل على أنه يقطع فيما إذا بلغه وكذا فيما زاد عليه، وبمفهومه على أنه لا قطع فيما دون ذلك، قال: واعتماد الشافعي على حديث عائشة وهو قول أقوى في الاستدلال من الفعل المجرد، وهو قوي في الدلالة على الحنفية لأنه صريح في
(12/105)

القطع في دون القدر الذي يقولون بجواز القطع فيه، ويدل على القطع فيما يقولون به بطريق الفحوى، وأما دلالته على عدم القطع في دون ربع دينار فليس هو من حيث منطوقه بل من حيث مفهومه فلا يكون حجة على من لا يقول بالمفهوم. قلت: وقرر الباجي طريق الأخذ بالمفهوم هنا فقال: دل التقويم على أن القطع يتعلق بقدر معلوم وإلا فلا يكون لذكره فائدة، وحينئذ فالمعتمد ما ورد به النص صريحا مرفوعا في اعتبار ربع دينار، وقد خالف من المالكية في ذلك من القدماء ابن عبد الحكم وممن بعدهم ابن العربي فقال: ذهب سفيان الثوري مع جلالته في الحديث إلى أن القطع لا يكون إلا في عشرة دراهم، وحجته أن اليد محترمة بالإجماع فلا تستباح إلا بما أجمع عليه والعشرة متفق على القطع فيها عند الجميع فيتمسك به ما لم يقع الاتفاق على ما دون ذلك، وتعقب بأن الآية دلت على القطع في كل قليل وكثير، وإذا اختلفت الروايات في النصاب أخذ بأصح ما ورد في الأقل، ولم يصح أقل من ربع دينار أو ثلاثة دراهم، فكان اعتبار ربع دينار أقوى من وجهين: أحدهما أنه صريح في الحصر حيث ورد بلفظ: "لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا " وسائر الأخبار الصحيحة الواردة حكاية فعل لا عموم فيها، والثاني أن المعول عليه في القيمة الذهب لأنه الأصل في جواهر الأرض كلها، ويؤيده ما نقل الخطابي استدلالا على أن أصل النقد في ذلك الزمان الدنانير بأن الصكاك القديمة كان يكتب فيها عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل فعرفت الدراهم بالدنانير وحصرت بها والله أعلم. وحاصل المذاهب في القدر الذي يقطع السارق فيه يقرب من عشرين مذهبا: الأول يقطع في كل قليل وكثير تافها كان أو غير تافه نقل عن أهل الظاهر والخوارج ونقل عن الحسن البصري وبه قال أبو عبد الرحمن بن بنت الشافعي. ومقابل هذا القول في الشذوذ ما نقله عياض ومن تبعه عن إبراهيم النخعي أن القطع لا يجب إلا في أربعين درهما أو أربعة دنانير وهذا هو القول الثاني. الثالث مثل الأول إلا إن كان المسروق شيئا تافها لحديث عروة الماضي " لم يكن القطع في شيء من التافه " ولأن عثمان قطع في فخارة خسيسة وقال لمن يسرق السياط لئن عدتم لأقطعن فيه، وقطع ابن الزبير في نعلين أخرجهما ابن أبي شيبة وعن عمر بن عبد العزيز أنه قطع في مد أو مدين. الرابع تقطع في درهم فصاعدا وهو قول عثمان ألبتي بفتح الموحدة وتشديد المثناة من فقهاء البصرة وربيعة من فقهاء المدينة ونسبه القرطبي إلى عثمان فأطلق ظنا منه أنه الخليفة وليس كذلك الخامس في درهمين وهو قول الحسن البصري جزم به ابن المنذر عنه. السادس فيما زاد على درهمين ولو لم يبلغ الثلاثة أخرجه ابن أبي شيبة بسند قوي عن أنس " أن أبا بكر قطع في شيء ما يساوي درهمين " وفي لفظ: "لا يساوي ثلاثة دراهم". السابع في ثلاثة دراهم ويقوم ما عداها بها ولو كان ذهبا، وهي رواية عن أحمد، وحكاه الخطابي عن مالك. الثامن مثله لكن إن كان المسروق ذهبا فنصابه ربع دينار وإن كان غيرهما فإن بلغت قيمته ثلاثة دراهم قطع به وإن لم تبلغ لم يقطع ولو كان نصف دينار، وهذا قول مالك المعروف عند أتباعه، وهي رواية عن أحمد، واحتج له بما أخرجه أحمد من طريق محمد ابن راشد عن يحيى بن يحيى الغساني عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة مرفوعا: "اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا في أدنى من ذلك " قالت: وكان ربع الدينار قيمته يومئذ ثلاثة دراهم، والمرفوع من هذه الرواية نص في أن المعتمد والمعتبر في ذلك الذهب، والموقوف منه يقتضي أن الذهب يقوم بالفضة، وهذا يمكن تأويله فلا يرتفع به النص الصريح، التاسع مثله إلا إن كان المسروق غيرهما قطع به إذا بلغت قيمته أحدهما، وهو المشهور عن أحمد ورواية عن إسحاق. العاشر مثله
(12/106)

