باب مَا جَاءَ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى 2
 
7371 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ
7372 - و حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ لَهُ إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ فَإِذَا صَلَّوْا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ
7373 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ وَالأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ سَمِعَا الأَسْوَدَ بْنَ هِلاَلٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ
7374 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا
7375 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ ابْنِ أَبِي هِلاَلٍ أَنَّ أَبَا الرِّجَالِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَتْ فِي حَجْرِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلاَتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِقُلْ هُوَ
(13/347)

اللَّهُ أَحَدٌ فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ"
قوله: "باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تعالى" المراد بتوحيد الله تعالى الشهادة بأنه إله واحد وهذا الذي يسميه بعض غلاة الصوفية توحيد العامة، وقد ادعى طائفتان في تفسير التوحيد أمرين اخترعوهما، أحدهما: تفسير المعتزلة كما تقدم، ثانيهما: غلاة الصوفية فإن أكابرهم لما تكلموا في مسألة المحو والفناء وكان مرادهم بذلك المبالغة في الرضا والتسليم وتفويض الأمر، بالغ بعضهم حتى ضاهي المرجئة في نفي نسبة الفعل إلى العبد، وجر ذلك بعضهم إلى معذرة العصاة، ثم غلا بعضهم فعذر الكفار، ثم غلا بعضهم فزعم أن المراد بالتوحيد اعتقاد وحدة الوجود، وعظم الخطب حتى ساء ظن كثير من أهل العلم بمتقدميهم وحاشاهم من ذلك، وقد قدمت كلام شيخ الطائفة الجنيد وهو في غاية الحسن والإيجاز، وقد رد عليه بعض من قال بالوحدة المطلقة فقال: وهل من غير، ولهم في ذلك كلام طويل ينبو عنه سمع كل من كان على فطرة الإسلام والله المستعان. وذكر في الباب أربعة أحاديث: حديث معاذ بن جبل في بعثه إلى اليمن، أورده من طريقين الأولى أعلى من الثانية، وقد أورد الطريق العالية في "كتاب الزكاة" وساقها هناك على لفظ أبي عاصم راويها، وذكره هناك من وجه آخر بنزول، وعبد الله بن أبي الأسود شيخه في هذا الباب هو ابن محمد بن أبي الأسود ينسب إلى جده واسمه حميد ابن الأسود، و " الفضل بن العلاء " يكنى أبا العلاء ويقال أبو العباس وهو كوفي نزل البصرة وثقه على بن المديني. وقال أبو حاتم الرازي شيخ يكتب حديثه. وقال النسائي ليس به بأس. وقال الدار قطني: كثير الوهم. قلت: وما له في البخاري سوى هذا الموضع وقد قرنه بغيره ولكنه ساق المتن هنا على لفظه. قوله: "عن أبي معبد" كذا للجميع بفتح الميم وسكون المهملة ثم موحدة، وفي بعض النسخ عن أبي سعيد وهو تصحيف، وكأن الميم انفتحت فصارت تشبه السين. قوله: "سمعت ابن عباس لما بعث" كذا فيه بحذف. "قال أو يقول" وقد جرت العادة بحذفه خطا ويقال يشترط النطق به. قوله: "لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى نحو أهل اليمن" أي إلى جهة أهل اليمن، وهذه الرواية تقيد الرواية المطلقة بلفظ: "حين بعثه إلى اليمن " فبينت هذه الرواية أن لفظ اليمن من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أو من إطلاق العام وإرادة الخاص، أو لكون اسم الجنس يطلق على بعضه كما يطلق على كله، والراجح أنه من حمل المطلق على المقيد كما صرحت به هذه الرواية، وقد تقدم في باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن في أواخر " المغازي " من رواية أبي بردة بن أبي موسى، وبعث كل واحد منهما على مخلاف قال: "واليمن مخلافان " وتقدم ضبط المخلاف وشرحه هناك، ثم قوله: "إلى أهل اليمن " من إطلاق الكل وإرادة البعض، لأنه إنما بعثه إلى بعضهم لا إلى جميعهم، ويحتمل أن يكون الخبر على عمومه في الدعوى إلى الأمور المذكورة وإن كانت إمرة معاذ إنما كانت على جهة من اليمن مخصوصة. قوله: "إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب" هم اليهود، وكان ابتداء دخول اليهودية اليمن في زمن أسعد ذي كرب وهو تبع الأصغر كما ذكره ابن إسحاق مطولا في السيرة، فقام الإسلام وبعض أهل اليمن على اليهودية، ودخل دين النصرانية إلى اليمن بعد ذلك لما غلبت الحبشة
