بَاب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}
 
6861- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ. قَالَ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقَهَا {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً}
6862- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا"
[الحديث 6862- طرفه في: 6863]
6863- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ"
6864- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ"
6865- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيٍّ حَدَّثَهُ "أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو الْكِنْدِيَّ - حَلِيفَ بَنِي زُهْرَةَ - حَدَّثَهُ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَقِيتُ كَافِرًا فَاقْتَتَلْنَا فَضَرَبَ يَدِي بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا ثُمَّ لاَذَ بِشَجَرَةٍ وَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، آقْتُلُهُ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقْتُلْهُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُ طَرَحَ إِحْدَى يَدَيَّ ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا قَطَعَهَا آقْتُلُهُ؟ قَالَ: لاَ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ"
6866- وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ سَعِيدٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم "لِلْمِقْدَادِ: إِذَا كَانَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يُخْفِي إِيمَانَهُ مَعَ قَوْمٍ كُفَّارٍ فَأَظْهَرَ إِيمَانَهُ فَقَتَلْتَهُ، فَكَذَلِكَ كُنْتَ أَنْتَ تُخْفِي إِيمَانَكَ بِمَكَّةَ مِنْ قَبْلُ"
قوله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الديات" بتخفيف التحتانية جمع دية مثل عدات وعدة، وأصلها ودية بفتح الواو وسكون الدال تقول: ودي القتل يديه إذا أعطى وليه ديته، وهي ما جعل في مقابلة النفس، وسمى دية تسمية بالمصدر وفاؤها محذوفة والهاء عوض وفي الأمرد القتيل بدال مكسورة حسب فإن وقفت قلت ده، وأورد البخاري تحت هذه الترجمة ما يتعلق بالقصاص لأن كل ما يجب فيه القصاص يجوز العفو عنه على مال فتكون الدية أشمل، وترجم غيره: "كتاب القصاص" وأدخل تحته الديات، بناء على أن القصاص هو الأصل في
(12/187)

العمد. قوله: وقول الله تعالى :{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} كذا للجميع، لكن سقطت الواو الأولى لأبي ذر والنسفي، وفي هذه الآية وعيد شديد لمن قتل مؤمنا متعمدا بغير حق، وقد تقدم النقل في تفسير سورة الفرقان عن ابن عباس وغيره في ذلك وبيان الاختلاف هل للقاتل توبة بما يغني عن إعادته. وأخرج إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" بسند حسن أن هذه الآية لما نزلت قال المهاجرون والأنصار وجبت، حتى نزل {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. قلت: وعلى ذلك عول أهل السنة في أن القاتل في مشيئة الله، ويؤيده حديث عبادة المتفق عليه بعد أن ذكر القتل والزنا وغيرهما: "ومن أصاب من ذلك شيئا فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه " ويؤيده قصة الذي قتل تسعة وتسعين نفسا ثم قتل المكمل مائة وقد مضى في ذكر بني إسرائيل من أحادث الأنبياء. ثم ذكر فيه خمسة أحاديث مرفوعة، الحديث الأول حديث ابن مسعود "أي الذنب أكبر" وقد تقدم شرحه مستوفي في "باب إثم الزناة" وقوله: "أن تقتل ولدك" قال الكرماني لا مفهوم له لأن القتل مطلقا أعظم. قلت: