باب مَنْ رَأَى لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ إِذَا لَمْ يَخَفْ الظُّنُونَ وَالتُّهَمَةَ
 
كَمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِهِنْدٍ خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ وَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا
7161 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ
(13/138)

يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ وَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ ثُمَّ قَالَتْ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ حَرَجٍ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا قَالَ لَهَا لاَ حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ مِنْ مَعْرُوفٍ
قوله: "باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس إذا لم يخف الظنون والتهمة" أشار إلى قول أبي حنيفة ومن وافقه. أن للقاضي أن يحكم بعلمه في حقوق الناس وليس له أن يقضي بعلمه في حقوق الله كالحدود لأنها مبنية على المسامحة، وله في حقوق الناس تفصيل، قال: إن كان ما علمه قبل ولايته لم يحكم لأنه بمنزلة ما سمعه من الشهود وهو غير حاكم، بخلاف ما علمه في ولايته. وأما قوله: "إذا لم يخف الظنون والتهمة " فقيد به قول من أجاز للقاضي أن يقضي بعلمه لأن الذين منعوا ذلك مطلقا اعتلوا بأنه غير معصوم فيجوز أن تلحقه التهمة إذا قضى بعلمه أن يكون حكم لصديقه على عدوه فحسمت المادة فجعل المصنف محل الجواز ما إذا لم يخف الحاكم الظنون والتهمة، وأشار إلى أنه يلزم من المنع من أجل حسم المادة أن يسمع مثلا رجلا طلق امرأته طلاقا بائنا. ثم رفعته إليه فأنكر فإذا حلفه فحلف لزم أن يديمه على فرج حرام فيفسق به فلم يكن له بد من أن لا يقبل قوله ويحكم عليه بعلمه، فإن خشي التهمة فله أن يدفعه ويقيم شهادته عليه عند حاكم آخر، وسيأتي مزيد لذلك في " باب الشهادة تكون عند الحاكم " وقال الكرابيسي: الذي عندي أن شرط جواز الحكم بالعلم أن يكون الحاكم مشهورا بالصلاح والعفاف والصدق ولم يعرف بكبير زلة ولم يؤخذ عليه خربة بحديث تكون أسباب التقى فيه موجودة وأسباب التهم فيه مفقودة فهذا الذي يجوز له أن يحكم بعلمه مطلقا. قلت: وكأن البخاري أخذ ذلك عنه فإنه من مشايخه. قوله: "كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لهند. خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" هذا اللفظ وصله المؤلف في النفقات من طريق هشام بن عروة عن أبيه، وقد ساق القصة في هذا الباب بغير هذا اللفظ من طريق الزهري عن عروة وقوله: "وذلك إذا كان أمرا مشهورا " هذا تفسير قول من قال يقضي بعلمه مطلقا، ويحتمل أن يكون المراد بالمشهور الشيء المأمور بأخذه. قوله: "ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلخ" تقدم في السيرة النبوية في المناقب والكلام عليه، وتقدم شرح ما تضمنه الحديث المذكور في " كتاب النفقات " وفيه بيان استدلال من استدل به على جواز حكم الحاكم بعلمه ورد قول المستدل به على الحكم على الغائب. قال ابن بطال: احتج من أجاز للقاضي أن يحكم بعلمه بحديث الباب فإنه صلى الله عليه وسلم قضى لها بوجوب النفقة لها ولولدها لعلمه بأنها زوجة أبي سفيان ولم يلتمس على ذلك بينة، ومن حيث النظر أن علمه أقوى من الشهادة لأنه يتيقن ما علمه، والشهادة قد تكون كذبا، وحجة من منع قوله حديث أم سلمة " إنما أقضي له بما أسمع " ولم يقل بما أعلم. وقال للحضرمي " شاهداك أو يمينه " وفيه: "وليس لك إلا ذلك " ولما يخشى من قضاة السوء أن يحكم أحدهم بما شاء ويحيل على علمه احتج من منع مطلقا بالتهمة، واحتج من فصل بأن الذي علمه الحاكم قبل القضاء كان على طريق الشهادة فلو حكم به لحكم بشهادة نفسه فصار بمنزلة من قضى بدعواه على غيره، وأيضا فيكون كالحاكم يشاهد واحد، وقد تقدم له تعليل آخر وأما في حال القضاء ففي حديث أم سلمة " فإنما أقضي له على نحو ما أسمع " ولم يفرق بين سماعه من شاهد أو مدع، وسيأتي تفصيل المذاهب في الحكم بالعلم في " باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولاية القضاء"
(13/139)

وقال ابن المنير: لم يتعرض ابن بطال المقصود الباب، وذلك أن البخاري احتج لجواز الحكم بالعلم بقصة هند، فكان ينبغي للشارح أن يتعقب ذلك بأن لا دليل فيه لأنه خرج مخرج الفتيا وكلام المفتي يتنزل على تقدير صحة إنهاء المستفتي، فكأنه قال: إن ثبت أنه يمنعك حقك جاز لك استيفاؤه مع الإمكان. قال: وقد أجاب بعضهم بأن الأغلب من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم الحكم والإلزام، فيجب تنزيل لفظه: "عليه " لكن يرد عليه أنه صلى الله عليه وسلم ما ذكر في قصة هند أنه يعلم صدقها، بل ظاهر الأمر أنه لم يسمع هذه القصة إلا منها فكيف يصح الاستدلال به على حكم الحاكم بعلمه؟. قلت: وما ادعى نفيه بعيد، فإنه لو لم يعلم صدقها لم يأمرها بالأخذ؛ واطلاعه على صدقها ممكن بالوحي دون من سواه فلا بد من سبق علم، ويؤيد اطلاعه على حالها من قبل أن تذكر ما ذكرت من المصاهرة، ولأنه قبل قولها إنها زوجة أبي سفيان بغير بينة واكتفي فيه بالعلم، ولأنه لو كانت فتيا لقال مثلا تأخذ، فلما أتي بصيغة الأمر بقوله: "خذي " دل على الحكم، وسيأتي لهذا مزيد في " باب القضاء على الغائب " ثم قال ابن المنير أيضا: لو كان حكما لاستدعى معرفة المحكوم به، والواقع أن المحكوم به غير معين، كذا قال والله أعلم.
(13/140)