باب الْفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ
 
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الأَبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً ... تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ
حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا ... وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ
شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ ... َمكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ
(13/47)

7096 -حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ "سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ عُمَرَ إِذْ قَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتْنَةِ ؟ قَالَ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ وَلَكِنْ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا قَالَ عُمَرُ: أَيُكْسَرُ الْبَابُ أَمْ يُفْتَحُ قَالَ: بَلْ يُكْسَرُ قَالَ عُمَرُ: إِذًا لاَ يُغْلَقَ أَبَدًا قُلْتُ: أَجَلْ قُلْنَا لِحُذَيْفَةَ: أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ قَالَ: نَعَمْ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً وَذَلِكَ أَنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ مَنْ الْبَابُ فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ: مَنْ الْبَابُ قَالَ عُمَرُ"
7097 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا إِلَى حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ الْمَدِينَةِ لِحَاجَتِهِ وَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِ فَلَمَّا دَخَلَ الْحَائِطَ جَلَسْتُ عَلَى بَابِهِ وَقُلْتُ: لاَكُونَنَّ الْيَوْمَ بَوَّابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْنِي فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَضَى حَاجَتَهُ وَجَلَسَ عَلَى قُفِّ الْبِئْرِ فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلاَهُمَا فِي الْبِئْرِ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ لِيَدْخُلَ فَقُلْتُ كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ فَوَقَفَ فَجِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ قَالَ ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَدَخَلَ فَجَاءَ عَنْ يَمِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلاَهُمَا فِي الْبِئْرِ فَجَاءَ عُمَرُ فَقُلْتُ كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَجَاءَ عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ فَدَلاَهُمَا فِي الْبِئْرِ فَامْتَلاَ الْقُفُّ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَجْلِسٌ ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَقُلْتُ كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ مَعَهَا بَلاَءٌ يُصِيبُهُ فَدَخَلَ فَلَمْ يَجِدْ مَعَهُمْ مَجْلِسًا فَتَحَوَّلَ حَتَّى جَاءَ مُقَابِلَهُمْ عَلَى شَفَةِ الْبِئْرِ فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ ثُمَّ دَلاَهُمَا فِي الْبِئْرِ فَجَعَلْتُ أَتَمَنَّى أَخًا لِي وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَأْتِيَ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ فَتَأَوَّلْتُ ذَلِكَ قُبُورَهُمْ اجْتَمَعَتْ هَا هُنَا وَانْفَرَدَ عُثْمَانُ"
7098 - حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ قِيلَ لِأُسَامَةَ أَلاَ تُكَلِّمُ هَذَا قَالَ قَدْ كَلَّمْتُهُ مَا دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَفْتَحُهُ وَمَا أَنَا بِالَّذِي أَقُولُ لِرَجُلٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ أَمِيرًا عَلَى رَجُلَيْنِ أَنْتَ خَيْرٌ بَعْدَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يُجَاءُ بِرَجُلٍ فَيُطْرَحُ فِي النَّارِ فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلاَنُ أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ إِنِّي كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ أَفْعَلُهُ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ"
