بَاب: الْقَسَامَة 2
 
قال القاضي: وحجتهم حديث الباب: يعني من رواية يحيى بن سعيد التي أشرت إليها، قال: فإن مجيئه من طرق صحاح لا يدفع، وفيه تبرئة المدعين ثم ردها حين أبوا على المدعى عليهم واحتجوا بحديث أبي هريرة " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه إلا القسامة"، ويقول مالك: أجمعت الأئمة في القديم والحديث على أن المدعين يبدءون في القسامة، ولأن جنبة المدعي إذا قويت بشهادة أو شبهة صارت اليمين له. وهاهنا الشبهة قوية، وقالوا هذه سنة بحيالها وأصل قائم برأسه لحياة الناس وردع المعتدين، وخالفت الدعاوى في الأموال فهي على ما ورد فيها، وكل أصل يتبع ويستعمل ولا تطرح سنة لسنة، وأجابوا عن رواية سعيد ابن عبيد يعني المذكورة في حديث هذا الباب بقول أهل الحديث إنه وهم من رواية أسقط من السياق تبرئة المدعين باليمين لكونه لم يذكر فيه رد اليمين، واشتملت رواية يحيى بن سعيد على زيادة من ثقة حافظ فوجب قبولها وهي تقضي على من لم يعرفها. قلت: وسيأتي مزيد بيان لذلك. قال القرطبي: الأصل في الدعاوى أن اليمين على المدعى عليه، وحكم القسامة أصل بنفسه لتعذر إقامة البينة على القتل فيها غالبا، فإن القاصد للقتل يقصد الخلوة ويترصد الغفلة، وتأيدت بذلك الرواية الصحيحة المتفق عليها وبقي ما عدا القسامة على الأصل، ثم ليس ذلك خروجا عن الأصل بالكلية بل لأن المدعى عليه إنما كان القول قوله لقوة جانبه بشهادة الأصل له بالبراءة مما ادعى عليه، وهو موجود في القسامة في جانب المدعي لقوة جانبه باللوث الذي يقوي دعواه، قال عياض: وذهب من قال بالدية إلى تقديم المدعى عليهم في اليمين، إلا الشافعي وأحمد فقالا بقول الجمهور: يبدأ بأيمان المدعين وردها إن أبوا على المدعى عليهم. وقال بعكسه أهل الكوفة وكثير من أهل البصرة وبعض أهل المدينة والأوزاعي فقال يستحلف من أهل القرية خمسين رجلا خمسين يمينا ما قتلناه ولا علمناه من قتله. فإن حلفوا برءوا وإن نقصت قسامتهم عن عدد أو نكلوا حلف المدعون على رجل واحد واستحقوا، فإن نقصت قسامتهم قاده دية، وقال عثمان البتي من فقهاء البصرة: ثم يبدأ بالمدعى عليهم بالأيمان فإن حلفوا فلا شيء عليهم. وقال الكوفيون: إذا حلفوا وجبت عليهم الدية، وجاء ذلك عن عمر، قال واتفقوا كلهم على أنها لا تجب بمجرد دعوى الأولياء حتى يقترن بها شبهة يغلب على الظن الحكم بها، واختلفوا في تصوير الشبهة على سبعة أوجه فذكرها، وملخصها: الأول أن يقول المريض دمي عند فلان أو ما أشبه ذلك، ولو لم يكن به أثر أو جرح فإن ذك يوجب القسامة عند مالك والليث لم يقل به غيرهما، واشترط بعض المالكية الأثر أو الجرح، واحتج لمالك بقصة بقرة بني إسرائيل، قال: ووجه الدلالة منها أن الرجل حي فأخبر بقاتله، وتعقب بخفاء الدلالة منها، وقد بالغ ابن حزم في رد ذلك، واحتجوا بأن القاتل يتطلب حالة غفلة الناس فتتعذر البينة، فلو لم يعمل بقول المضروب لأدى ذلك إلى إهدار دمه لأنها حالة يتحرى فيها اجتناب الكذب ويتزود فيها من البر والتقوى، وهذا إنما يأتي في حالة المحتضر. الثانية أن يشهد من لا يكمل النصاب بشهادته كالواحد أو جماعة غير عدول قال بها المذكوران ووافقهما الشافعي ومن تبعه. الثالثة أن يشهد عدلان بالضرب ثم يعيش بعده أياما ثم يموت منه من غير تخلل إفاقة، فقال المذكوران: تجب فيه القسامة. وقال الشافعي: بل يجب القصاص بتلك الشهادة. الرابعة أن يوجد مقتول وعنده أو بالقرب منه من بيده آلة القتل وعليه أثر الدم مثلا ولا يوجد غيره فتشرع فيه القسامة عند مالك والشافعي، ويلتحق به أن تفترق به جماعة عن قتيل: الخامسة أن يقتتل طائفتان فيوجد بينهما قتيل ففيه القسامة عند الجمهور، وفي رواية عن مالك تختص القسامة بالطائفة التي ليس هو منها إلا إن كان