(13/348)

على اليمن، وكان منهم أبرهة صاحب الفيل الذي غزا مكة وأراد هدم الكعبة حتى أجلاهم عنها سيف بن ذي يزن، كما ذكره ابن إسحاق مبسوطا أيضا، ولم يبق بعد ذلك باليمن أحد من النصارى أصلا إلا بنجران وهي بين مكة واليمن، وبقي ببعض بلادها قليل من اليهود. قوله: "فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله فإذا عرفوا ذلك" مضى في وسط الزكاة من طريق إسماعيل بن أمية عن يحيى بن عبد الله بلفظ: "فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله " وكذا أخرجه مسلم عن الشيخ الذي أخرجه عنه البخاري، وقد تمسك به من قال أول واجب المعرفة كإمام الحرمين واستدل بأنه لا يتأتى الإتيان بشيء من المأمورات على قصد الامتثال، ولا الانكفاف عن شيء من المنهيات على قصد الانزجار إلا بعد معرفة الآمر والناهي، واعترض عليه بأن المعرفة لا تتأتى إلا بالنظر والاستدلال، وهو مقدمة الواجب فيجب فيكون أول واجب النظر، وذهب إلى هذا طائفة كابن فورك، وتعقب بأن النظر ذو أجزاء يترتب بعضها على بعض، فيكون أول واجب جزأ من النظر وهو محكي عن القاضي أبي بكر بن الطيب وعن الأستاذ أبي إسحاق الأسفرايني أول واجب القصد إلى النظر، وجمع بعضهم بين هذه الأقوال بأن من قال أول واجب المعرفة أراد طلبا وتكليفا، ومن قال النظر أو القصد أراد امتثالا لأنه يسلم أنه وسيلة إلى تحصيل المعرفة، فيدل ذلك على سبق وجوب المعرفة، وقد ذكرت في " كتاب الإيمان " من أعرض عن هذا من أصله وتمسك بقوله تعالى {أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وحديث: "كل مولود يولد على الفطرة " فإن ظاهر الآية والحديث أن المعرفة حاصلة بأصل الفطرة، وأن الخروج عن ذلك يطرأ على الشخص لقوله عليه الصلاة والسلام " فأبواه يهودانه وينصرانه " وقد وافق أبو جعفر السمناني وهو من رءوس الأشاعرة على هذا وقال: إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة؛ وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنه لا يكفي التقليد في ذلك انتهى. وقرأت في جزء من كلام شيخ شيخنا الحافظ صلاح الدين العلائي ما ملخصه: أن هذه المسألة مما تناقضت فيها المذاهب وتباينت بين مفرط ومفرط ومتوسط، فالطرف الأول قول من قال يكفي التقليد المحض في إثبات وجود الله تعالى ونفي الشريك عنه، وممن نسب إليه إطلاق ذلك عبيد الله بن الحسن العنبري وجماعة من الحنابلة والظاهرية، ومنهم من بالغ فحرم النظر في الأدلة واستند إلى ما ثبت عن الأئمة الكبار من ذم الكلام كما سيأتي بيانه. والطرف الثاني: قول من وقف صحة إيمان كل أحد على معرفة الأدلة من علم الكلام، ونسب ذلك لأبي إسحاق الأسفرايني. وقال الغزالي: أسرفت طائفة فكفروا عوام المسلمين، وزعموا أن من لم يعرف العقائد الشرعية بالأدلة التي حرروها فهو كافر، فضيقوا رحمة الله الواسعة وجعلوا الجنة مختصة بشر ذمة يسيرة من المتكلمين، وذكر نحوه أبو المظفر بن السمعاني وأطال في الرد على قائله، ونقل عن أكثر أئمة الفتوى أنهم قالوا: لا يجوز أن تكلف العوام اعتقاد الأصول بدلائلها، لأن في ذلك من المشقة أشد من المشقة في تعلم الفروع الفقهية. وأما المذهب المتوسط فذكره وسأذكره ملخصا بعد هذا. وقال القرطبي في المفهم: في شرح حديث: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " الذي تقدم شرحه في أثناء " كتاب الأحكام " وهو في أوائل " كتاب العلم " من صحيح مسلم، هذا الشخص الذي يبغضه الله هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق ورده بالأوجه الفاسدة والشبه الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كما يقع لأكثر المتكلمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسلف أمته، إلى طرق مبتدعة واصطلاحات مخترعة وقوانين
