باب مَا جَاءَ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى 3
 
الإسلام من غير إلزام بتعلم الأدلة، وإن كان كثير منهم إنما أسلم لوجود دليل ما، فأسلم بسبب وضوحه له، فالكثير منهم قد أسلموا طوعا من غير تقدم استدلال، بل بمجرد ما كان عندهم من أخبار أهل الكتاب بأن نبيا سيبعث وينتصر على من خالفه، فلما ظهرت لهم العلامات في محمد صلى الله عليه وسلم بادروا إلى الإسلام، وصدقوه في شيء قاله ودعاهم إليه من الصلاة والزكاة وغيرهما، وكثير منهم كان يؤذن له في الرجوع إلى معاشه من رعاية الغنم وغيرها، وكانت أنوار النبوة وبركاتها تشملهم فلا يزالون يزدادون إيمانا ويقينا. وقال أبو المظفر بن السمعاني أيضا ما ملخصه: إن العقل لا يوجب شيئا ولا يحرم شيئا، ولا حظ له في شيء من ذلك، ولو لم يرد الشرع بحكم ما وجب على أحد شيء، لقوله تعالى: {مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وقوله: {ئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وغير ذلك من الآيات. فمن زعم أن دعوة رسل الله عليهم الصلاة والسلام إنما كانت لبيان الفروع، لزمه أن يجعل العقل هو الداعي إلى الله دون الرسول ويلزمه أن وجود الرسول وعدمه بالنسبة إلى الدعاء إلى الله سواء، وكفى بهذا ضلالا. ونحن لا ننكر أن العقل يرشد إلى التوحيد وإنما ننكر أنه يستقل بإيجاب ذلك حتى لا يصح إسلام إلا بطريقه، مع قطع النظر عن السمعيات لكون ذلك خلاف ما دلت عليه آيات الكتاب والأحاديث الصحيحة التي تواترت ولو بالطريق المعنوي، ولو كان يقول أولئك لبطلت السمعيات التي لا مجال للعقل فيها أو أكثرها، بل يجب الإيمان بما ثبت من السمعيات، فإن عقلناه فبتوفيق الله وإلا اكتفينا باعتقاد حقيته على وفق مراد الله سبحانه وتعالى انتهى. ويؤيد كلامه ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس " أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدك الله الله أرسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله وأن ندع اللات والعزى؟ قال: نعم فأسلم " وأصله في الصحيحين في قصة ضمام بن ثعلبة، وفي حديث عمرو بن عبسة عند مسلم أنه " أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما أنت؟ قال: نبي الله. قلت: الله أرسلك؟ قال: نعم. قلت: بأي شيء؟ قال: أوحد الله لا أشرك به شيئا " الحديث، وفي حديث أسامة بن زيد في قصة قتله الذي قال لا إله إلا الله فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وحديث المقداد في معناه، وقد تقدما في " كتاب الديات " وفي كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وكسرى وغيرهما من الملوك يدعوهم إلى التوحيد؛ إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة التواتر المعنوي الدال على أنه صلى الله عليه وسلم لم يزد في دعائه المشركين على أن يؤمنوا بالله وحده ويصدقوه فيما جاء به عنه، فمن فعل ذلك قبل منه سواء كان إذعانه عن تقدم نظر أم لا، ومن توقف منهم نبهه حينئذ على النظر، أو أقام عليه الحجة إلى أن يذغن أو يستمر على عناده. وقال البيهقي في " كتاب الاعتقاد " سلك بعض أئمتنا في إثبات الصانع وحدوث العالم طريق الاستدلال بمعجزات الرسالة فإنها أصل في وجوب قبول ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا الوجه وقع إيمان الذين استجابوا للرسل، ثم ذكر قصة النجاشي وقول جعفر بن أبي طالب له " بعث الله إلينا رسولا نعرف صدقه فدعانا إلى الله وتلا