باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ}
 
وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}
7403 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ"
(13/383)

7404 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي
وقال ابن التين معنى العندية في هذا الحديث العلم بأنه موضوع على العرش، وأما كتبه فليس للاستعانة لئلا ينساه فإنه منزه عن ذلك لا يخفى عنه شيء وإنما كتبه من أجل الملائكة الموكلين بالمكلفين.
7405 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلاَ ذَكَرْتُهُ فِي مَلاَ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً
[الحديث: 7405 – طرفاه في: 7505, 7537]
قوله: "باب قول الله تعالى ويحذركم الله نفسه، وقول الله تعالى تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك" قال الراغب نفسه: ذاته، وهذا وإن كان يقتضي المغايرة من حيث أنه مضاف ومضاف إليه فلا شيء من حيث المعنى سوى واحد سبحانه وتعالى عن الأثنينية من كل وجه، وقيل إن إضاقة النفس هنا إضافة ملك، والمراد بالنفس نفوس عباده انتهى ملخصا، ولا يخفى بعد الأخير وتكلفه. وترجم البيهقي في الأسماء والصفات النفس وذكر هاتين الآيتين، وقوله تعالى :{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقوله تعالى :{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} ومن الأحاديث الحديث الذي فيه: "أنت كما أثنيت على نفسك " والحديث الذي فيه: "إني حرمت الظلم على نفسي " وهما في صحيح مسلم. قلت: وفيه أيضا الحديث الذي فيه: "سبحان الله رضا نفسه " ثم قال: والنفس في كلام العرب على أوجه منها الحقيقة كما يقولون في نفس الأمر وليس للأمر نفس منفوسة، ومنها الذات قال وقد قيل في قوله تعالى :{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أن معناه تعلم ما أكنه وما أسره ولا أعلم ما تسره عني، وقيل ذكر النفس هنا للمقابلة والمشاكلة وتعقب بالآية التي في أول الباب فليس فيها مقابلة. وقال أبو إسحاق الزجاج في قوله تعالى :{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أس إياه وحكى صاحب المطالع في قوله تعالى :{وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ثلاثة أقوال أحدها: لا أعلم ذاتك، ثانيها: لا أعلم ما في غيبك، ثالثها: لا أعلم ما عندك، وهو بمعنى قول غيره لا أعلم معلومك أو إرادتك أو سرك أو ما يكون منك، ثم ذكر البخاري في الباب ثلاثة أحاديث. حديث: "عبد الله " وهو ابن مسعود " ما من أحد أغير من الله - وفيه - وما أحد أحب إليه المدح من الله " كذا وقع هنا مختصرا، وتقدم في تفسير سورة الأنعام من طريق " أبي وائل " وهو شقيق بن سلمة المذكور هنا أتم منه، وهذا الحديث مداره في الصحيحين على أبي وائل، وأخرجه مسلم في رواية عبد الرحمن بن يزيد النخعي عن ابن مسعود نحوه، وزاد فيه: "ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل " وهذه الزيادة عند المصنف في حديث المغيرة الآتي في باب " لا شخص أغير من الله " قال ابن بطال في هذه الآيات والأحاديث إثبات النفس لله، وللنفس معان، والمراد ينفس الله ذاته وليس بأمر مزيد عليه فوجب أن يكون هو، وأما قوله: "أغير من الله " فسبق الكلام عليه في " كتاب الكسوف " وقيل غيرة الله كراهة إتيان الفواحش، أي عدم رضاه بها لا التقدير، وقيل الغضب
(13/384)