(12/236)

من غيرهما فعلى الطائفتين. السادسة المقتول في الزحمة، وقد تقدم بيان الاختلاف فيه في باب مفرد. السابعة أن يوجد قتيل في محلة أو قبيلة، فهذا يوجب القسامة عند الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة وأتباعهم، ولا يوجب القسامة عندهم سوى هذه الصورة، وشرطها عندهم إلا الحنفية أن يوجد بالقتيل أثر، وقال داود لا تجرى القسامة إلا في العمد على أهل مدينة أو قرية كبيرة وهم أعداء للمقتول، وذهب الجمهور إلى أنه لا قسامة فيه بل هو هدر لأنه قد يقتل ويلقى في المحلة ليتهموا، وبه قال الشافعي، وهو رواية عن أحمد، إلا أن يكون في مثل القصة التي في حديث الباب فيتجه فيها القسامة لوجود العداوة. ولم تر الحنفية ومن وافقهم لوثا يوجب القسامة إلا هذه الصورة، وحجة الجمهور القياس على هذه الواقعة، والجامع أن يقترن بالدعوى شيء يدل على صدق المدعي فيقسم معه ويستحق، وقال ابن قدامة: ذهب الحنفية إلى أن القتيل إذا وجد في محل فادعى وليه على خمسين نفسا من موضع قتله فحلفوا خمسين يمينا ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا فإن لم يجد خمسين كرر الأيمان على من وجد وتجب الدية على بقية أهل الخطة، ومن لم يحلف من المدعى عليهم حبس حتى يحلف أو يقر، واستدلوا بأثر عمر أنه أحلف خمسين نفسا خمسين يمينا وقضى بالدية عليهم، وتعقب باحتمال أن يكونوا أقروا بالخطأ وأنكروا العمد وبأن الحنفية لا يعملون بخبر الواحد إذا خالف الأصول ولو كان مرفوعا فكيف احتجوا بما خالف الأصول بخبر واحد موقوف وأوجبوا اليمين على غير المدعى عليه، واستدل به على القود في القسامة لقوله: "فتستحقون قاتلكم " وفي الرواية الأخرى " دم صاحبكم " قال ابن دقيق العيد: الاستدلال بالرواية التي فيها " فيدفع برمته " أقوى من الاستدلال بقوله: "دم صاحبكم " لأن قوله: "يدفع برمته " لفظ مستعمل في دفع القاتل للأولياء للقتل، ولو أن الواجب الدية لبعد استعمال هذا اللفظ وهو في استعماله في تسليم القاتل أظهر، والاستدلال بقوله: "دم صاحبكم " أظهر من الاستدلال بقوله: "قاتلكم " أو " صاحبكم " لأن هذا اللفظ لا بد فيه من إضمار، فيحتمل أن يضمر دية صاحبكم احتمالا ظاهرا، وأما بعد التصريح بالدية فيحتاج إلى تأويل اللفظ بإضمار بدل دم صاحبكم والإضمار على خلاف الأصل ولو احتيج إلى إضمار لكان حمله على ما يقتضي إراقة الدم أقرب، وأما من قال يحتمل أن يكون قوله: "دم صاحبكم " هو القتيل لا القاتل فيرده قوله: "دم صاحبكم أو قاتلكم " وتعقب بأن القصة واحدة اختلفت ألفاظ الرواة فيها على ما تقدم بيانه فلا يستقيم الاستدلال بلفظ منها لعدم تحقق أنه اللفظ الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل من قال بالقود أيضا بما أخرجه مسلم والنسائي من طريق الزهري عن سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القسامة كانت في الجاهلية وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ما كانت عليه من الجاهلية وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر، وهذا يتوقف على ثبوت أنهم كانوا في الجاهلية يقتلون في القسامة، وعند أبي داود من طريق عبد الرحمن بن بجيد بموحدة وجيم مصغر قال: إن سهلا يعني ابن أبي حثمة وهم في الحديث أن رسول الله كتب إلى يهود " إنه قد وجد بين أظهركم قتيل فدوه " فكتبوا يحلفون ما قتلناه ولا علمنا قاتلا، قال فوداه من عنده، وهذا رده الشافعي بأنه مرسل، ويعارض ذلك ما أخرجه ابن منده في "الصحابة" من طريق مكحول حدثني عمرو بن أبي خزاعة أنه قتل فيهم قتيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل القسامة على خزاعة بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا فحلف كل منهم عن نفسه وغرم الدية، وعمرو مختلف في صحبته، وأخرج ابن أبي شيبة بسند جيد إلى إبراهيم النخعي قال: كانت القسامة في الجاهلية إذا وجد القتيل بين