علينا تنزيلا من الله لا يشبهه شيء فصدقناه وعرفنا أن الذي جاء به الحق " الحديث بطوله، وقد أخرجه ابن خزيمة في " كتاب الزكاة " من صحيحه من رواية ابن إسحاق وحاله معروفة وحديثه في درجة الحسن، قال البيهقي فاستدلوا بإعجاز القرآن على صدق النبي، فآمنوا بما جاء به من إثبات الصانع ووجدانيته وحدوث العالم وغير ذلك مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وغيره، واكتفاء غالب من أسلم بمثل ذلك مشهور في الأخبار، فوجب تصديقه في كل شيء ثبت عنه بطريق السمع، ولا يكون ذلك تقليدا بل هو اتباع والله أعلم. وقد استدل من اشترط النظر بالآيات والأحاديث
(13/353)

الواردة في ذلك، ولا حجة فيها لأن من لم يشترط النظر لم ينكر أصل النظر، وإنما أنكر توقف الإيمان على وجود النظر بالطرق الكلامية، إذ لا يلزم من الترغيب في النظر جعله شرطا، واستدل بعضهم بأن التقليد لا يفيد العلم إذ لو أفاده لكان العلم حاصلا لمن قلد في قدم العالم ولمن قلد في حدوثه. وهو محال لإفضائه إلى الجمع بين النقيضين. وهذا إنما يتأتى في تقليد غير النبي صلى الله عليه وسلم. وأما تقليده صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن ربه فلا يتناقض أصلا واعتذر بعضهم عن اكتفاء النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بإسلام من أسلم من الأعراب من غير نظر بأن ذلك كان لضرورة المبادئ. وأما بعد تقرر الإسلام وشهرته فيجب العمل بالأدلة ولا يخفى ضعف هذا الاعتذار والعجب أن من اشترط ذلك من أهل الكلام ينكرون التقليد وهم أول داع إليه حتى استقر في الأذهان أن من أنكر قاعدة من القواعد التي أصلوها فهو مبتدع ولو لم يفهمها ولم يعرف مأخذها وهذا هو محض التقليد فآل أمرهم إلى تكفير من قلد الرسول عليه الصلاة والسلام في معرفة الله تعالى والقول بإيمان من قلدهم وكفى بهذا ضلالا وما مثلهم إلا كما قال بعض السلف: إنهم كمثل قوم كانوا سفرا فوقعوا في فلاة ليس فيها ما يقوم به البدن من المأكول والمشروب ورأوا فيها طرقا شتى فانقسموا قسمين فقسم وجدوا من قال لهم أنا عارف بهذه الطرق وطريق النجاة منها واحدة فاتبعوني فيها تنجوا فتبعوه فنجوا، وتخلفت عنه طائفة فأقاموا إلى أن وقفوا على أمارة ظهر لهم أن في العمل بها النجاة فعملوا بها فنجوا وقسم هجموا بغير مرشد ولا أمارة فهلكوا، فليست نجاة من اتبع المرشد بدون نجاة من أخذ بالأمارة إن لم تكن أول منها، ونقلت من جزء الحافظ صلاح الدين العلائي يمكن أن يفصل فيقال: من لا له أهلية لفهم شيء من الأدلة أصلا وحصل له اليقين التام بالمطلوب إما بنشأته على ذلك أو لنور يقذفه الله في قلبه، فإنه يكتفي منه بذلك، ومن فيه أهلية لفهم الأدلة لم يكتف منه إلا بالإيمان عن دليل، ومع ذلك فدليل كل أحد يحسبه وتكفي الأدلة المجملة التي تحصل بأدنى نظر، ومن حصلت عنده شبهة وجب عليه التعلم إلى أن تزول عنه، قال فبهذا يحصل الجمع بين كلام الطائفة المتوسطة، وأما من غلا فقال لا يكفي إيمان المقلد فلا يلتفت إليه، لما يلزم منه من القول بعدم إيمان أكثر المسلمين، وكذا من غلا أيضا فقال لا يجوز النظر في الأدلة لما يلزم منه من أن أكابر السلف لم يكونوا من أهل النظر انتهى ملخصا. واستدل بقوله: "فإذا عرفوا الله " بأن معرفة الله بحقيقة كنهه ممكنة للبشر، فإن كان ذلك مقيدا بما عرف به نفسه من وجوده وصفاته اللائقة من العلم والقدرة والإرادة مثلا، وتنزيهه عن كل نقيصة كالحدوث فلا بأس به، فأما ما عدا ذلك فإنه غير معلوم للبشر وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} فإذا حمل قوله فإذا عرفوا الله على ذلك كان واضحا مع أن الاحتجاج به يتوقف على الجزم بأنه صلى الله عليه وسلم نطق بهذه اللفظة وفيه نظر، لأن القصة واحدة ورواة هذا الحديث اختلفوا: هل ورد الحديث بهذا اللفظ أو بغيره؟ فلم يقل صلى الله عليه وسلم إلا بلفظ منها، ومع احتمال أن يكون هذا اللفظ من تصرف الرواة لا يتم الاستدلال، وقد بينت في أواخر " كتاب الزكاة " أن الأكثر رووه بلفظ: "فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك " ومنهم من رواه بلفظ: "فادعهم إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك " ومنهم من رواه بلفظ: "فادعهم إلى عبادة الله، فإذا عرفوا الله " ووجه الجمع بينهما أن المراد بالعبادة: التوحيد، والمراد بالتوحيد: الإقرار بالشهادتين، والإشارة بقوله ذلك إلى التوحيد، وقوله: فإذا عرفوا الله أي عرفوا توحيد الله، والمراد بالمعرفة الإقرار والطواعية فبذلك يجمع بين هذه الألفاظ المختلفة في القصة الواحدة وبالله التوفيق. وفي حديث ابن عباس في الفوائد غير ما تقدم الاقتصار في الحكم
(13/354)

بإسلام الكافر إذا أقر بالشهادتين، فإن من لازم الإيمان بالله ورسوله التصديق بكل ما ثبت عنهما والتزام ذلك، فيحصل ذلك لمن صدق بالشهادتين. وأما ما وقع من بعض المبتدعة من إنكار شيء من ذلك فلا يقدح في صحة الحكم الظاهر، لأنه إن كان مع تأويل فظاهر، وإن كان عنادا قدح في صحة الإسلام، فيعامل بما يترتب عليه من ذلك كإجراء أحكام المرتد وغير ذلك. وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به، وتعقب بأن مثل خبر معاذ حفته قرينة أنه في زمن نزول الوحي فلا يستوي مع سائر أخبار الآحاد، وقد مضى في باب إجازة خبر الواحد ما يغني عن إعادته، وفيه أن الكافر إذا صدق بشيء من أركان الإسلام كالصلاة مثلا يصير بذلك مسلما، وبالغ من قال كل شيء يكفر به المسلم إذا جحده يصير الكافر به مسلما إذا اعتقده، والأول أرجح كما جزم به الجمهور، وهذا في الاعتقاد أما الفعل لو صلى فلا يحكم بإسلامه وهو أولى بالمنع لأن الفعل لا عموم له، فيدخله احتمال العبث والاستهزاء. وفيه وجوب أخذ الزكاة ممن وجبت عليه، وقهر الممتنع على بذلها ولو لم يكن جاحدا، فإن كان مع امتناعه ذا شوكة قوتل، وإلا فإن أمكن تعزيره على الامتناع عزر بما يليق به، وقد ورد عن تعزيره بالمال حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا ولفظه: "ومن منعها - يعني الزكاة - فإنا آخذوها، وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا " الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة والحاكم، وأما ابن حبان فقال في ترجمة بهز بن حكيم لولا هذا الحديث لأدخلته في " كتاب الثقات " وأجاب من صححه ولم يعمل به بأن الحكم الذي دل عليه منسوخ وأن الأمر كان أولا كذلك ثم نسخ، وضعف النووي هذا الجواب من جهة أن العقوبة بالمال لا تعرف أولا حتى يتم دعوى النسخ ولأن النسخ لا يثبت إلا بشرطه كمعرفة التاريخ ولا يعرف ذلك، واعتمد النووي ما أشار إليه ابن حبان من تضعيف بهز وليس يجيد لأنه موثق عند الجمهور حتى قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين بهز بن حكيم عن أبيه عن جده صحيح إذا كان دون بهز ثقة. وقال الترمذي: تكلم فيه شعبة وهو ثقة عند أهل الحديث، وقد حسن له الترمذي عدة أحاديث، واحتج به أحمد وإسحاق