(13/349)

جدلية وأمور صناعية مدار أكثرها على آراء سوفسطائية، أو مناقضات لفظية ينشأ بسببها على الآخذ فيها شبه ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالا عنها أجدلهم لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها، وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها ثم إن هؤلاء قد ارتكبوا أنواعا من المحال لا يرتضيها البله ولا الأطفال، لما بحثوا عن تحيز الجواهر والألوان والأحوال، فأخذوا فيما أمسك عنه السلف الصالح من كيفيات تعلقات صفات الله تعالى وتعديدها واتحادها في نفسها، وهل هي الذات أو غيرها وفي الكلام: هل هو متحد أو منقسم، وعلى الثاني: هل ينقسم بالنوع أو الوصف، وكيف تعلق في الأزل بالمأمور مع كونه حادثا، ثم إذا انعدم المأمور هل يبقى التعلق، وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلا هو نفس الأمر لعمرو بالزكاة إلى غير ذلك مما ابتدعوه مما لم يأمر به الشارع وسكت عنه الصحابة ومن سلك سبيلهم، بل نهوا عن الخوض فيها لعلمهم بأنه بحث عن كيفية ما لا تعلم كيفيته بالعقل، لكون العقول لها حد تقف عنده، ولا فرق بين البحث عن كيفية الذات وكيفية الصفات، ومن توقف في هذا فليعلم أنه إذا كان حجب عن كيفية نفسه مع وجودها، وعن كيفية إدراك ما يدرك به فهو عن إدراك غيره أعجز، وغاية علم العالم أن يقطع بوجود فاعل لهذه المصنوعات منزه عن الشبيه مقدس عن النظير متصف بصفات الكمال، ثم متى ثبت النقل عنه بشيء من أوصافه وأسمائه قبلناه واعتقدناه وسكتنا عما عداه، كما هو طريق السلف، وما عداه لا يأمن صاحب من الزلل، ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين ما ثبت عن الأئمة المتقدمين كعمر ابن عبد العزيز ومالك بن أنس والشافعي، وقد قطع بعض الأئمة بأن الصحابة لم يخوضوا في الجوهر والعرض وما يتعلق بذلك من مباحث المتكلمين، فمن رغب عن طريقهم فكفاه ضلالا، قال: وأفضي الكلام بكثير من أهله إلى الشك، وببعضهم إلى الإلحاد وببعضهم إلى التهاون بوظائف العبادات، وسبب ذلك إعراضهم عن نصوص الشارع وتطلبهم حقائق الأمور من غيره، وليس في قوة العقل ما يدرك ما في نصوص الشارع من الحكم التي استأثر بها، وقد رجع كثير من أئمتهم عن طريقهم، حتى جاء عن إمام الحرمين أنه قال: "ركبت البحر الأعظم، وغصت في كل شيء نهى عنه أهل العلم في طلب الحق فرارا من التقليد والآن فقد رجعت واعتقدت مذهب السلف " هذا كلامه أو معناه وعنه أنه قال عند موته " يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أنه يبلغ بي ما بلغت ما تشاغلت به " إلى أن قال القرطبي: ولو لم يكن في الكلام إلا مسألتان هما من مبادئه لكان حقيقا بالذم: إحداهما قول بعضهم إن أول واجب الشك إذ هو اللازم عن وجوب النظر أو القصد إلى النظر، وإليه أشار الإمام بقوله ركبت البحر. ثانيتهما قول جماعة منهم إن من لم يعرف الله بالطرق التي رتبوها والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه، حتى لقد أورد على بعضهم أن هذا يلزم منه تكفير أبيك وأسلافك وجيرانك، فقال لا تشنع علي بكثرة أهل النار، قال وقد رد بعض من لم يقل بهما على من قال بهما بطريق من الرد النظري وهو خطأ منه، فإن القائل بالمسألتين كافر شرعا، لجعله الشك في الله واجبا، ومعظم المسلمين كفارا حتى يدخل في عموم كلامه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وهذا معلوم الفساد من الدين بالضرورة، وإلا فلا يوجد في الشرعيات ضروري، وختم القرطبي كلامه بالاعتذار عن إطالة النفس في هذا الموضع لما شاع بين الناس من هذه البدعة حتى اغتر بها كثير من الأغمار فوجب بذل النصيحة، والله يهدي من يشاء انتهى. وقال الآمدي في أبكار الأفكار: ذهب أبو هاشم من المعتزلة إلى أن من لا يعرف الله بالدليل فهو كافر، لأن ضد المعرفة النكرة