(12/237)

ظهري قوم أقسم منهم خمسون خمسين يمينا، ما قتلنا ولا علمنا، فإن عجزت الأيمان ردت عليهم ثم عقلوا، وتمسك من قال لا يجب فيها إلا الدية بما أخرجه الثوري في جامعه وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بسند صحيح إلى الشعبي قال: وجد قتيل بين حيين من العرب فقال عمر: قيسوا ما بينهما فأيهما وجدتموه إليه أقرب فأحلفوهم خمسين يمينا وأغرموهم الدية، وأخرجه الشافعي عن سفيان بن عيينة عن منصور عن الشعبي أن عمر كتب في قتيل وجد بين خيران ووادعة أن يقاس ما بين القريتين فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منهم خمسون رجلا حتى يوافوه مكة فأدخلهم الحجر فأحلفهم ثم قضى عليهم الدية فقال: حقنت أيمانكم دماءكم ولا يطل دم رجل مسلم، قال الشافعي: إنما أخذه الشعبي عن الحارث الأعور والحارث غير مقبول انتهى. وله شاهد مرفوع من حديث أبي سعيد عند أحمد أن قتيلا وجد بين حيين فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاس إلى أيهما أقرب، فألقى ديته على الأقرب، ولكن سنده ضعيف. وقال عبد الرزاق في مصنفه: قلت لعبيد الله بن عمر العمري أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر؟ قال: لا، قلت فعمر؟ قال: لا، قلت فلم تجترئون عليها؟ فسكت. وأخرج البيهقي من طريق القاسم بن عبد الرحمن أن عمر قال: القسامة توجب العقل ولا تسقط الدم، واستدل به الحنفية على جواز سماع الدعوى في القتل على غير معين لأن الأنصار ادعوا على اليهود أنهم قتلوا صاحبهم وسمع النبي صلى الله عليه وسلم دعواهم، ورد بأن الذي ذكره الأنصار أولا ليس على صورة الدعوى بين الخصمين لأن من شرطها إذا لم يحضر المدعى عليه أن يتعذر حضوره، سلمنا ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين لهم أن الدعوى إنما تكون على واحد لقوله: "تقسمون على رجل منهم فيدفع إليكم برمته " واستدل بقوله: "على رجل منهم " على أن القسامة إنما تكون على رجل واحد وهو قول أحمد ومشهور قول مالك، وقال الجمهور: يشترط أن تكون على معين سواء كان واحدا أو أكثر واختلفوا هل يختص القتل بواحد أو يقتل الكل؟ وقد تقدم البحث فيه، وقال أشهب: لهم أن يحلفوا على جماعة ويختاروا واحدا للقتل ويسجن الباقون عاما ويضربون مائة مائة، وهو قول لم يسبق إليه. وفيه أن الحلف في القسامة لا يكون إلا مع الجزم بالقاتل، والطريق إلى ذلك المشاهدة وإخبار من يوثق به مع القرينة الدالة على ذلك، وفيه أن من توجهت عليه اليمين فنكل عنها لا يقضى عليه حتى يرد اليمين على الآخر وهو المشهور عند الجمهور، وعند أحمد والحنفية يقضى عليه دون رد اليمين. وفيه أن أيمان القسامة خمسون يمينا واختلف في عدد الحالفين فقال الشافعي لا يجب الحق حتى يحلف الورثة خمسين يمينا سواء قلوا أم كثروا فلو كان بعدد الأيمان حلف كل واحد منهم يمينا وإن كانوا أقل أو نكل بعضهم ردت الأيمان على الباقين فإن لم يمكن إلا واحد حلف خمسين يمينا واستحق حتى لو كان من يرث بالفرض والتعصيب أو بالنسب والولاء حلف واستحق، وقال مالك: إن كان ولي الدم