والبخاري خارج الصحيح وعلق له في الصحيح. وقال أبو عبيدة الآجري عن أبي داود وهو عندي حجة لا عند الشافعي فإن اعتمد من قلد الشافعي على هذا كفاه، ويؤيده إطباق فقهاء الأمصار على ترك العمل به فدل على أن له معارضا راجحا، وقول من قال بمقتضاه يعد في ندرة المخالف وقد دل خبر الباب أيضا على أن الذي يقبض الزكاة الإمام أو من أقامه لذلك، وقد أطبق الفقهاء بعد ذلك على أن لأرباب الأموال الباطنة مباشرة الإخراج، وشذ من قال بوجوب الدفع إلى الإمام وهو رواية عن مالك، وفي القديم للشافعي نحوه على تفصيل عنهما فيه. قوله: "عن أبي حصين" بفتح أوله واسمه عثمان بن عاصم الأسدي، والأشعث بن سليم، هو أشعث بن أبي الشعثاء المحاربي، وأبوه مشهور بكنيته أكثر من اسمه. قوله: "أتدري ما حق الله على العباد" تقدم شرحه مستوفى في " كتاب الرقاق " ودخوله في هذا الباب من قوله لا تشركوا به شيئا فإنه المراد بالتوحيد، قال ابن التين يريد بقوله: "حق العباد على الله " حقا علم من جهة الشرع لا بإيجاب العقل فهو كالواجب في تحقيق وقوعه أو هو على جهة المقابلة والمشاكلة، كقوله تعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} . فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ زَادَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَخْبَرَنِي أَخِي قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وتقدم المتن في فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في " كتاب فضائل القرآن " من وجه آخر عن مالك مشروحا، وأورده هنا لما صرح به من وصف الله تعالى بالأحدية كما في الذي بعده، وقوله هنا زاد إسماعيل بن جعفر تقدم هناك بزيادة راو في أوله،
(13/355)

فقال: وزاد أبو معمر " حدثنا إسماعيل بن جعفر " وكذا وقع هنا في بعض النسخ، وفي بعضها وقال أبو معمر، وتقدم هناك الاختلاف في المراد بأبي معمر هذا وتسمية من وصله. حديث عمرة عن عائشة فيما يتعلق بسورة الإخلاص أيضا؛ وقد تقدم معلقا في فضائل القرآن. قوله: "حدثنا أحمد بن صالح" كذا للأكثر وبه جزم أبو نعيم في المستخرج وأبو مسعود في الأطراف، ووقع في الأطراف للمزي أن في بعض النسخ " حدثنا محمد حدثنا أحمد بن صالح". قلت: وبذلك جزم البيهقي تبعا لخلف في الأطراق قال خلف: ومحمد هذا أحسبه محمد بن يحيى الذهلي، ووقع عند الإسماعيلي بعد أن ساق الحديث من رواية حرملة عن ابن وهب ذكره البخاري " عن محمد " بلا خبر عن أحمد بن صالح، فكأنه وقع عند الإسماعيلي بلفظ: "قال محمد " وعلى رواية الأكثر فمحمد هو البخاري المصنف، والقائل " قال محمد " هو محمد الفربري وذكر الكرماني هذا احتمالا. قلت: ويحتاج حينئذ إلى إبداء النكتة في إفصاح الفربري به في هذا الحديث دون غيره من الأحاديث الماضية والآتية. قوله: "حدثنا عمرو" هو ابن الحارث المصري و " ابن أبي هلال " هو سعيد وسماه مسلم في روايته. قوله: "بعث رجلا على سرية" تقدم في باب الجمع بين السورتين في ركعة من " كتاب الصلاة " بيان الاختلاف في تسميته " وهل بينه وبين الذي كان يؤم قومه في مسجد قباء مغايرة أو هما واحد وبيان ما يترجح من ذلك". قوله: "فيختم بقل هو الله أحد" قال ابن دقيق العيد هذا يدل على أنه كان يقرأ بغيرها ثم يقرأها في كل ركعة وهذا هو الظاهر، ويحتمل أن يكون المراد أنه يختم بها آخر قراءته فيختص بالركعة الأخيرة، وعلى الأول فيؤخذ منه جواز الجمع بين سورتين في ركعة انتهى. وقد تقدم البحث في ذلك في الباب