باب الشَّهَادَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي وِلاَيَتِهِ الْقَضَاءَ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ لِلْخَصْمِ
 
وَقَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي وَسَأَلَهُ إِنْسَانٌ الشَّهَادَةَ فَقَالَ ائْتِ الأَمِيرَ حَتَّى أَشْهَدَ لَكَ وَقَالَ عِكْرِمَةُ قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا عَلَى حَدٍّ زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ وَأَنْتَ أَمِيرٌ فَقَالَ شَهَادَتُكَ شَهَادَةُ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ صَدَقْتَ قَالَ عُمَرُ لَوْلاَ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُ آيَةَ الرَّجْمِ بِيَدِي وَأَقَرَّ مَاعِزٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزِّنَا أَرْبَعًا فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْهَدَ مَنْ حَضَرَهُ وَقَالَ حَمَّادٌ إِذَا أَقَرَّ مَرَّةً عِنْدَ الْحَاكِمِ رُجِمَ وَقَالَ الْحَكَمُ أَرْبَعًا
7170 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَوْمَ حُنَيْنٍ مَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ فَقُمْتُ لِأَلْتَمِسَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ لِي فَجَلَسْتُ ثُمَّ بَدَا لِي فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ سِلاَحُ هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِي يَذْكُرُ عِنْدِي قَالَ فَأَرْضِهِ مِنْهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ كَلاَ لاَ يُعْطِهِ أُصَيْبِغَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَدَعَ أَسَدًا مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدَّاهُ إِلَيَّ فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ خِرَافًا فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ عَنْ اللَّيْثِ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدَّاهُ إِلَيَّ وَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ الْحَاكِمُ لاَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ شَهِدَ بِذَلِكَ فِي وِلاَيَتِهِ أَوْ قَبْلَهَا وَلَوْ أَقَرَّ خَصْمٌ عِنْدَهُ لِآخَرَ بِحَقٍّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لاَ يَقْضِي عَلَيْهِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ حَتَّى يَدْعُوَ بِشَاهِدَيْنِ فَيُحْضِرَهُمَا إِقْرَارَهُ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَا سَمِعَ أَوْ رَآهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ قَضَى بِهِ وَمَا كَانَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَقْضِ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ بَلْ يَقْضِي بِهِ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ وَإِنَّمَا يُرَادُ مِنْ الشَّهَادَةِ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ فَعِلْمُهُ أَكْثَرُ مِنْ الشَّهَادَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الأَمْوَالِ وَلاَ يَقْضِي فِي غَيْرِهَا وَقَالَ الْقَاسِمُ لاَ يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُمْضِيَ قَضَاءً بِعِلْمِهِ دُونَ عِلْمِ غَيْرِهِ مَعَ أَنَّ عِلْمَهُ أَكْثَرُ مِنْ شَهَادَةِ غَيْرِهِ وَلَكِنَّ فِيهِ تَعَرُّضًا لِتُهَمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَإِيقَاعًا لَهُمْ فِي الظُّنُونِ وَقَدْ كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظَّنَّ فَقَالَ إِنَّمَا هَذِهِ صَفِيَّةُ