(13/48)

قوله: "باب الفتنة التي تموج كموج البحر" كأنه يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عاصم ابن ضمرة عن علي قال: "وضع الله في هذه الأمة خمس فتن " فذكر الأربعة ثم فتنة تموج كموج البحر وهي التي يصبح الناس فيها كالبهائم أي لا عقول لهم، ويؤيده حديث أبي موسى " تذهب عقول أكثر ذلك الزمان " وأخرج ابن أبي شيبة من وجه آخر عن حذيفة قال: "لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك؛ إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل" . قوله: "وقال ابن عيينة" هو سفيان، وقد وصله البخاري في التاريخ الصغير عن عبد الله بن محمد المسندي " حدثنا سفيان بن عيينة". قوله: "عن خلف بن حوشب" بمهملة ثم معجمة ثم موحدة بوزن جعفر، وخلف كان من أهل الكوفة روى عن جماعة من كبار التابعين وأدرك بعض الصحابة لكن لم أجد له رواية عن صحابي، وكان عابدا. وثقه العجلي. وقال النسائي لا بأس به، وأثنى عليه ابن عيينة والربيع بن أبي راشد، وروى عنه أيضا شعبة، وليس له في البخاري إلا هذا الموضع. قوله: "كانوا يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن" أي عند نزولها. قوله: "قال امرؤ القيس" كذا وقع عند أبي ذر في نسخة، والمحفوظ أن الأبيات المذكورة لعمرو ابن معد يكرب الزبيدي كما جزم به أبو العباس المبرد في الكامل، وكذا رويناه في " كتاب الغرر من الأخبار " لأبي بكر خمد بن خلف القاضي المعروف بوكيع قال: "حدثنا معدان بن علي حدثنا عمرو بن محمد الناقد حدثنا سفيان بن عيينة عن خلف بن حوشب قال قال عمرو بن معد يكرب " وبذلك جزم السهيلي في " الروض " ووقع لنا موصولا من وجه آخر وفيه زيادة رويناه في " فوائد الميمون بن حمزة المصري " عن الطحاوي فيما زاده في السنن التي رواها عن المزني عن الشافعي فقال: "حدثنا المزني حدثنا الحميدي عن سفيان عن خلف بن حوشب قال قال عيسى بن مريم للحواريين كما ترك لكم الملوك الحكمة فاتركوا لهم الدنيا " وكان خلف يقول ينبغي للناس أن يتعلموا هذه الأبيات في الفتنة. قوله: "الحرب أول ما تكون فتية" بفتح الفاء وكسر المثناة وتشديد التحتانية أي شابة، حكى ابن التين عن سيبويه الحرب مؤنثة وعن المبرد قد تذكر وأنشد له شاهدا قال: وبعضهم يرفع " أول وفتية " لأنه مثل، ومن نصب أول قال إنه الخبر، ومنهم من قدره الحرب أول ما تكون أحوالها إذا كانت فتية، ومنهم من أعرب أول حالا " وقال غيره يجوز فيه أربعة أوجه رفع أول ونصب فتية وعكسه ورفعهما جميعا ونصبهما فمن رفع أول ونصب فتية فتقديره الحرب أول أحوالها إذا كانت فتية فالحرب مبتدأ وأول مبتدأ ثان وفتية حال سدت مسد الخبر والجملة خبر الحرب، ومن عكس فتقديره الحرب في أول أحوالها فتية فالحرب مبتدأ وفتية خبرها وأول منصوب على الظرف، ومن رفعهما فالتقدير الحرب أول أحوالها فأول مبتدأ ثان أو بدل من الحرب وفتية خبر، ومن نصبهما جعل أول ظرفا وفتية حالا والتقدير الحرب في أول أحوالها إذا كانت فتية وتسعى خبر عنها، أي الحرب في حال ما هي فتية أي في وقت وقوعها يفر من لم يجربها حتى يدخل فيها فتهلكه. قوله: "بزينتها" كذا فيه من الزينة، ورواه سيبويه ببزتها بموحدة وزاي مشددة والبزة اللباس الجيد. قوله: "إذا اشتعلت" بشين معجمة وعين مهملة كناية عن هيجانها، ويجوز في " إذا " أن تكون ظرفية وأن تكون شرطية والجواب ولت، وقوله: "وشب ضرامها " هو بضم الشين المعجمة ثم موحدة تقول شبت الحرب إذا اتقدت وضرامها بكسر الضاد المعجمة أي اشتعالها. قوله: "ذات حليل" بحاء مهملة والمعنى أنها صارت لا يرغب أحد في تزويجها، ومنهم من قاله بالخاء المعجمة. قوله: "شمطاء" بالنصب هو وصف العجوز، والشمط بالشين المعجمة اختلاط الشعر الأبيض بالشعر الأسود. وقال الداودي، هو كناية عن كثرة الشيب.