واحدا ضم إليه آخر من العصبة ولا يستعان بغيرهم وإن كان الأولياء أكثر حلف منهم خمسون وقال الليث: لم أسمع أحدا يقول أنها تنزل عن ثلاثة أنفس، وقال الزهري عن سعيد بن المسيب: أول من نقص القسامة عن خمسين معاوية. قال الزهري: وقضى به عبد الملك ثم رده عمر بن عبد العزيز إلى الأمر الأول. واستدل به على تقديم الأسن في الأمر المهم إذا كانت فيه أهلية ذلك لا ما إذا كان عريا عن ذلك، وعلى ذلك يحمل الأمر بتقديم الأكبر في حديث الباب إما لأن ولي الدم لم يكن متأهلا فأقام الحاكم قريبه مقامه في الدعوى وإما لغير ذلك. وفيه التأنيس والتسلية لأولياء المقتول لا أنه حكم على الغائبين لأنه لم يتقدم صورة دعوى على غائب وإنما وقع الإخبار بما وقع فذكر لهم قصة الحكم على التقديرين
(12/238)

ومن ثم كتب إلى اليهود بعد أن دار بينهم الكلام المذكور، ويؤخذ منه أن مجرد الدعوى لا توجب إحضار المدعى عليه، لأن في إحضاره مشغلة عن إشغاله وتضييعا لماله من غير موجب ثابت لذلك، أما لو ظهر ما يقوي الدعوى من شبهة ظاهرة فهل يسوغ استحضار الخصم أو لا؟ محل نظر، والراجح أن ذلك يختلف بالقرب والبعد وشدة الضرر وخفته. وفيه الاكتفاء بالمكاتبة وبخبر الواحد مع إمكان المشافهة. وفيه أن اليمين قبل توجيهها من الحاكم لا أثر لها لقول اليهود في جوابهم والله ما قتلنا وفي قولهم لا نرضى بأيمان اليهود استبعاد لصدقهم لما عرفوه من إقدامهم على الكذب وجراءتهم على الأيمان الفاجرة، واستدل به على أن الدعوى في القسامة لا بد فيها من عداوة أو لوث، واختلف في سماع هذه الدعوى ولو لم توجب القسامة: فعن أحمد روايتان، وبسماعها قال الشافعي لعموم حديث: "اليمين على المدعى عليه " بعد قوله: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم " ولأنها دعوى في حق آدمي فتسمع ويستحلف وقد يقر فيثبت الحق في قتله ولا يقبل رجوعه عنه، فلو نكل ردت على المدعي واستحق القود في العمد والدية في الخطأ، وعن الحنفية لا ترد اليمين، وهي رواية عن أحمد، واستدل به على أن المدعين والمدعى عليهم إذا نكلوا عن اليمين وجبت الدية في بيت المال وقد تقدم ما فيه قريبا، واستدل به على أن من يحلف في القسامة لا يشترط أن يكون رجلا ولا بالغا لإطلاق قوله: "خمسين منكم" وبه قال ربيعة والثوري والليث والأوزاعي وأحمد، وقال مالك لا مدخل للنساء في القسامة لأن المطلوب في القسامة القتل ولا يسمع من النساء. وقال الشافعي: لا يحلف في القسامة إلا الوارث البالغ لأنها يمين في دعوى حكمية فكانت كسائر الأيمان ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، واختلف في القسامة هل هي معقولة المعنى فيقاس عليها أو لا والتحقيق أنها معقولة المعنى لكنه خفي ومع ذلك فلا يقاس عليها لأنها لا نظير لها في الأحكام، وإذا قلنا إن المبدأ فيها يمين المدعي فقد خرجت عن سنن القياس، وشرط القياس أن لا يكون معدولا به عن سنن القياس كشهادة خزيمة. "تنبيه": نبه ابن المنير في الحاشية على النكتة في كون البخاري لم يورد في هذا الباب الطريق الدالة على تحليف المدعي، وهي مما خالفت فيه القسامة بقية الحقوق فقال: مذهب البخاري تضعيف القسامة، فلهذا صدر الباب بالأحاديث الدالة على أن اليمين في جانب المدعى عليه، وأورد طريق سعيد بن عبيد وهو جار على القواعد، وإلزام المدعي البينة ليس من خصوصية القسامة في شيء. ثم ذكر حديث القسامة الدال على خروجها عن القواعد بطريق العرض في كتاب الموادعة والجزية فرارا من أن يذكرها هنا فيغلط المستدل بها على اعتقاد البخاري، قال وهذا الإخفاء مع صحة القصد