(13/350)

والنكرة كفر، قال: وأصحابنا مجمعون على خلافه وإنما اختلفوا فيما إذا كان الاعتقاد موافقا لكن عن غير دليل، فمنهم من قال إن صاحبه مؤمن عاص بترك النظر الواجب، ومنهم من اكتفى بمجرد الاعتقاد الموافق وإن لم يكن عن دليل وسماه علما، وعلى هذا فلا يلزم من حصول المعرفة بهذا الطريق وجوب النظر. وقال غيره: من منع التقليد وأوجب الاستدلال لم يرد التعمق في طريق المتكلمين، بل اكتفى بما لا يخلو عنه من نشأ بين المسلمين من الاستدلال بالمصنوع على الصانع، وغايته أنه يحصل في الذهن مقدمات ضرورية تتألف تألفا صحيحا وتنتج العلم، لكنه لو سئل كيف حصل له ذلك ما اهتدى للتعبير به، وقيل الأصل في هذا كله المنع من التقليد في أصول الدين وقد انفصل بعض الأئمة عن ذلك بأن المراد بالتقليد أخذ قول الغير بغير حجة، ومن قامت عليه حجة بثبوت النبوة حتى حصل له القطع بها، فمهما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم كان مقطوعا عنده بصدقه فإذا اعتقده لم يكن مقلدا لأنه لم يأخذ بقول غيره بغير حجة، وهذا مستند السلف قاطبة في الأخذ بما ثبت عندهم من آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بهذا الباب، فآمنوا بالمحكم من ذلك وفوضوا أمر المتشابه منه إلى ربهم، وإنما قال من قال إن مذهب الخلف أحكم بالنسبة إلى الرد على من لم يثبت النبوة، فيحتاج من يريد رجوعه إلى الحق أن يقيم عليه الأدلة إلى أن يذعن فيسلم أو يعاند فيهلك، بخلاف المؤمن فإنه لا يحتاج في أصل إيمانه إلى ذلك، وليس سبب الأول إلا جعل الأصل عدم الإيمان فلزم إيجاب النظر المؤدي إلى المعرفة وإلا فطريق السلف أسهل من هذا كما تقدم إيضاحه من الرجوع إلى ما دلت عليه النصوص حتى يحتاج إلى ما ذكر من إقامة الحجة على من ليس بمؤمن، فاختلط الأمر على من اشترط ذلك والله المستعان. واحتج بعض من أوجب الاستدلال باتفاقهم على ذم التقليد، وذكروا الآيات والأحاديث الواردة في ذم التقليد، وبأن كل أحد قبل الاستدلال لا يدري أي الأمرين هو الهدي، وبأن كل ما لا يصح إلا بالدليل فهو دعوى لا يعمل بها، وبأن العلم اعتقاد الشيء على ما هو عليه من ضرورة أو استدلال وكل ما لم يكن علما فهو جهل، ومن لم يكن عالما فهو ضال. والجواب عن الأول أن المذموم من التقليد أخذ قول الغير بغير حجة، وهذا ليس منه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله أوجب اتباعه في كل ما يقول، وليس العمل فيما أمر به أو نهى عنه داخلا تحت التقليد المذموم اتفاقا، وأما من دونه ممن اتبعه في قول قاله واعتقد أنه لو لم يقله لم يقل هو به فهو المقلد المذموم، بخلاف ما لو اعتقد ذلك في خبر الله ورسوله فإنه يكون ممدوحا، وأما احتجاجهم بأن أحدا لا يدري قبل الاستدلال أي الأمرين هو الهدى فليس بمسلم، بل من الناس من تطمئن نفسه وينشرح صدره للإسلام من أول وهلة، ومنهم من يتوقف على الاستدلال، فالذي ذكروه هم أهل الشق الثاني، فيجب عليه النظر ليقي نفسه النار لقوله تعالى {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} ويجب على كل من استرشده أن يرشده ويبرهن له الحق وعلى هذا مضى السلف الصالح من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده. وأما من استقرت نفسه إلى تصديق الرسول ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل توفيقا من الله وتيسيرا. فهم الذين قال الله في حقهم {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} الآية. وقال {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} الآية وليس هؤلاء مقلدين لآبائهم ولا لرؤسائهم. لأنهم لو كفر آباؤهم أو رؤساؤهم لم يتابعوهم بل يجدون النفرة عن كل من سمعوا عنه ما يخالف الشريعة وأما الآيات والأحاديث فإنما وردت في حق الكفار الذين اتبعوا من نهوا عن اتباعه وتركوا اتباع من أمروا باتباعه. وإنما كلفهم الله الإتيان ببرهان على دعواهم بخلاف المؤمنين فلم يرد قط أنه أسقط أتباعهم حتى يأتوا