لكن لا يكتفى بأحدهما إلا إذا كانا غالبين فإن كان أحدهما غالبا فهو المعول عليه، وهو قول جماعة من المالكية وهو الحادي عشر. الثاني عشر ربع دينار أو ما يبلغ قيمته من فضة أو عرض، وهو مذهب الشافعي وقد تقدم تقريره، وهو قول عائشة وعمرة وأبي بكر بن حزم وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث ورواية عن إسحاق وعن داود، ونقله الخطابي وغيره عن عمر وعثمان وعلي، وقد أخرجه ابن المنذر عن عمر بسند منقطع أنه قال: "إذا أخذ السارق ربع دينار قطع " ومن طريق عمرة " أتى عثمان بسارق سرق أترجة قومت بثلاثة دراهم من حساب الدينار باثني عشر فقطع " ومن طريق جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا قطع في ربع دينار كانت قيمته درهمين ونصفا. الثالث عشر أربعة دراهم نقله عياض عن بعض الصحابة ونقله ابن المنذر عن أبي هريرة وأبي سعيد. الرابع عشر ثلث دينار حكاه ابن المنذر عن أبي جعفر الباقر، الخامس عشر خمسة دراهم وهو قول ابن شبرمة وابن أبي ليلى من فقهاء الكوفة ونقل عن الحسن البصري وعن سليمان بن يسار أخرجه النسائي جاء عن عمر بن الخطاب لا تقطع الخمس إلا في خمس أخرجه ابن المنذر من طريق منصور عن مجاهد عن سعيد بن المسيب عنه وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة وأبي سعيد مثله ونقله أبو زيد الدبوسي عن مالك وشذ بذلك. السادس عشر عشرة دراهم أو ما بلغ قيمتها من ذهب أو عرض، وهو قول أبي حنيفة والثوري وأصحابهما. السابع عشر دينار أو ما بلغ قيمته من فضة أو عرض. حكاه ابن حزم عن طائفة، وجزم ابن المنذر بأنه قول النخعي. الثامن عشر دينار أو عشرة دراهم أو ما يساوي أحدهما حكاه ابن حزم أيضا، وأخرجه ابن المنذر عن علي بسند ضعيف وعن ابن مسعود بسند منقطع قال وبه قال عطاء. التاسع عشر ربع دينار فصاعدا من الذهب على ما دل عليه حديث عائشة ويقطع في القليل والكثير من الفضة والعروض، وهو قول ابن حزم، ونقل ابن عبد البر نحوه عن داود واحتج بأن التحديد في الذهب ثبت صريحا في حديث عائشة ولم يثبت التحديد صريحا في غيره فبقى عموم الآية على حاله فيقطع فيما قل أو كثر إلا إذا كان الشيء تافها، وهو موافق للشافعي إلا في قياس أحد النقدين على الآخر وقد أيده الشافعي بأن الصرف يومئذ كان موافقا لذلك، واستدل بأن الدية على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الفضة اثنا عشر ألف درهم، وتقدم في قصة الأترجة قريبا ما يؤيده، ويخرج من تفصيل جماعة من المالكية أن التقويم يكون بغالب نقد البلد إن ذهبا فبالذهب وإن فضة فبالفضة تمام العشرين مذهبا وقد ثبت في حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم، وثبت لا قطع في أقل من ثمن المجن وأقل ما ورد في ثمن المجن ثلاثة دراهم وهي موافقة للنص الصريح في القطع في ربع دينار وإنما ترك القول بأن الثلاثة دراهم نصاب يقطع فيه مطلقا لأن قيمة الفضة بالذهب تختلف فبقي الاعتبار بالذهب كما تقدم والله أعلم، واستدل به على وجوب قطع السارق ولو لم يسرق من حرز، وهو قول الظاهرية أبي عبيد الله البصري من المعتزلة، وخالفهم الجمهور فقالوا: العام إذا خص منه شيء بدليل بقي ما عداه على عمومه، وحجته سواء كان لفظه ينبئ عما ثبت في ذلك الحكم بعد التخصيص أم لا لأنه آية السرقة عامة في كل من سرق فخص الجمهور منها من سرق من غير حرز فقالوا لا يقطع، وليس في الآية ما ينبئ عن اشتراط الحرز وطرد البصري أصله في الاشتراط المذكور فلم يشترط الحرز ليستمر الاحتجاج بالآية، نعم وزعم ابن بطال أن شرط الحرز مأخوذ من معنى السرقة فإن صح ما قال سقطت حجة البصري أصلا، واستدل به على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لأن آية السرقة نزلت في سارق رداء صفوان أو سارق المجن وعمل بها الصحابة في غيرهما من السارقين، واستدل
(12/107)

بإطلاق ربع دينار على أن القطع يجب بما صدق عليه ذلك من الذهب سواء كان مضروبا أو غير مضروب جيدا كان أو رديئا، وقد اختلف فيه الترجيح عند الشافعية ونص الشافعي في الزكاة على ذلك وأطلق في السرقة فجزم الشيخ أبو حامد وأتباعه بالتعميم هنا، وقال الإصطخري لا يقع إلا في المضروب ورجحه الرافعي، وقيد الشيخ أبو حامد النقل عن الأصطخري بالقدر الذي ينقص بالطبع، واستدل بالقطع في المجن على مشروعية القطع في كل ما يتمول قياسا واستثنى الحنفية ما يسرع إليه الفساد وما أصله الإباحة كالحجارة واللبن والخشب والملح والتراب والكلأ والطير، وفيه رواية عن الحنابلة، والراجح عندهم في مثل السرجين القطع تفريعا على جواز بيعه، وفي هذا تفاريع أخرى محل بسطها كتب الفقه وبالله التوفيق. الحديث الثالث حديث أبي هريرة في لعن السارق يسرق البيضة فيقطع ختم به الباب إشارة إلى أن طريق الجمع بين الأخبار أن يجعل حديث عمرة عن عائشة أصلا فيقطع في ربع دينار فصاعدا وكذا فيما بلغت قيمته ذلك، فكأنه قال المراد بالبيضة ما يبلغ قيمتها ربع دينار فصاعدا وكذا الحبل، ففيه إيماء إلى ترجيح ما سبق من التأويل الذي نقله الأعمش، وقد تقدم البحث فيه.
(12/108)