ليس من قبيل كتمان العلم. قلت: الذي يظهر لي أن البخاري لا يضعف القسامة من حيث هي، بل يوافق الشافعي في أنه لا قود فيها، ويخالفه في أن الذي يحلف فيها هو المدعي، بل يرى أن الروايات اختلفت في ذلك في قصة الأنصار ويهود خيبر فيرد المختلف إلى المتفق عليه من أن اليمين على المدعى عليه فمن ثم أورد رواية سعيد بن عبيد في " باب القسامة " وطريق يحيى بن سعيد في باب آخر، وليس في شيء من ذلك تضعيف أصل القسامة والله أعلم. وادعى بعضهم أن قوله: "تحلفون وتستحقون" استفهام إنكار واستعظام للجمع بين الأمرين، وتعقب بأنهم لم يبدءوا بطلب اليمين حتى يصح الإنكار عليهم، وإنما هو استفهام تقرير وتشريع. قوله: "أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم الأسدي" بفتح السين المهملة المعروف بابن علية واسم جده مقسم وهو الثقة المشهور، وهو منسوب إلى بني أسد بن خزيمة لأن أصله من مواليهم، والحجاج بن أبي عثمان هو
(12/239)

المعروف بالصواف، واسم أبي عثمان ميسرة وقيل سالم، وكنية الحجاج أبو الصلت ويقال غير ذلك وهو بصري أيضا وهو مولى بني كندة، وأبو رجاء اسمه سليمان وهو مولى أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، ووقع هنا " من آل أبي قلابة " وفيه تجوز فإنه منهم باعتبار الولاء لا بالأصالة، وقد أخرجه أحمد فقال: "حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا حجاج عن أبي رجاء مولى أبي قلابة " وكذا عند مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن الصباح، وكذا عند الإسماعيلي من رواية أبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة كلهم عن إسماعيل. قوله: "أن عمر بن عبد العزيز" يعني الخليفة المشهور "أبرز سريره" أي أظهره. وكان ذلك في زمن خلافته وهو بالشام، والمراد بالسرير ما جرت عادة الخلفاء الاختصاص بالجلوس عليه، والمراد أنه أخرجه إلى ظاهر الدار لا إلى الشارع، ولذلك قال: "أذن للناس" ووقع عند مسلم من طريق عبد الله بن عون عن أبي رجاء عن أبي قلابة "كنت خلف عمر بن عبد العزيز". قوله: "ما تقولون في القسامة" زاد أحمد بن حرب عن إسماعيل بن علية عند أبي نعيم في المستخرج فأضب الناس أي سكتوا مطرقين يقال أضبوا إذا سكتوا وأضبوا إذا تكلموا، وأصل أضب أضمر ما في قلبه ويقال أضب على الشيء لزمه والاسم الضب كالحيوان المشهور، ويحتمل أن يكون المراد أنهم علموا رأي عمر بن عبد العزيز في إنكار القسامة فلما سألهم سكتوا مضمرين مخالفته، ثم تكلم بعضهم بما عنده في ذلك كما وقع في هذه الرواية: "قالوا نقول القسامة القود بها حق وقد أقادت بها الخلفاء " وأرادوا بذلك ما تقدم نقله عن معاوية وعن عبد الله بن الزبير وكذا جاء عن عبد الملك بن مروان، لكن عبد الملك أقاد بها ثم ندم كما ذكره أبو قلابة بعد ذلك في رواية حماد بن زيد عن أيوب وحجاج الصواف عن أبي رجاء " أن عمر بن عبد العزيز استشار الناس في القسامة فقال قوم: هي حق، قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضى بها الخلفاء، أخرجه أبو عوانة في صحيحه وأصله عند الشيخين من طريقه. قوله: "قال لي ما تقول" في رواية أحمد بن حرب " فقال لي يا أبا قلابة ما تقول". قوله: "ونصبني للناس" أي أبرزني لمناظرتهم، أو لكونه كان خلف السرير فأمره أن يظهر، وفي رواية أبي عوانة " وأبو قلابة خلف السرير قاعدا فالتفت إليه فقال: ما تقول يا أبا قلابة". قوله: "عندك رءوس الأجناد" بفتح الهمزة وسكون الجيم بعدها نون جمع جند وهي في الأصل الأنصار والأعوان ثم اشتهر في المقاتلة، وكان عمر قسم الشام بعد موت أبي عبيدة ومعاذ على أربعة أمراء مع كل أمير جند، فكان كل من فلسطين ودمشق وحمص وقنسرين يسمى جندا باسم الجند الذي نزلوها " وقيل كان الرابع الأردن وإنما أفردت قنسرين بعد ذلك"، وقد تقدم شيء من هذا في الطب في شرح حديث الطاعون " لما خرج عمر إلى الشام فلقيه أمراء الأجناد " ولابن ماجه وصححه ابن خزيمة من طريق أبي صالح الأشعري عن أبي عبد الله الأشعري في غسل الأعقاب " قال أبو صالح فقلت لأبي عبد الله من حدثك؟ قال: أمراء الأجناد خالد بن الوليد ويذيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص". قوله: "وأشراف العرب" في رواية أحمد بن حرب " وأشراف الناس". قوله: "أرأيت لو أن خمسين إلخ" وقع في رواية حماد " شهد عندك أربعة من أهل حمص على رجل من أهل دمشق". وزاد بعد قوله أكنت تقطعه " قال لا. قال يا أمير المؤمنين هذا أعظم من ذلك". قوله: "فوالله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا قط" في رواية حماد " لا والله لا أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل أحدا من أهل الصلاة " وهو موافق لحديث ابن مسعود الماضي مرفوعا في أول الديات " لا يحل دم امرئ مسلم". قوله: "إلا في إحدى" في رواية أحمد بن حرب "إلا بإحدى". قوله: "بجريرة نفسه" أي بجنايتها.
(12/240)

قوله: "فقال القوم أوليس قد حدث أنس" عند مسلم من طريق ابن عون " فقال عنبسة قد حدثنا أنس بكذا " وفي رواية حماد المذكورة " فقال عنبسة بن سعيد: فأين حديث أنس بن مالك في العكليين " كذا في هذه الرواية، وتقدم في الطهارة وغيرها بلفظ: "العرنيين " وأوضحت أن بعضهم كان من عكل وبعضهم كان من عرينة، وثبت كذلك في كثير من الطرق. وعنبسة المذكور بفتح المهملة وسكون النون وفتح الموحدة بعدها سين مهملة هو الأموي أخو عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق، واسم جده العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، وكان عنبسة من خيار أهل بيته، وكان عبد الملك بن مروان بعد أن قتل أخاه عمرو بن سعيد يكرمه، وله رواية وأخبار مع الحجاج بن يوسف، ووثقه ابن معين وغيره. قوله: "أنا أحدثكم حديث أنس حدثني أنس" في رواية أحمد بن حرب "فإياي حديث أنس". قوله: "فبايعوا" في رواية أحمد بن حرب " فبايعوه". قوله: "أجسامهم" في رواية أحمد بن حرب " أجسادهم". قوله: "من ألبانها وأبوالها" في رواية أحمد بن حرب " من رسلها " وهو بكسر الراء وسكون المهملة اللبن وبفتحتين المال من الإبل والغنم، وقيل بل الإبل خاصة إذا أرسلت إلى الماء تسمى رسلا. قوله: "ثم نبذهم" بنون وموحدة مفتوحتين ثم ذال معجمة أي طرحهم. قوله: "قلت وأي شيء أشد مما صنع هؤلاء؟ ارتدوا عن الإسلام وقتلوا وسرقوا" في رواية حماد " قال أبو قلابة فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله". قوله: "قال عنبسة" هو المذكور قبل. قوله: "إن سمعت كاليوم قط" إن بالتخفيف وكسر الهمزة بمعنى ما النافية وحذف مفعول سمعت والتقدير ما سمعت قبل اليوم مثل ما سمعت منك اليوم. وفي رواية حماد "فقال عنبسة يا قوم ما رأيت كاليوم قط" ووقع في رواية ابن عون " قال أبو قلابة فلما فرغت قال عنبسة سبحان الله". قوله: "أترد على حديثي يا عنبسة" في رواية ابن عون " فقلت أتتهمني يا عنبسة " وكذا في رواية حماد كأن أبا قلابة فهم من كلام عنبسة إنكار ما حدث به. قوله: "لا ولكن جئت بالحديث على وجهه" في رواية ابن عون " قال لا هكذا حدثنا أنس " وهذا دال على أن عنبسة كان سمع حديث العكليين من أنس. وفيه إشعار بأنه كان غير ضابط له على ما حدث به أنس