(13/49)

وقوله: "ينكر لونها " أي يبدل حسنها بقبح. ووقع في رواية الحميدي " شمطاء جزت رأسها " بدل قوله: "ينكر لونها " وكذلك أنشده السهيلي في الروض. وقوله: "مكروهة للشم والتقبيل " يصف فاها بالبخر مبالغة في التنفير منها، والمراد بالتمثل بهذه الأبيات استحضار ما شاهدوه وسمعوه من حال الفتنة، فإنهم يتذكرون بإنشادها ذلك فيصدهم عن الدخول فيها حتى لا يغتروا بظاهر أمرها أولا. ثم ذكر فيه ثلاثة أحاديث: أحدها حديث حذيفة. قوله: "حدثنا شقيق" هو أبو وائل بن سلمة الأسدي، وقد تقدم في الزكاة من طريق جرير عن الأعمش عن أبي وائل. قوله: "سمعت حذيفة يقول: بينا نحن جلوس عند عمر" تقدم شرحه مستوفى في علامات النبوة، وسياقه هناك أتم. وخالف أبو حمزة السكري أصحاب الأعمش فقال: "عن أبي وائل عن مسروق قال: قال عمر " وقوله هنا " ليس عن هذا أسألك " وقع في رواية ربعي بن حراش عن حذيفة عند الطبراني " لم أسأل عن فتنة الخاصة " وقوله: "ولكن التي تموج كموج البحر، فقال: ليس عليك منها بأس " في رواية الكشميهني: "عليكم " بصيغة الجمع، ووقع في رواية ربعي، فقال حذيفة " سمعته يقول: يأتيكم بعدي فتن كموج البحر يدفع بعضها بعضا " فيؤخذ منه جهة التشبيه بالموج وأنه ليس المراد به الكثرة فقط، وزاد في رواية ربعي " فرفع عمر يده فقال: اللهم لا تدركني، فقال حذيفة: لا تخف " وقوله: "إذا لا يغلق أبدا؟ قلت: أجل " في رواية ربعي " قال حذيفة كسرا ثم لا يغلق إلى يوم القيامة". قوله: "كما يعلم أن دون غد ليلة" أي علمه علما ضروريا مثل هذا " قال ابن بطال: إنما عدل حذيفة حين سأله عمر عن الإخبار بالفتنة الكبرى إلى الإخبار بالفتنة الخاصة لئلا يغم ويشتغل باله، ومن ثم قال له " إن بينك وبينها بابا مغلقا " ولم يقل له أنت الباب وهو يعلم أنه الباب فعرض له بما فهمه ولم يصرح وذلك من حسن أدبه. وقول عمر " إذا كسر لم يغلق " أخذه من جهة أن الكسر لا يكون إلا غلبة والغلبة لا تقع إلا في الفتنة، وعلم من الخبر النبوي أن بأس الأمة بينهم واقع، وأن الهرج لا يزال إلى يوم القيامة كما وقع في حديث شداد رفعه: "إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة". قلت: أخرجه الطبري وصححه ابن حبان. وأخرج الخطيب في " الرواة عن مالك " أن عمر دخل على أم كلثوم بنت علي فوجدها تبكي فقال: ما يبكيك؟ قالت: هذا اليهودي - لكعب الأحبار - يقول: إنك باب من أبواب جهنم، فقال عمر: ما شاء الله. ثم خرج فأرسل إلى كعب فجاءه فقال: يا أمير المؤمنين، والذي نفسي بيده لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة. فقال: ما هذا، مرة في الجنة ومرة في النار؟ فقال: إنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقتحموا فيها، فإذا مت اقتحموا. قوله: "فأمرنا مسروقا" احتج به من قال إن الأمر لا يشترط فيه العلو ولا الاستعلاء. قوله: "عن شريك بن عبد الله" هو بن أبي نمر. ولم يخرج البخاري عن شريك بن عبد الله النخعي القاضي شيئا. قوله: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حائط من حوائط المدينة لحاجته" تقدم اسم الحائط المذكور مع شرح الحديث في مناقب أبي بكر، وقوله هنا " لأكونن اليوم بواب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرني " قال الداودي في الرواية الأخرى " أمرني بحفظ الباب: "وهو اختلاف