المذكور من " كتاب الصلاة " بما يغني عن إعادته. قوله: "لأنها صفة الرحمن" قال ابن التين إنما قال إنها صفة الرحمن لأن فيها أسماءه وصفاته، وأسماؤه مشتقة من صفاته. وقال غيره: يحتمل أن يكون الصحابي المذكور قال ذلك مستندا لشيء سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم إما بطريق النصوصية وإما بطريق الاستنباط، وقد أخرج البيهقي في " كتاب الأسماء والصفات " بسند حسن عن ابن عباس " أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا صف لنا ربك الذي تعبد " فأنزل الله عز وجل : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إلى آخرها، فقال: "هذه صفة ربي عز وجل " وعن أبي بن كعب قال: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم أنسب لنا ربك، فنزلت سورة الإخلاص الحديث، وهو عند ابن خزيمة في " كتاب التوحيد " وصححه الحاكم " وفيه أنه ليس شيء يولد إلا يموت وليس شيء يموت إلا يورث، والله لا يموت ولا يورث، ولم يكن له شبه ولا عدل، وليس كمثله شيء". قال البيهقي: معنى قوله ليس كمثله شيء ليس كهو شيء، قاله أهل اللغة قال ونظيره قوله تعالى :{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} يريد بالذي آمنتم به وهي قراءة ابن عباس، قال: والكاف في قوله: "كمثله " للتأكيد، فنفى الله عنه المثلية بآكد ما يكون من النفي، وأنشد لورقة بن نوفل في زيد بن عمرو بن نفيل من أبيات: "ودينك دين ليس دين كمثله " ثم أسند عن ابن عباس في قوله تعالى :{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} يقول ليس كمثله شيء. وفي قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} هل تعلم له شبها أو مثلا، وفي حديث الباب حجة لمن أثبت أن لله صفة وهو قول الجمهور، وشذ ابن حزم فقال هذه لفظة اصطلح عليها أهل الكلام من المعتزلة ومن تبعهم، ولم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، فإن اعترضوا بحديث الباب فهو من أفراد سعيد بن أبي هلال وفيه ضعف، قال: وعلى تقدير صحته فقل هو الله أحد صفة الرحمن كما جاء في هذا الحديث، ولا يزاد عليه بخلاف الصفة التي يطلقونها فإنها في لغة العرب لا تطلق إلا على
(13/356)

جوهر أو عرض كذا قال، وسعيد متفق على الاحتجاج به فلا يلتفت إليه في تضعيفه، وكلامه الأخير مردود باتفاق الجميع على إثبات الأسماء الحسنى، قال الله تعالى :{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وقال بعد أن ذكر منها عدة أسماء في آخر سورة الحشر {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} والأسماء المذكورة فيها بلغة العرب صفات ففي إثبات أسمائه إثبات صفاته، لأنه إذا ثبت أنه حي مثلا فقد وصف بصفة زائدة على الذات وهي صفة الحياة، ولولا ذلك لوجب الاقتصار على ما ينبئ عن وجود الذات فقط، وقد قاله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} فنزه نفسه عما يصفونه به من صفة النقص، ومفهومه أن وصفه بصفة الكمال مشروع، وقد قسم البيهقي وجماعة من أئمة السنة جميع الأسماء المذكورة في القرآن وفي الأحاديث الصحيحة على قسمين: أحدهما صفات ذاته: وهي ما استحقه فيما لم يزل ولا يزال، والثاني صفات فعله: وهي ما استحقه فيما لا يزال دون الأزل، قال ولا يجوز وصفه إلا بما دل عليه الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة أو أجمع عليه، ثم منه ما اقترنت به دلالة العقل كالحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام من صفات ذاته، وكالخلق والرزق والإحياء والإماتة والعفو والعقوبة من صفات فعله، ومنه ما ثبت بنص الكتاب والسنة كالوجه واليد والعين من صفات ذاته، وكالاستواء والنزول والمجيء من صفات فعله، فيجوز إثبات هذه الصفات له لثبوت الخبر بها على وجه ينفي عنه التشبيه، فصفة ذاته لم تزل موجودة بذاته ولا تزال، وصفة فعله ثابتة عنه ولا يحتاج في الفعل إلى مباشرة {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} وقال القرطبي في المفهم: اشتملت {قل هو الله أحد} على اسمين يتضمنان جميع أوصاف الكمال: وهما الأحد والصمد، فإنهما يدلان على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بجميع أوصاف الكمال، فإن الواحد والأحد وان رجعا إلى أصل واحد فقد افترقا استعمالا وعرفا، فالوحدة راجعة إلى نفي التعدد والكثرة، والواحد أصل العدد من غير تعرض لنفي ما عداه والأحد يثبت مدلوله ويتعرض لنفي ما سواه، ولهذا يستعملونه في النفي ويستعملون الواحد في الإثبات، يقال ما رأيت أحدا ورأيت واحدا فالأحد في أسماء الله تعالى مشعر بوجوده الخاص به الذي لا يشاركه فيه غيره، وأما الصمد فإنه يتضمن جميع أوصاف الكمال لأن معناه الذي انتهى سؤدده بحيث يصمد إليه في الحوائج كلها وهو لا يتم حقيقة إلا لله، قال ابن دقيق العيد قوله: "لأنها صفة الرحمن " يحتمل أن يكون مراده أن فيها ذكر صفة الرحمن كما لو ذكر وصف فعبر عن الذكر بأنه الوصف وإن لم يكن نفس الوصف ويحتمل غير ذلك إلا أنه لا يختص ذلك بهذه السورة لكن لعل تخصيصها بذلك لأنه ليس فيها إلا صفات الله سبحانه وتعالى فاختصت بذلك دون غيرها. قوله: "أخبروه أن الله يحبه" قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون سبب محبة الله له محبته لهذه السورة، ويحتمل أن يكون لما دل عليه كلامه لأن محبته لذكر صفات الرب دالة على صحة اعتقاده، قال المازري ومن تبعه: محبة الله لعباده إرادته ثوابهم وتنعيمهم، وقيل هي نفس الإثابة والتنعيم؛ ومحبتهم له لا يبعد فيها الميل منهم إليه وهو مقدس عن الميل، وقيل محبتهم له استقامتهم على طاعته، والتحقيق أن الاستقامة ثمرة المحبة وحقيقة المحبة له ميلهم إليه لاستحقاقه سبحانه المحبة من جميع وجوهها انتهى. وفيه نظر لما فيه من الإطلاق في موضع التقييد. وقال ابن التين: معنى محبة المخلوقين لله إرادتهم أن ينفعهم. وقال القرطبي في المفهم: محبة الله لعبده تقريبه له وإكرامه وليست بميل ولا غرض كما هي من العبد، وليست محبة العبد لربه نفس الإرادة بل هي شيء زائد عليها، فإن المرء يجد من نفسه أنه يحب ما لا يقدر على اكتسابه ولا على تحصيله، والإرادة هي التي تخصص الفعل ببعض وجوهه الجائزة ويحس من
(13/357)

نفسه أنه يحب الموصوفين بالصفات الجميلة والأفعال الحسنة كالعلماء والفضلاء والكرماء وإن لم يتعلق له بهم إرادة مخصصة، وإذا صح الفرق فالله سبحانه وتعالى محبوب لمحبيه على حقيقة المحبة كما هو معروف عند من رزقه الله شيئا من ذلك، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من محبيه المخلصين. وقال البيهقي: المحبة والبغض عند بعض أصحابنا من صفات الفعل، فمعنى محبته إكرام من أحبه ومعنى بغضه إهانته، وأما ما كان من المدح والذم فهو من قوله، وقوله من كلامه، وكلامه من صفات ذاته فيرجع إلى الإرادة؛ فمحبته الخصال المحمودة، وفاعلها يرجع إلى إرادته إكرامه، وبغضه الخصال المذمومة، وفاعلها يرجع إلى إرادته إهانته.
(13/358)