فكان يظن أن فيه دلالة على جواز القتل في المعصية ولو لم يقع الكفر، فلما ساق أبو قلابة الحديث تذكر أنه هو الذي حدثهم به أنس فاعترف لأبي قلابة بضبطه ثم أثنى عليه. قوله: "والله لا يزال هذا الجند بخير ما كان هذا الشيخ بين أظهرهم" المراد بالجند أهل الشام، ووقع في رواية ابن عوان " يا أهل الشام لا تزالون بخير ما دام فيكم هذا أو مثل هذا" وفي رواية حماد "والله لا يزال هذا الجند بخير ما أبقاك الله بين أظهرهم". قوله: "وقد كان في هذا سنة - إلى قوله - دخل عليه نفر من الأنصار" كذا أورد أبو قلابة هذه القصة مرسلة، ويغلب على الظن أنها قصة عبد الله بن سهل ومحيصة، فإن كان كذلك فلعل عبد الله بن سهل ورفقته تحدثوا عند النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتوجهوا إلى خيبر ثم توجهوا فقتل عبد الله بن سهل كما تقدم وهو المراد بقوله هنا " فخرج رجل منهم بين أيديهم فقتل". قوله: "فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم" لعله صلى الله عليه وسلم لما جاءوه كان داخل بيته أو المسجد فكلموه فخرج إليهم فأجابهم. قوله: "فقال بمن تظنون أو ترون" بضم أوله وهما بمعنى. قوله: "قالوا: نرى أن اليهود قتله" كذا للأكثر بلفظ الفعل الماضي بالإفراد وفي رواية المستملي: "قتلته" بصيغة المسند إلى الجمع المستفاد من لفظ اليهود لأن المراد قتلوه، وقد قدمت بيان ما اختلف فيه من ألفاظ هذه القصة في شرح الحديث الذي قبله. قوله: "قلت وقد كانت هذيل" أي القبيلة المشهورة، وهم ينتسبون إلى هذيل بن مدركة
(12/241)

ابن إلياس بن مضر، وهذا من قول أبي قلابة، وهي قصة موصولة بالسند المذكور إلى أبي قلابة، لكنها مرسلة لأن أبا قلابة لم يدرك عمر. قوله: "خلعوا خليعا" في رواية الكشميهني حليفا بحاء مهملة وفاء بدل العين، والخليع فعيل بمعنى مفعول يقال تخالع القوم إذا نقضوا الحلف، فإذا فعلوا ذلك لم يطالبوا بجنايته فكأنهم خلعوا اليمين التي كانوا لبسوها معه، ومنه سمي الأمير إذا عزل خليعا ومخلوعا، وقال أبو موسى في المعين خلعه قومه أي حكموا بأنه مفسد فتبرءوا منه: ولم يكن ذلك في باب الجاهلية يختص بالحليف بل كانوا ربما خلعوا الواحد من القبيلة ولو كان من صميمها إذا صدرت منه جناية تقتضي ذلك، وهذا مما أبطله الإسلام من حكم الجاهلية، ومن ثم قيده في الخبر بقوله: "في الجاهلية " ولم أقف على اسم الخليع المذكور ولا على اسم أحد ممن ذكر في القصة. قوله: "فطرق أهل بيت" بضم الطاء المهملة أي هجم عليهم ليلا في خفية ليسرق منهم، وحاصل القصة أن القاتل ادعى أن المقتول لص وأن قومه خلعوه فأنكروا هم ذلك وحلفوا كاذبين فأهلكهم الله بحنث القسامة وخلص المظلوم وحده. قوله: "ما خلعوا" في رواية أحمد بن حرب " ما خلعوه". قوله: "حتى إذا كانوا بنخلة" بلفظ واحدة النخيل، وهو موضع على ليلة من مكة. قوله: "فانهجم عليهم الغار" أي سقط عليهم بغتة. قوله: "وأفلت" بضم أوله وسكون الفاء أي تخلص، والقرينان هما أخو المقتول والذي أكمل الخمسين. قوله: "واتبعهما حجر" أي بتشديد التاء وقع عليهما بعد أن خرجا من الغار. قوله: "وقد كان عبد الملك بن مروان" هو مقول أبي قلابة بالسند أيضا وهي موصولة لأن أبا قلابة أدركها. قوله: "أقاد رجلا" لم أقف على اسمه. قوله: "ثم ندم بعد" بضم الدال. قوله: "ما صنع" كأنه ضمن ندم معنى كره ووقع في رواية أحمد بن حرب " على الذي صنع". قوله: "فأمر بالخمسين" أي الذين حلفوا، ووقع في رواية أحمد بن حرب الذين أقسموا. قوله: "وسيرهم إلى الشام" أي نفاهم، وفي رواية أحمد بن حرب " من الشام " وهذه