لا يمتنع أن يكون الذنب أعظم من غيره وبعض أفراده أعظم من بعض، ثم قال الكرماني وجه كونه أعظم أنه جمع مع القتل ضعف الاعتقاد في أن الله هو الرزاق. الحديث الثاني حدث ابن عمر. قوله: "حدثنا علي" كذا للجميع غير منسوب ولم يذكره أبو علي الجياني في تقييده ولا نبه عليه الكلاباذي، وقد ذكرت في المقدمة أنه على بن الجعد لأن علي بن المديني لم يدرك إسحاق بن سعيد. قوله: "لا" في رواية الكشميهني: "لن". قوله: "في فسحة" بضم الفاء وسكون المهملة وبحاء مهملة أي سعة. قوله: "من دينه" كذا للأكثر بكسر المهملة من الدين وفي رواية الكشميهني: "من ذنبه " فمفهوم الأول أن يضيق عليه دينه ففيه إشعار بالوعيد على قتل المؤمن متعمدا بما يتوعد به الكافر، ومفهوم الثاني أنه يصير في ضيق بسبب ذنبه ففيه إشارة إلى استبعاد العفو عنه لاستمراره في الضيق المذكور. وقال ابن العربي: الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقتا لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول، وحاصله أنه فسره على رأي ابن عمر في عدم قبول توبة القاتل. قوله: "ما لم يصب دما حراما" في رواية إسماعيل القاضي من هذا الوجه " ما لم يتند بدم حرام " وهو بمثناة ثم نون ثم دال ثقيلة ومعناه الإصابة وهو كناية عن شدة المخالطة ولو قلت، وقد أخرج الطبراني في " المعجم الكبير " عن ابن مسعود بسند رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا مثل حديث ابن عمر موقوفا أيضا وزاد في آخره: "فإذا أصاب دما حراما نزع من الحياء" ثم أورد عن أحمد بن يعقوب وهو المسعودي الكوفي عن إسحاق بن سعيد وهو المذكور في السند الذي قبله بالسند المذكور إلى ابن عمر. قوله: "إن من ورطات" بفتح الواو والراء، وحكى ابن مالك أنه قيد في الرواية بسكون الراء والصواب التحريك وهي جمع ورطة بسكون الراء وهي الهلاك يقال وقع فلان في ورطة أي في شيء لا ينجو منه، وقد فسرها في الخبر بقوله التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها. قوله: "سفك الدم" أي إراقته والمراد به القتل بأي صفة كان، لكن لما كان الأصل إراقة الدم عبر به. قوله: "بغير حله" في رواية أبي نعيم "بغير حقه" وهو موافق للفظ الآية، وهل الموقوف على ابن عمر منتزع من المرفوع فكأن ابن عمر فهم من كون القاتل لا يكون في فسحه أنه ورط نفسه فأهلكها، لكن التعبير بقوله: "من ورطات الأمور" يقتضي المشاركة بخلاف اللفظ الأول فهو أشد في الوعيد، وزعم الإسماعيلي أن هذه الرواية الثانية غلط ولم يبين وجه الغلط،
(12/188)

وأظنه من جهة انفراد أحمد بن يعقوب بها فقد رواه عن إسحاق بن سعيد أبو النضر هاشم بن القاسم ومحمد بن كناسة وغيرهما باللفظ الأول، وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال لمن قتل عامدا بغير حق " تزود من الماء البارد فإنك لا تدخل الجنة " وأخرج الترمذي من حديث عبد الله بن عمر " زوال الدنيا كلها أهون على الله من قتل رجل مسلم: " قال الترمذي حديث حسن. قلت: وأخرجه النسائي بلفظ: "لقتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا " قال ابن العربي: ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق والوعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدمي، فكيف بالتقي الصالح. الحديث الثالث قوله: "حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش" هذا السند يلتحق بالثلاثيات وهي أعلى ما عند البخاري من حيث العدد، وهذا في حكمه من جهة أن الأعمش تابعي وإن كان روى هذا عن تابعي آخر فإن ذلك التابعي أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم تحصل له