7171 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَتْهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَلَمَّا رَجَعَتْ انْطَلَقَ مَعَهَا فَمَرَّ بِهِ رَجُلاَنِ مِنْ الأَنْصَارِ فَدَعَاهُمَا
(13/158)

فَقَالَ إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ قَالاَ سُبْحَانَ اللَّهِ قَالَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ رَوَاهُ شُعَيْبٌ وَابْنُ مُسَافِرٍ وَابْنُ أَبِي عَتِيقٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ يَعْنِي ابْنَ حُسَيْنٍ عَنْ صَفِيَّةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: "باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولاية القضاء أو قبل ذلك للخصم" أي هل يقضي له على خصمه بعلمه ذلك أو يشهد له عند حاكم آخر؟ هكذا أورد الترجمة مستفهما بغير جزم لقوة الخلاف في المسألة " وإن كان آخر كلامه يقتضي اختيار أن لا يحكم بعلمه فيها". قوله: "وقال شريح القاضي" هو ابن الحارث الماضي ذكره قريبا. قوله: "وسأله إنسان الشهادة فقال: ائت الأمير حتى أشهد لك" وصله سفيان الثوري في جامعه عن عبد الله بن شبرمة عن الشعبي قال: "أشهد رجل شريحا جاء فخاصم إليه فقال: ائت الأمير وأنا أشهد لك " وأخرجه عبد الرزاق عن ابن عيينة عن ابن شبرمة قال: قلت للشعبي: يا أبا عمرو أرأيت رجلين استشهدا على شهادة فمات أحدهما واستقضى الآخر، فقال: أتى شريح فيها وأنا جالس فقال: "ائت الأمير وأنا أشهد لك". قوله: "وقال عكرمة قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: لو رأيت رجلا على حد إلخ" وصله الثوري أيضا عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة به، ووقع في الأصل " لو رأيت - بالفتح - وأنت أمير " وفي الجواب فقال: "شهادتك " ووقع في الجامع بلفظ: "أرأيت - بالفتح - لو رأيت بالضم - رجلا سرق أو زنا، قال: أرى شهادتك " وقال: "أصبت " بدل قوله: "صدقت " وأخرجه ابن أبي شيبة عن شريك عن عبد الكريم بلفظ: أرأيت لو كنت القاضي أو الوالي وأبصرت إنسانا على حد أكنت تقيمه عليه؟ قال: لا، حتى يشهد معي غيري، قال أصبت لو قلت غير ذلك لم تجد وهو بضم المثناة وكسر الجيم وسكون الدال من الإجادة. قلت: وقد جاء عن أبي بكر الصديق نحو هذا وسأذكره بعد، وهذا السند منقطع بين عكرمة ومن ذكره عنه لأنه لم يدرك عبد الرحمن فضلا عن عمر، وهذا من المواضع التي ينبه عليها من يغتر بتعميم قولهم إن التعليق الجازم صحيح، فيجب تقييد ذلك بأن يزاد إلى من علق عنه ويبقى النظر فيما فوق ذلك. قوله: "وقال عمر: لولا أن يقول الناس زاد عمر في " كتاب الله " لكتبت آية الرجم بيدي" هذا طرف من حديث آخر أخرجه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر كما تقدم التنبيه عليه في " باب الاعتراف بالزنا " في شرح حديثه الطويل في قصة الرجم الذي هو طرف من قصة بيعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، قال المهلب: استشهد البخاري لقول عبد الرحمن بن عوف المذكور قبله بقول عمر هذا أنه كانت عنده شهادة في آية الرجم أنها من القرآن فلم يلحقها بنص المصحف بشهادته وحده، وأفصح في العلة في ذلك بقوله: لولا أن يقال زاد عمر في " كتاب الله " فأشار إلى أن ذلك من قطع الذرائع لئلا تجد حكام السوء سبيلا إلى أن يدعوا العلم لمن أحبوا له الحكم بشيء. قوله: "وأقر ماعز عند النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا أربعا فأمر برجمه، ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أشهد من حضره" هذا طرف من الحديث الذي ذكر قبل بباب، وقد تقدم موصولا من حديث أبي هريرة وحكاية الخلاف على أبي سلمة في اسم صحابيه. قوله: "وقال حماد" هو ابن أبي سليمان فقيه الكوفة. قوله: "إذا أقر مرة عند الحاكم رجم" وقال الحكم، هو ابن عتيبة بمثناة ثم موحدة مصغر وهو فقيه الكوفة أيضا. قوله: "أربعا" أي لا يرجم حتى يصر أربع مرات كما في حديث ماعز، وقد وصله ابن أبي شيبة من طريق شعبة قال: "سألت حمادا
(13/159)

عن الرجل يقر بالزنا كم يرد؟ قال: مرة. قال: وسألت الحكم فقال: أربع مرات " وقد تقدم البحث في ذلك في شرح قصة ماعز في أبواب الرجم. ثم ذكر حديث أبي قتادة في قصة سلب القتيل الذي قتله في غزوة حنين، وقد تقدم شرحه مستوفى هناك وقوله هنا " قال فأرضه منه " هي رواية الأكثر، وعند الكشمهيني " مني " وقوله: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأداه إلي " في رواية أبي ذر عن غير الكشميهني: "فعلم " بفتح المهملة وكسر اللام بدل " فقام " وكذا لأكثر رواة الفربري، وكذا أخرجه أبو نعيم من رواية الحسن بن سفيان عن قتيبة، وهو المحفوظ في رواية قتيبة هذه، ومن ثم عقبها البخاري بقوله: "وقال لي عبيد الله عن الليث: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأداه إلي " ووقع في رواية كريمة: "فأمر " بفتح الهمزة والميم بعدها راء، وعبد الله المذكور هو ابن صالح أبو صالح وهو كاتب الليث والبخاري يعتمده في الشواهد، ولو كانت رواية قتيبة بلفظ: "فقام " لم يكن لذكر رواية عبد الله بن صالح معنى. قال المهلب: قوله في رواية قتيبة " فعلم النبي صلى الله عليه وسلم: "يعني علم أن أبا قتادة هو قاتل القتيل المذكور، قال وهي وهم قال: والصحيح فيه رواية عبد الله بن صالح بلفظ: "فقام " قال وقد رد بعض الناس الحجة المذكورة فقال: ليس في إقرار ماعز عند النبي صلى الله عليه وسلم ولا حكمه بالرجم دون أن يشهد من حضره ولا في إعطائه السلب لأبي قتادة حجة للقضاء بالعلم لأن ماعزا إنما كان إقراره عند النبي صلى الله عليه وسلم بحضرة الصحابة، إذ معلوم أنه كان صلى الله عليه وسلم لا يقعد وحده فلم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم أن يشهدهم على إقراره لسماعهم منه ذلك، وكذلك قصة أبي قتادة انتهى. وقال ابن المنير: لا حجة في قصة أبي قتادة، لأن معنى قوله: "فعلم النبي صلى الله عليه وسلم: "علم بإقرار الخصم فحكم عليه، فهي حجة للمذهب، يعني الصائر إلى جواز القضاء بالعلم فيما يقع في مجلس الحكم. وقال غيره: ظاهر أول القصة يخالف آخرها، لأنه شرط البينة بالقتل على استحقاق السلب ثم دفع السلب لأبي قتادة بغير بينة وأجاب الكرماني بأن الخصم اعترف، يعني فقام مقام البينة، وبأن المال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي منه من شاء ويمنع من شاء. قلت: والأول أولى، والبينة لا تنحصر في الشهادة، بل كل ما كشف الحق يسمى بينة. قوله: "وقال أهل الحجاز: الحاكم لا يقضي بعلمه، شهد بذلك في ولايته أو قبلها" هو قول مالك، قال أبو علي الكرابيسي: لا يقضي القاضي بما علم لوجود التهمة، إذ لا يؤمن على التقى أن يتطرق إليه التهمة قال: وأظنه ذهب إلى ما رواه ابن شهاب عن زبيد بن الصلت " أن أبا بكر الصديق قال: لوجدت رجلا على حد ما أقمته عليه حتى يكون معي غيري " ثم ساقه بسند صحيح عن ابن شهاب قال: ولا أحسب مالكا