أولى لأن إقامة عبد الملك كانت بالشام ويحتمل أن يكون ذلك وقع لما كان عبد الملك بالعراق عند محاربته مصعب بن الزبير ويكونوا من أهل العراق فنفاهم إلى الشام، قال المهلب فيما حكاه ابن بطال: الذي اعترض به أبو قلابة من قصة العرنيين لا يفيد مراده من ترك القسامة لجواز قيام البينة والدلائل التي لا تدفع على تحقيق الجناية في حق العرنيين، فليس قصتهم من طريق القسامة في شيء لأنها إنما تكون في الاختفاء بالقتل حيث لا بينة ولا دليل، وأما العرنيون فإنهم كشفوا وجوههم لقطع السبيل والخروج على المسلمين فكان أمرهم غير أمر من ادعى القتل حيث لا بينة هناك، قال: وما ذكره هنا من انهدام الغار عليهم يعارضه ما تقدم من السنة، قال: وليس رأي أبي قلابة حجة ولا ترد به السنن، وكذا محو عبد الملك أسماء الذين أقسموا من الديوان قلت: والذي يظهر لي أن مراد أبي قلابة بقصة العرنيين خلاف ما فهمه عنه المهلب أن قصتهم كان يمكن فيها القسامة فلم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أراد الاستدلال بها لما ادعاه من الحصر الذي ذكره في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل أحدا إلا في إحدى ثلاث فعورض بقصة العرنيين وحاول المعترض إثبات قسم رابع فرد عليه أبو قلابة بما حاصله أنهم إنما استوجبوا القتل بقتلهم الراعي وبارتدادهم عن الدين وهذا بين لا خفاء فيه، وإنما استدل على ترك القود بالقسامة بقصة القتيل عند اليهود فليس فيها للقود بالقسامة ذكر، بل ولا في أصل القصة التي هي عمدة الباب تصريح بالقود كما سأبينه، ثم رأيت في آخر الحاشية لابن المنير نحو ما أجبت به، وحاصله توهم المهلب أن أبا قلابة عارض حديث القسامة بحديث العرنيين فأنكر عليه فوهم. وإنما اعترض أبو قلابة على القسامة بالحديث الدال على حصر
(12/242)

القتل في ثلاثة أشياء، فإن الذي عارضه ظن أن في قصة العرنيين حجة في جواز قتل من لم يذكر في الحديث المذكور كأن يتمسك الحجاج في قتل من لم يثبت عليه واحدة من الثلاثة، وكأن عنبسة تلقف ذلك عنه فإنه كان صديقه، فبين أبو قلابة أنه ثبت عليهم قتل الراعي بغير حق والارتداد عن الإسلام. وهو جواب ظاهر فلم يورد أبو قلابة قصة العرنيين مستدلا بها على ترك القسامة بل رد على من تمسك بها للقود بالقسامة، وأما قصة الغار فأشار بها إلى أن العادة جرت بهلاك من حلف في القسامة من غير علم كما وقع في حديث ابن عباس في قصة القتيل الذي وقعت القسامة بسببه قبل البعثة وقد مضى في كتاب المبعث وفيه: "فما حال الحول ومن الثمانية والأربعين الذين حلفوا عين تطرف " وجاء عن ابن عباس حديث آخر في ذلك أخرجه الطبراني من طريق أبي بكر بن أبي الجهم عن عبيد الله بن عبد الله عنه قال: "كانت القسامة في الجاهلية حجازا بين الناس، فكان من حلف على إثم أري عقوبة من الله ينكل بها عن الجراءة على الحرام، فكانوا يتورعون عن أيمان الصبر ويهابونها، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كان المسلمون لها أهيب " ثم إنه ليس في سياق قصة الهذليين تصريح بما صنع عمر هل أقاد بالقسامة أو حكم بالدية، فقول المهلب ما تقدم من السنة إن كان أشار به إلى صنيع عمر فليس بواضح، وأما قوله إن رأى أبي قلابة ومحو عبد الملك من الديوان لا ترد به السنن فمقبول، لكن ما هي السنة التي وردت بذلك؟ نعم لم يظهر لي وجه استدلال أبي قلابة بأن القتل لا يشرع إلا في الثلاثة لرد القود بالقسامة مع أن القود قتل نفس بنفس وهو أحد الثلاثة، وإنما وقع النزاع في الطريق إلى ثبوت ذلك.
(12/243)

باب من اطلع في بيت قوم ففقأوا عينه
...