ليس المحفوظ إلا أحدهما، وتعقب بإمكان الجمع بأنه فعل ذلك ابتداء من قبل نفسه فلما استأذن أولا لأبي بكر وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن له ويبشره بالجنة وافق ذلك اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لحفظ الباب عليه لكونه كان في حال خلوة وقد كشف عن ساقه ودلى رجليه فأمره بحفظ الباب، فصادف أمره ما كان أبو موسى ألزم نفسه به قبل الأمر. ويحتمل أن يكون أطلق الأمر على التقرير
(13/50)

وقد مضى شيء من هذا في مناقب أبي بكر. وقوله هنا " وجلس على قف البئر " في رواية غير الكشميهني: "في " بدل " على " والقف ما ارتفع من متن البئر. وقال الداودي: ما حول البئر. قلت: والمراد هنا مكان يبنى حول البئر للجلوس، والقف أيضا الشيء اليابس، وفي أودية المدينة واد يقال له القف وليس مرادا هنا. وقوله: "فدخل فجاء عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم: "في رواية الكشميهني: "فجلس " بدل " فجاء " وقوله: "فامتلأ القف " في رواية الكشميهني: "وامتلأ " بالواو، والمراد من تخريجه هنا الإشارة إلى أن قوله في حق عثمان " بلاء يصيبه " هو ما وقع له من القتل الذي نشأت عنه الفتن الواقعة بين الصحابة في الجمل ثم في صفين وما بعد ذلك. قال ابن بطال: إنما خص عثمان بذكر البلاء مع أن عمر قتل أيضا لكون عمر لم يمتحن بمثل ما امتحن عثمان من تسلط القوم الذين أرادوا منه أن ينخلع من الإمامة بسبب ما نسبوه إليه من الجور والظلم مع تنصله من ذلك واعتذاره عن كل ما أوردوه عليه ثم هجومهم عليه داره وهتكهم ستر أهله، وكل ذلك زيادة على قتله. قلت: وحاصله أن المراد بالبلاء الذي خص به الأمور الزائدة على القتل وهو كذلك. قوله: "قال فتأولت ذلك قبورهم" في رواية الكشميهني: "فأولت " قال الداودي: كان سعيد ابن المسيب لجودته في عبارة الرؤيا يستعمل التعبير فيما يشبهها. قلت: ويؤخذ منه أن التمثيل لا يستلزم التسوية، فإن المراد بقوله: "اجتمعوا " مطلق الاجتماع لا خصوص كون أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله كما كانوا على البئر، وكذا عثمان انفرد قبره عنهم ولم يستلزم أن يكون مقابلهم. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش. وفي رواية أحمد عن محمد بن جعفر، عن شعبة عن سليمان ومنصور وكذا للإسماعيلي عن القاسم بن زكريا عن بشر بن خالد شيخ البخاري فيه لكنه ساقه على لفظ سليمان وقال في آخره: "قال شعبة وحدثني منصور عن أبي وائل عن أسامة " نحوا منه إلا أنه زاد فيه: "فتندلق أقتاب بطنه". قوله: "قيل لأسامة: ألا تكلم هذا؟" كذا هنا بإبهام القائل وإبهام المشار إليه، وتقدم في صفة النار من بدء الخلق من طريق سفيان بن عيينة عن الأعمش بلفظ: "لو أتيت فلانا فكلمته " وجزاء الشرط محذوف والتقدير لكان صوابا، ويحتمل أن تكون " لو " للتمني ووقع اسم المشار إليه عند مسلم من رواية أبي معاوية عن الأعمش عن شقيق عن أسامة " قيل له ألا تدخل على عثمان فتكلمه " ولأحمد عن يعلى بن عبيد عن الأعمش " ألا تكلم عثمان". قوله: "قد كلمته ما دون أن أفتح بابا" أي كلمته فيما أشرتم إليه، لكن على سبيل المصلحة والأدب في السر بغير أن يكون في كلامي ما يثير فتنة أو نحوها. وما موصوفة ويجوز أن تكون موصولة. قوله: "أكون أول من يفتحه" في رواية الكشميهني: "فتحه " بصيغة الفعل الماضي وكذا في رواية الإسماعيلي؛ وفي رواية سفيان " قال إنكم لترون - أي تظنون - أني لا أكلمه إلا أسمعتكم " أي إلا بحضوركم، وسقطت الألف من بعض النسخ فصار بلفظ المصدر أي إلا وقت حضوركم حيث تسمعون وهي رواية يعلى بن عبيد المذكورة، وقوله في رواية سفيان " إني أكلمه في السر دون أن أفتح بابا لا أكون أول من فتحه " عند مسلم مثله لكن قال بعد قوله إلا أسمعتكم " والله لقد كلمته فيما بيني وبينه دون أن أفتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه " يعني لا أكلمه إلا مع مراعاة المصلحة بكلام لا يهيج به فتنة. قوله: "وما أنا بالذي أقول لرجل بعد أن يكون أميرا على رجلين أنت خير" في رواية الكشميهني: "إيت خيرا " بصيغة فعل الأمر من الإيتاء ونصب خيرا على المفعولية، والأول أولى فقد وقع في رواية سفيان " ولا أقول لأمير إن كان على أميرا " هو بكسر همزة إن ويجوز فتحها وقوله: "كان على - بالتشديد - أميرا أنه خير الناس " وفي
(13/51)

رواية أبي معاوية عند مسلم: "يكون على أميرا " وفي رواية يعلى " وإن كان على أميرا". قوله: "بعدما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يجاء برجل" في رواية سفيان " بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وما سمعته يقول؟ قال سمعته يقول: يجاء بالرجل " وفي رواية عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عند أحمد " يجاء بالرجل الذي كان يطاع في معاصي الله فيقذف في النار". قوله: "فيطحن فيها كطحن الحمار" في رواية الكشميهني: "كما يطحن الحمار " كذا رأيت في نسخة معتمدة " فيطحن " بضم أوله على البناء للمجهول، وفي أخرى بفتح أوله وهو أوجه، فقد تقدم في رواية سفيان وأبي معاوية " فتندلق أقتابه فيدور كما يدور الحمار " وفي رواية عاصم " يستدير فيها كما يستدير الحمار " وكذا في رواية أبي معاوية. والإقتاب جمع قتب بكسر القاف وسكون المثناة بعدها موحدة هي الأمعاء، واندلاقها خروجها بسرعة يقال اندلق السيف من غمده إذا خرج من غير أن يسله أحد، وهذا يشعر بأن هذه الزيادة كانت أيضا عند الأعمش فلم يسمعها شعبة منه وسمع معناها من منصور كما تقدم. قوله: "فيطيف به أهل النار" أي يجتمعون حوله، يقال أطاف به القوم إذا حلقوا حوله حلقة وإن لم يدوروا، وطافوا إذا داروا حوله، وبهذا التقرير يظهر خطأ من قال إنهما بمعنى واحد. وفي رواية سفيان وأبي معاوية " فيجتمع عليه أهل النار " وفي رواية عاصم " فيأتي عليه أهل طاعته من الناس". قوله: "فيقولون أي فلان" في رواية سفيان وأبي معاوية " فيقولون يا فلان " وزاد: "ما شأنك " وفي رواية عاصم " أي قل، أين ما كنت تأمرنا به "؟. قوله: "ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى" في رواية سفيان " أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا "؟ قوله: "إني كنت آمر بالمعروف ولا أفعله وأنهى عن المنكر وأفعله" في رواية سفيان " آمركم وأنهاكم " وله ولأبي معاوية " وآتيه ولا آتيه " وفي رواية يعلى " بل كنت آمر " وفي رواية عاصم " وإني كنت آمركم بأمر وأخالفكم إلى غيره: "قال المهلب: أرادوا من أسامة أن يكلم عثمان وكان من خاصته وممن يخف عليه في شأن الوليد بن عقبة لأنه كان ظهر عليه ريح نبيذ وشهر أمره وكان أخا عثمان لأمه وكان يستعمله، فقال أسامة: قد كلمته سرا دون أن أفتح بابا، أي باب الإنكار على الأئمة علانية خشية أن تفترق الكلمة. ثم عرفهم أنه لا يداهن أحدا ولو كان أميرا بل ينصح له في السر جهده، وذكر لهم قصة الرجل الذي يطرح في النار لكونه كان يأمر بالمعروف ولا يفعله ليتبرأ مما ظنوا به من سكوته عن عثمان في أخيه انتهى ملخصا. وجزمه بأن مراد من سأل أسامة الكلام مع عثمان أن يكلمه في شأن الوليد ما عرفت مستنده فيه، وسياق مسلم من طريق جرير عن الأعمش يدفعه، ولفظه عن أبي وائل " كنا عند أسامة بن زيد فقال له رجل: ما يمنعك أن تدخل على عثمان فتكلمه فيما يصنع " قال وساق الحديث بمثله، وجزم الكرماني بأن المراد أن يكلمه فيما أنكره الناس على عثمان من تولية أقاربه وغير ذلك مما اشتهر، وقوله إن السبب في تحديث أسامة بذلك ليتبرأ مما ظنوه به ليس بواضح، بل الذي يظهر أن أسامة كان يخشى على من ولى ولاية ولو صغرت أنه لا بد له من أن يأمر الرعية بالمعروف وينهاهم عن المنكر ثم لا يأمن من أن يقع منه تقصير، فكان أسامة يرى أنه لا يتأمر على أحد، وإلى ذلك أشار بقوله: "لا أقول للأمير إنه خير الناس " أي بل غايته أن ينجو كفافا. وقال عياض: مراد أسامة أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام لما يخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطف به وينصحه سرا فذلك أجدر بالقبول. وقوله: "لا أقول لأحد يكون على أميرا إنه خير الناس " فيه ذم مداهنة الأمراء في الحق وإظهار ما يبطن خلافه كالمتملق بالباطل، فأشار أسامة إلى المداراة المحمودة والمداهنة المذمومة، وضابط المداراة أن
(13/52)

لا يكون فيها قدح في الدين، والمداهنة المذمومة أن يكون فيها تزيين القبيح وتصويب الباطل ونحو ذلك. وقال الطبري: اختلف السلف في الأمر بالمعروف، فقالت طائفة يجب مطلقا واحتجوا بحديث طارق بن شهاب رفعه: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " وبعموم قوله: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده " الحديث. وقال بعضهم: يجب إنكار المنكر، لكن شرطه أن لا يلحق المنكر بلاء لا قبل له به من قتل ونحوه. وقال آخرون: ينكر بقلبه لحديث أم سلمة مرفوعا: "يستعمل عليكم أمراء بعدي، فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع " الحديث قال: والصواب اعتبار الشرط المذكور ويدل عليه حديث: "لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه " ثم فسره بأن يتعرض من البلاء لما لا يطيق انتهى ملخصا. وقال غيره: يجب الأمر بالمعروف لمن قدر عليه ولم يخف على نفسه منه ضررا ولو كان الآمر متلبسا بالمعصية، لأنه في الجملة يؤجر على الأمر بالمعروف ولا سيما إن كان مطاعا، وأما إثمه الخاص به فقد يغفره الله له وقد يؤاخذه به، وأما من قال: لا يأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وصمة، فإن أراد أنه الأولى فجيد وإلا فيستلزم سد باب الأمر إذا لم يكن هناك غيره. ثم قال الطبري: فإن قيل كيف صار المأمورون بالمعروف في حديث أسامة المذكور في النار؟ والجواب أنهم لم يمتثلوا ما أمروا به فعذبوا بمعصيتهم وعذب أميرهم بكونه كان يفعل ما ينهاهم عنه، وفي الحديث تعظيم الأمراء والأدب معهم وتبليغهم ما يقول الناس فيهم ليكفوا ويأخذوا حذرهم بلطف وحسن تأدية بحيث يبلغ المقصود من غير أذية للغير.
(13/53)