صحبة. قوله: "عن أبي وائل عن عبد الله" تقدم في "باب القصاص يوم القيامة" في أواخر الرقاق من رواية حفص بن غياث عن الأعمش حدثني شقيق وهو أبو وائل المذكور قال: "سمعت عبد الله" وهو ابن مسعود. قوله: "أول ما يقضي بين الناس في الدماء" زاد مسلم من طريق آخر عن الأعمش " يوم القيامة " وقد ذكرت شرحه في الباب المذكور وطريق الجمع بينه وبين حديث أبي هريرة " أول ما يحاسب به المرء صلاته " وننبه هنا على أن النسائي أخرجهما في حديث واحد من طريق أبي وائل عن ابن مسعود رفعه: "أول ما يحاسب به العبد الصلاة، وأول ما يقضي بين الناس في الدماء " " وما " في هذا الحديث موصولة وهو موصول حرفي ويتعلق الجار بمحذوف أي أول القضاء يوم القيامة القضاء في الدماء أي في الأمر المتعلق بالدماء، وفيه عظم أمر القتل لأن الابتداء إنما يقع بالأهم، وقد استدل به على أن القضاء يختص بالناس ولا مدخل فيه للبهائم، وهو غلط لأن مفاده حصر الأولية في القضاء بين الناس وليس فيه نفي القضاء بين البهائم بعد القضاء بين الناس. الحديث الرابع قوله: "حدثنا عبدان" هو عبد الله بن عثمان وعبد الله هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد، وعطاء بن يزيد هو الليثي، وعبيد الله بالتصغير هو ابن عدي أي ابن الخيار بكسر المعجمة وتخفيف التحتانية النوفلي له إدراك، وقد تقدم بيانه في مناقب عثمان، والمقداد بن عمر وهو المعروف ابن الأسود. قول "إن لقيت" كذا للأكثر بصيغة الشرط، وفي رواية أبي ذر "إني لقيت كافرا فاقتتلنا فضرب يدي فقطعها" وظاهر سياقه أن ذلك وقع، والذي في نفس الأمر بخلافه، وإنما سأل المقداد عن الحكم في ذلك لو وقع، وقد تقدم في غزوة بدر بلفظ: "أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار" الحديث وهو يؤيد رواية الأكثر. قوله: "ثم لاذ بشجرة" أي التجأ إليها، وفي رواية الكشميهني ثم لاذ مني بشجرة والشجرة مثال. قوله: "وقال أسلمت لله" أي دخلت في الإسلام. قوله: "فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله" قال الكرماني: القتل ليس سببا لكون كل منهما بمنزلة الآخر لكن عند النحاة مؤول بالإخبار أي هو سبب لإخباري لك بذلك، وعند البيانيين المراد لازمه كقوله يباح دمك إن عصيت. قوله: "وأنت بمنزلته قبل أن يقول" قال الخطابي: معناه أن الكافر مباح الدم بحكم الدين قبل أن يسلم، فإذا أسلم صار مصان الدم كالمسلم، فإن قتله المسلم بعد ذلك صار دمه مباحا بحق القصاص كالكافر بحق الدين، وليس المراد إلحاقه في الكفر كما تقوله الخوارج من تكفير المسلم بالكبيرة، وحاصله اتحاد المنزلتين مع اختلاف المأخذ، فالأول أنه مثلك في صون الدم، والثاني أنك مثله في الهدر. ونقل ابن التين عن الداودي قال: معناه إنك صرت قاتلا كما كان هو قاتلا، قال: وهذا من المعاريض، لأنه
(12/189)

أراد الإغلاظ بظاهر اللفظ دون باطنه، وإنما أراد أن كلا منهما قاتل، ولم يرد أنه صار كافرا بقتله إياه. ونقل ابن بطال عن المهلب معناه فقال: أي أنك بقصدك لقتله عمدا آثم كما كان هو بقصده لقتلك آثما، فأنتما في حالة واحدة من العصيان. وقيل المعنى أنت عنده حلال الدم قبل أن تسلم وكنت مثله في الكفر كما كان عندك حلال الدم قبل ذلك، وقيل معناه إنه مغفور له بشهادة التوحيد كما أنك مغفور لك بشهود بدر. ونقل ابن بطال عن ابن القصار أن معنى قوله: "وأنت بمنزلته" أي في إباحة الدم، وإنما قصد بذلك ردعه وزجره عن قتله لا أن الكافر إذا قال أسلمت حرم قتله، وتعقب بأن الكافر مباح الدم والمسلم الذي قتله إن لم يتعمد قتله ولم يكن عرف أنه مسلم وإنما قتله متأولا فلا يكون بمنزلته في إباحته. وقال