ذهب عليه هذا الحديث، فإن كان كذلك فقد قلد أكثر هذه الأمة فضلا وعلما. قلت: ويحتمل أن يكون ذهب إلى الأثر المقدم ذكره عن عمر وعبد الرحمن بن عوف، قال: ويلزم من أجاز للقاضي أن يقضي بعلمه مطلقا أنه لو عمد إلى رجل مستور لم يعهد منه فجور قط أن يرجمه ويدعي أنه رآه يزني، أو يفرق بينه وبين زوجته ويزعم أنه سمعه يطلقها، أو بينه وبين أمته ويزعم أنه سمعه يعتقها، فإن هذا الباب لو فتح لوجد كل قاض السبيل إلى قتل عدوه وتفسيقه والتفريق بينه وبين من يحب، ومن ثم قال الشافعي: لولا قضاة السوء لقلت إن للحاكم أن يحكم بعلمه انتهى. وإذا كان هذا في الزمان الأول فما الظن بالمتأخر، فيتعين حسم مادة تجويز القضاء بالعلم في هذه الأزمان المتأخرة لكثرة من يتولى الحكم ممن لا يؤمن على ذلك، والله أعلم. قوله: "ولو أقر خصم عنده لآخر بحق في مجلس القضاء فإنه لا يقضي عليه في قول بعضهم حتى يدعو بشاهدين فيحضرهما إقراره" قال ابن التين: ما ذكر عن عمر وعبد الرحمن هو قول مالك وأكثر أصحابه. وقال بعض أصحابه: يحكم بما علمه فيما
(13/160)

أقر به أحد الخصمين عنده في مجلس الحكم. وقال ابن القاسم: وأشهب لا يقضي بما يقع عنده في مجلس الحكم إلا إذا شهد به عنده. وقال ابن المنير: مذهب مالك أن من حكم بعلمه يقضي على المشهور، إلا إن كان علمه حادثا بعد الشروع في المحاكمة فقولان، وأما ما أقر به عنده في مجلس الحكم فيحكم ما لم ينكر الخصم بعد إقراره وقبل الحكم عليه فإن ابن القاسم قال: لا يحكم عليه حينئذ ويكون شاهدا. وقال ابن الماجشون: يحكم بعلمه. وفي المذهب تفاريع طويلة في ذلك. ثم قال ابن المنير: وقول من قال لا بد أن يشهد عليه في المجلس شاهدان يؤول إلى الحكم بالإقرار لأنه لا يخلوا أن يؤديا أو لا؛ إن أديا فلا بد من الأعذار، فإن أعذر احتيج إلى الإثبات وتسلسلت القضية، وإن لم يحتج رجع إلى الحكم بالإقرار، وإن لم يؤديا كالعدم. وأجاب غيره أن فائدة ذلك ردع الخصم عن الإنكار، لأنه إذا عرف أن هناك من يشهد امتنع من الإنكار خشية التعزير، بخلاف ما إذا أمن ذلك. قوله: "وقال بعض أهل العراق: ما سمع أو رآه في مجلس القضاء قضى به وما كان في غيره لم يقض إلا بشاهدين يحضرهما إقراره" بضم أوله من الرباعي. قلت: وهذا قول أبي حنيفة ومن تبعه، ويوافقهم مطرف وابن الماجشون وأصبغ وسحنون من المالكية. قال ابن التين: وجرى به العمل، ويوافقه ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن سيرين قال: "اعترف رجل عند شريح بأمر ثم أنكره فقضى عليه باعترافه، فقال: أتقضي علي بغير بينة " فقال شهد عليك ابن أخت خالتك، يعني نفسه. قوله: "وقال آخرون منهم: بل يقضي به لأنه مؤتمن" بفتح الميم اسم مفعول، وإنما يراد بالشهادة معرفة الحق، فعلمه أكبر من الشهادة وهو قول أبي يوسف ومن تبعه ووافقهم الشافعي. قال أبو علي الكرابيسي قال الشافعي بمصر فيما بلغني عنه: إن كان القاضي عدلا لا يحكم بعلمه في حد ولا قصاص إلا ما أقر به بين يديه ويحكم بعلمه في كل الحقوق مما علمه قبل أن يلي القضاء أو بعدما ولي، فقيد ذلك بكون القاضي عدلا إشارة إلى أنه ربما ولي القضاء من ليس بعدل بطريق التغلب. قوله: "وقال بعضهم" يعني أهل العراق "يقضي بعلمه في الأموال ولا يقضي غيرها" هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف فيما نقله الكرابيسي عنه إذا رأى الحاكم رجلا يزني مثلا لم يقض بعلمه حتى تكون بينة تشهد بذلك عنده، وهي رواية عن أحمد، قال أبو حنيفة: القياس أنه بحكم في ذلك كله بعلمه، ولكن أدع القياس وأستحسن أن لا يقضي