(13/351)

بالبرهان. وكل من خالف الله ورسوله فلا برهان له أصلا وإنما كلف الإتيان بالبرهان تبكيتا وتعجيزا. وأما من اتبع الرسول فيما جاء به فقد اتبع الحق الذي أمر به وقامت البراهين على صحته، سواء علم هو بتوجيه ذلك البرهان أم لا. وقول من قال منهم إن الله ذكر الاستدلال وأمر به مسلم لكن هو فعل حسن مندوب لكل من أطاقه، وواجب على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق كما تقدم تقريره وبالله التوفيق. وقال غيره قول من قال طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أحكم ليس بمستقيم، لأنه ظن أن طريقة السلف مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه في ذلك، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات، فجمع هذا القائل بين الجهل بطريقة السلف والدعوى في طريقة الخلف، وليس الأمر كما ظن، بل السلف في غاية المعرفة بما يليق بالله تعالى، وفي غاية التعظيم له والخضوع لأمره والتسليم لمراده، وليس من سلك طريق الخلف واثقا بأن الذي يتأوله هو المراد ولا يمكنه القطع بصحة تأويله، وأما قولهم في العلم فزادوا في التعريف عن ضرورة أو استدلال وتعريف العلم، انتهى عند قوله عليه: فإن أبوا إلا الزيادة فليزدادوا عن تيسير الله له ذلك وخلقه ذلك المعتقد في قلبه، وإلا فالذي زادوه هو محل النزاع فلا دلالة فيه وبالله التوفيق. وقال أبو المظفر بن السمعاني تعقب بعض أهل الكلام قول من قال إن السلف من الصحابة والتابعين لم يعتنوا بإيراد دلائل العقل في التوحيد بأنهم لم يشتغلوا بالتعريفات في أحكام الحوادث وقد قبل الفقهاء ذلك واستحسنوه فدونوه في كتبهم، فكذلك علم الكلام، ويمتاز علم الكلام بأنه يتضمن الرد على الملحدين وأهل الأهواء، وبه تزول الشبهة عن أهل الزيغ ويثبت اليقين لأهل الحق، وقد علم الكل أن الكتاب لم تعلم حقيته، والنبي لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقل، وأجاب: أما أولا فإن الشارع والسلف الصالح نهوا عن الابتداع وأمروا بالاتباع، وصح عن السلف أنهم نهوا عن علم الكلام وعدوه ذريعة للشك والارتياب. وأما الفروع فلم يثبت عن أحد منهم النهي عنها إلا من ترك النص الصحيح وقدم عليه القياس، وأما من اتبع النص وقاس عليه فلا يحفظ عن أحد من أئمة السلف إنكار ذلك، لأن الحوادث في المعاملات لا تنقضي وبالناس حاجة إلى معرفة الحكم، فمن ثم تواردوا على استحباب الاشتغال بذلك بخلاف علم الكلام. وأما ثانيا: فإن الدين كمل لقوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فإذا كان أكمله وأتمه وتلقاه الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم واعتقده من تلقى عنهم واطمأنت به نفوسهم، فأي حاجة بهم إلى تحكيم العقول والرجوع إلى قضاياها وجعلها أصلا، والنصوص الصحيحة الصريحة تعرض عليها فتارة يعمل بمضمونها، وتارة تحرف عن مواضعها لتوافق العقول. وإذا كان الدين قد كمل فلا تكون الزيادة فيه إلا نقصانا في المعنى، مثل زيادة أصبع في اليد فإنها تنقص قيمة العبد الذي يقع به ذلك، وقد توسط بعض المتكلمين فقال: لا يكفي التقليد بل لا بد من دليل ينشرح به الصدر. وتحصل به الطمأنينة العلمية، ولا يشترط أن يكون بطريق الصناعة الكلامية بل يكفي في حق كل أحد بحسب ما يقتضيه فهمه انتهى. والذي تقدم ذكره من تقليد النصوص كاف في هذا القدر. وقال بعضهم المطلوب من كل أحد التصديق الجزمي الذي لا ريب معه بوجود الله تعالى والإيمان برسله وبما جاءوا به كيفما حصل وبأي طريق إليه يوصل، ولو كان عن تقليد محض إذا سلم من التزلزل. قال القرطبي: هذا الذي عليه أئمة الفتوى ومن قبلهم من أئمة السلف، واحتج بعضهم بما تقدم من القول في أصل الفطرة وبما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة أنهما حكموا بإسلام من أسلم من جفاة العرب ممن كان يعبد الأوثان، فقبلوا منهم الإقرار بالشهادتين، والتزام أحكام
(13/352)