القاضي عياض: معناه أنه مثله في مخالفة الحق وارتكاب الإثم وإن اختلف النوع في كون أحدهما كفرا والآخر معصية. وقيل المراد إن قتلته مستحلا لقتله فأنت مثله في الكفر، وقيل المراد بالمثلية أنه مغفور له بشهادة التوحيد وأنت مغفور لك بشهود بدر، ونقل ابن التين أيضا عن الداودي أنه أوله على وجه آخر فقال: يفسره حديث ابن عباس الذي في آخر الباب ومعناه أنه يجاز أن يكون اللائذ بالشجرة القاطع لليد مؤمنا يكتم إيمانه مع قوم كفار غلبوه على نفسه، فإن قتلته فأنت شاك في قتلك إياه أني ينزله الله من العمد والخطأ كما كان هو مشكوكا في إيمانه لجواز أن يكون يكتم إيمانه، ثم قال: فإن قيل كيف قطع يد المؤمن وهو ممن يكتم إيمانه؟ فالجواب أنه دفع عن نفسه من يريد قتله فجاز له ذلك كما جاز للمؤمن أن يدفع عن نفسه من يريد قتله ولو أفضى إلى قتل من يريد قتله فإن دمه يكون هدرا، فلذلك لم يقد النبي صلى الله عليه وسلم من يد المقداد لأنه قطعها متأولا. قلت: وعليه مؤاخذات: منها الجمع بين القصتين بهذا التكلف مع ظهور اختلافهما، وإنما الذي ينطبق على حديث ابن عباس قصة أسامة الآتية في الباب الذي يليه حيث حمل على رجل أراد قتله فقال إني مسلم فقتله ظنا أنه قال ذلك متعوذا من القتل، وكان الرجل في الأصل مسلما، فالذي وقع للمقداد نحو ذلك كما سأبينه وأما قصة قطع اليد فإنما قالها مستفتيا على تقدير أن لو وقعت كما تقدم تقريره، وإنما تضمن الجواب النهي عن قتله لكونه أظهر الإسلام فحقن دمه وصار ما وقع منه قبل الإسلام عفوا. ومنها أن في جوابه عن الاستشكال نظرا لأنه كان يمكنه أن يدفع بالقول بأن يقول له عند إرادة المسلم قتله إني مسلم فيكف عنه، وليس له أن يبادر لقطع يده مع القدرة على القول المذكور ونحوه، واستدل به على صحة إسلام من قال أسلمت لله ولم يزد على ذلك، وفيه نظر لأن ذلك كاف في الكف، على أنه ورد في بعض طرقه أنه قال لا إله إلا الله، وهو رواية معمر عن الزهري عند مسلم في هذا الحديث، واستدل به على جواز السؤال عن النوازل قبل وقوعها بناء على ما تقدم ترجيحه، وأما ما نقل عن بعض السلف من كراهة ذلك فهو محمول على ما يندر وقوعه، وأما ما يمكن وقوعه عادة فيشرع السؤال عنه ليعلم. الحديث الخامس قوله: "وقال حبيب بن أبي عمرة" هو القصاب الكوفي لا يعرف اسم أبيه، وهذا التعليق وصله البزار والدار قطني في " الأفراد " والطبراني في " الكبير " من رواية أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم والد محمد بن أبي بكر المقدمي عن حبيب وفي أوله " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد، فلما أتوهم وجدوهم تفرقوا وفيهم رجل له مال كثير لم يبرح فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فأهوى إليه المقداد فقتله " الحديث، وفيه: "فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا مقداد قتلت رجلا قال لا إله إلا الله، فكيف لك بلا إله إلا الله، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "للمقداد: كان رجلا مؤمنا يخفي إيمانه" إلخ قال
(12/190)

الدار قطني: تفرد به حبيب وتفرد به أبو بكر عنه. قلت: قد تابع أبا بكر سفيان الثوري لكنه أرسله، أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عنه، وأخرجه الطبري من طريق أبي إسحاق الفزاري عن الثوري كذلك، ولفظ وكيع بسنده عن سعيد بن جبير "خرج المقداد بن الأسود في سرية" فذكر الحديث مختصرا إلى قوله: "فنزلت": ولم يذكر الخبر المعلق، وقد تقدمت الإشارة إلى هذه القصة في تفسير سورة النساء، وبينت الاختلاف في سبب نزول الآية المذكورة، وطريق الجمع، ولله الحمد.
(12/191)