في ذلك بعلمه. "تنبيه": اتفقوا على أنه يقضي في قبول الشاهد ورده بما يعلمه منه من تجريح أو تزكية. ومحصل الآراء في هذه المسألة سبعة، ثالثها في زمن قضائه خاصة، رابعها في مجلس حكمه، خامسها في الأموال دون غيرها، سادسها مثله وفي القذف أيضا وهو عن بعض المالكية، سابعها في كل شيء إلا في الحدود وهذا هو الراجح عند الشافعية. وقال ابن العربي: لا يقضي الحاكم بعلمه، والأصل فيه عندنا الإجماع على أنه لا يحكم بعلمه في الحدود، ثم أحدث بعض الشافعية قولا مخرجا أنه يجوز فيها أيضا حين رأوا أنها لازمة لهم، كذا قال فجرى على عادته في التهويل والإقدام على نقل الإجماع مع شهرة الاختلاف. قوله: "وقال القاسم: لا ينبغي للحاكم أن يقضي قضاء بعلمه" في رواية الكشمهيني يمضي. قوله: "دون علم غيره" أي إذا كان وحده عالما به لا غيره. قوله: "ولكن" بالتشديد وفي نسخة بالتخفيف وتعرض بالرفع. قوله: "وإيقاعا" عطف على تعرضا أو نصب على أنه مفعول معه والعامل فيه متعلق الظرف، والقاسم المذكور كنت أظنه أنه ابن محمد بن أبي بكر الصديق أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة لأنه إذا أطلق في الفروع الفقهية انصرف الذهن إليه، لكن رأيت في رواية عن أبي ذر أنه القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وهو الذي
(13/161)

تقدم ذكره قريبا في " باب الشهادة على الخط " فإن كان كذلك فقد خالف أصحابه الكوفيين ووافق أهل المدينة في هذا الحكم والله أعلم. قوله: " وقد كره النبي صلى الله عليه وسلم الظن فقال: إنما هذه صفية" هو طرف من الحديث الذي وصله بعد، وقوله في الطريق الموصولة عن علي بن الحسين أي ابن علي بن أبي طالب وهو الملقب بزين العابدين. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته صفية بنت حيي" هذا صورته مرسل، ومن ثم عقبه البخاري بقوله: "رواه شعيب وابن مسافر وابن أبي عتيق وإسحاق بن يحيى عن الزهري عن علي - أي ابن الحسين - عن صفية " يعني فوصلوه، فتحمل رواية إبراهيم بن سعد على أن علي بن حسين تلقاه عن صفية، وقد تقدم مثل ذلك في رواية سفيان عن الزهري مع شرح حديث صفية مستوفى في " كتاب الاعتكاف " فإنه ساقه هناك تاما وأورده هنا مختصرا. ورواية شعيب وهو ابن أبي حمزة وصلها المصنف في الاعتكاف أيضا وفي " كتاب الأدب " ورواية ابن مسافر وهو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي وصلها أيضا في الصوم وفي فرض الخمس، ورواية ابن أبي عتيق وهو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وصلها المصنف في الاعتكاف وأوردها في الأدب أيضا مقرونة برواية شعيب ورواية إسحاق بن يحيى وصلها الذهلي في " الزهريات " ورواه عن الزهري أيضا معمر فاختلف عليه في وصله وإرساله تقدم موصولا في صفة إبليس من رواية عبد الرزاق عنه ومرسلا في فرض الخمس من رواية هشام بن يوسف عن معمر وأوردها النسائي موصولة من رواية موسى بن أعين عن معمر ومرسلة من رواية ابن المبارك عنه ووصله أيضا عن الزهري عثمان ابن عمر بن موسى التيمي عند ابن ماجه وأبي عوانة في صحيحه، وعبد الرحمن بن إسحاق عند أبي عوانة أيضا، وهشيم عند سعيد بن منصور وآخرون. ووجه الاستدلال بحديث صفية لمن منع الحكم بالعلم أنه صلى الله عليه وسلم كره أن يقع في قلب الأنصاريين من وسوسة الشيطان شيء، فمراعاة نفي التهمة عنه مع عصمته تقتضي مراعاة نفي التهمة عمن هو دونه، وقد تقدم في " باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه " بيان حجة من أجاز ومن منع بما يعني عن إعادته هنا.
(13/162)