لازم الغيرة ولازم الغضب إرادة إيصال العقوبة وقال الكرماني: ليس في حديث ابن مسعود هذا ذكر النفس، ولعله أقام استعمال أحد مقام النفس لتلازمهما في صحة استعمال كل واحد منهما مقام الآخر، ثم قال والظاهر أن هذا الحديث كان قبل هذا الباب فنقله الناسخ إلى هذا الباب انتهى، وكل هذا غفلة عن مراد البخاري، فإن ذكر النفس ثابت في هذا الحديث الذي أورده، وإن كان لم يقع في هذه الطريق لكنه أشار إلى ذلك كعادته، فقد أورده في تفسير سورة الأنعام بلفظ: "لا شيء " وفي تفسير سورة الأعراف بلفظ: "ولا أحد " ثم اتفقا على " أحب إليه المدح من الله " ولذلك مدح نفسه، وهذا القدر هو المطابق للترجمة وقد كثر منه أن يترجم ببعض ما ورد في طرق الحديث الذي يورده ولو لم يكن ذلك القدر موجودا في تلك الترجمة. وقد سبق الكرماني إلى نحو ذلك ابن المنير فقال: ترجم على ذكر النفس في حق الباري وليس في الحديث الأول للنفس ذكر، فوجه مطابقته أنه صدر الكلام بأحد، وأحد الواقع في النفي عبارة عن النفس على وجه مخصوص بخلاف أحد الواقع في قوله تعالى :{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} انتهى، وخفي عليه ما خفي على الكرماني مع أنه تفطن لمثل ذلك في بعض المواضع، ثم قال ابن المنير قول القائل ما في الدار أحد لا يفهم منه إلا نفي الأناسي، ولهذا كان قولهم ما في الدار أحد إلا زيدا استثناء من الجنس ومقتضى الحديث إطلاقه على الله لأنه لولا صحة الإطلاق ما انتظم الكلام كما ينتظم: ما أحد أعلم من زيد فإن زيدا من الأحدين بخلاف ما أحد أحسن من ثوبي فإنه ليس منتظما لأن الثوب ليس من الأحدين. قوله: "كتب في كتابه وهو يكتب على نفسه" كذا لأبي ذر وسقطت الواو لغيره، وعلى الأول فالجملة حالية، وعلى الثاني فيكتب على نفسه بيان لقوله: "كتب " والمكتوب هو قوله: "إن رحمتي " إلخ، وقوله: "وهو " أي المكتوب وضع بفتح فسكون أي موضوع، ووقع كذلك في الجمع للحميدي بلفظ موضوع وهي رواية الإسماعيلي فيما أخرجه من وجه آخر عن أبي حمزة المذكور في السند وهو بالمهملة والزاي واسمه محمد بن ميمون السكري، وحكى عياض عن رواية أبي ذر وضع بالفتح على أنه فعل ماض مبني للفاعل، ورأيته في نسخة معتمدة بكسر الضاد مع التنوين، وقد مضى شرح هذا الحديث في أوائل بدء الخلق، ويأتي شيء من الكلام عليه في باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} وفي باب {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} أواخر الكتاب إن شاء الله تعالى، وأما قوله: "عنده " فقال ابن بطال عند في اللغة للمكان، والله منزه عن الحلول في المواضع لأن الحلول عرض يفنى وهو حادث والحادث لا يليق بالله، فعلى هذا قيل معناه أنه سبق علمه بإثابة من يعمل بطاعته وعقوبة من يعمل بمعصيته، ويؤيده قوله في الحديث الذي بعده " أنا عند ظن عبدي بي " ولا مكان هناك قطعا. وقال الراغب عند لفظ موضوع للقرب ويستعمل في المكان وهو الأصل، ويستعمل في الاعتقاد: تقول عندي في كذا كذا أي أعتقده، ويستعمل في المرتبة ومنه {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وأما قوله: "إن كان هذا هو الحق من عندك" فمعناه من حكمك, حكمك وقال بن التين معنى العندية في هذا الحديث العلم بأنه موضوع على العرش وأما كتبه فليس للاستعانة لئلا ينساه فإنه منزه عن ذلك لا يخفى عنه شيء وانما كتبه من أجل الملائكة الموكلين بالمكلفين. الحديث الثالث: قوله "يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي" أي قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامل به. وقال الكرماني وفي السياق إشارة إلى ترجيح جان الرجاء على الخوف وكأنه أخذه من جهة التسوية فإن العاقل إذا سمع ذلك لا يعدل إلى ظن إيقاع الوعيد وهو جانب الخوف لأنه لا يختاره لنفسه بل يعدل إلى ظن وقوع الوعد وهو جانب الرجاء وهو كما قال أهل التحقيق مقيد بالمحتضر ويؤيد ذلك حديث: "لا يموتن
(13/385)

أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله " وهو عند مسلم من حديث جابر. وأما قبل ذلك ففي الأول أقوال ثالثها الاعتدال وقال ابن أبي جمرة المراد بالظن هنا العلم وهو كقوله: "وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه" وقال القرطبي في المفهم قيل معنى ظن عبدي بي ظن الإجابة عند الدعاء وظن القبول عند التوبة وظن المغفرة عند الاستغفار وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها تمسكا بصادق وعده. وقال ويؤيده قوله في الحديث الآخر ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة قال ولذلك ينبغي للمرء أن يجتهد في القيام بما عليه موقنا بأن الله يقبله ويغفر له لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد فإن اعتقد أو ظن أن الله لا يقبلها وأنها لا تنفعه فهذا هو اليأس من رحمة الله وهو من الكبائر، ومن مات على ذلك وكل إلى ما ظن كما في بعض طرق الحديث المذكور " فليظن بي عبدي ما شاء " قال: وأما ظن المغفرة مع الإصرار فذلك محض الجهل والغرة وهو يجر إلى مذهب المرجئة. قوله: "وأنا معه إذا ذكرني" أي بعلمي وهو كقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} والمعية المذكورة أخص من المعية التي في قوله تعالى :{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ - إلى قوله - إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} وقال ابن أبي جمرة معناه فأنا معه حسب ما قصد من ذكره لي قال: ثم يحتمل أن يكون الذكر باللسان فقط أو بالقلب فقط أو بهما أو بامتثال الأمر واجتناب النهي، قال والذي يدل عليه الإخبار أن الذكر على نوعين أحدهما مقطوع لصاحبه بما تضمنه هذا الخبر والثاني على خطر، قال والأول يستفاد من قوله تعالى :{فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} والثاني من الحديث الذي فيه: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا " لكن إن كان في حال المعصية يذكر الله بخوف ووجل مما هو فيه فإنه يرجى له. قوله: "فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" أي إن ذكرني بالتنزيه والتقديس سرا ذكرته بالثواب والرحمة سرا. وقال ابن أبي جمرة يحتمل أن يكون مثل قوله تعالى :{فاذكروني أذكركم} ومعناه اذكروني بالتعظيم أذكركم بالإنعام وقال تعالى :{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي أكبر العبادات فمن ذكره وهو خائف آمنه أو مستوحش آنسه قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}. قوله: "وإن ذكرني في ملأ" بفتح الميم واللام مهموز أي جماعة "ذكرته في ملأ خير منهم" قال بعض أهل العلم يستفاد منه أن الذكر الخفي أفضل من الذكر الجهري والتقدير إن ذكرني في نفسه ذكرته بثواب لا أطلع عليه أحدا وإن ذكرني جهرا ذكرته بثواب أطلع عليه الملأ الأعلى وقال ابن بطال هذا نص في أن الملائكة أفضل من بني آدم وهو مذهب جمهور أهل العلم وعلى ذلك شواهد من القرآن مثل {إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} والخالد أفضل من الفاني فالملائكة أفضل من بني آدم وتعقب بأن المعروف عن جمهور أهل السنة أن صالحي بني آدم أفضل من سائر الأجناس والذين ذهبوا إلى تفضيل الملائكة الفلاسفة ثم المعتزلة وقليل من أهل السنة من أهل التصوف وبعض أهل الظاهر فمنهم من فاضل بين الجنسين فقالوا حقيقة الملك أفضل من حقيقة الإنسان لأنها نورانية وخيرة ولطيفة مع سعة العلم والقوة وصفاء الجوهر وهذا لا يستلزم تفضيل كل فرد على كل فرد لجواز أن يكون في بعض الأناسي ما في ذلك وزيادة ومنهم من خص الخلاف بصالحي البشر والملائكة ومنهم من خصه بالأنبياء ثم منهم من فضل الملائكة على غير الأنبياء ومنهم من فضلهم على الأنبياء أيضا إلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أدلة تفضيل النبي على الملك أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم على سبيل التكريم له حتى قال إبليس {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} ومنها قوله تعالى :{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} لما فيه من الإشارة إلى العناية به ولم يثبت ذلك للملائكة، ومنها قوله تعالى :{إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} ومنها قوله تعالى :{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فدخل في
(13/386)

عمومه الملائكة، والمسخر له أفضل من المسخر، ولأن طاعة الملائكة بأصل الخلقة وطاعة البشر غالبا مع المجاهدة للنفس لما طبعت عليه من الشهوة والحرص والهوى والغضب؛ فكانت عبادتهم أشق، وأيضا فطاعة الملائكة بالأمر الوارد عليهم وطاعة البشر بالنص تارة وبالاجتهاد تارة والاستنباط تارة فكانت أشق ولأن الملائكة سلمت من وسوسة الشياطين وإلقاء الشبه والإغواء الجائزة على البشر ولأن الملائكة تشاهد حقائق الملكوت والبشر لا يعرفون ذلك إلا بالإعلام فلا يسلم منهم من إدخال الشبهة من جهة تدبير الكواكب وحركة الأفلاك إلا الثابت على دينه ولا يتم ذلك إلا بمشقة شديدة ومجاهدات كثيرة، وأما أدلة الآخرين فقد قيل إن حديث الباب أقوى ما استدل به لذلك للتصريح بقوله فيه في ملأ خير منهم والمراد بهم الملائكة، حتى قال بعض الغلاة في ذلك وكم من ذاكر لله في ملأ فيهم محمد صلى الله عليه وسلم ذكرهم الله في ملأ خير منهم، وأجاب بعض أهل السنة بأن الخبر المذكور ليس نصا ولا صريحا في المراد بل يطرقه احتمال أن يكون المراد بالملأ الذين هم خير من الملأ الذاكر الأنبياء والشهداء فإنهم أحياء عند ربهم فلم ينحصر ذلك في الملائكة، وأجاب آخر وهو أقوى من الأول بأن الخيرية إنما حصلت بالذاكر والملأ معا فالجانب الذي فيه رب العزة خير من الجانب الذي ليس هو فيه بلا ارتياب فالخيرية حصلت بالنسبة للمجموع على المجموع وهذا الجواب ظهر لي وظننت أنه مبتكر. ثم رأيته في كلام القاضي كمال الدين بن الزملكاني في الجزء الذي جمعه في الرفيق الأعلى فقال إن الله قابل ذكر العبد في نفسه بذكره له في نفسه، وقابل ذكر العبد في الملأ بذكره له في الملأ فإنما صار الذكر في الملأ الثاني خيرا من الذكر في الأول لأن الله وهو الذاكر فيهم والملأ الذين يذكرون والله فيهم أفضل من الملأ الذين يذكرون وليس الله فيهم، ومن أدلة المعتزلة تقديم الملائكة في الذكر في قوله تعالى :{مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ - شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ - اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} وتعقب بأن مجرد التقديم في الذكر لا يستلزم التفضيل لأنه لم ينحصر فيه بل له أسباب أخرى كالتقديم بالزمان} في مثل قوله: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ} فقدم نوحا على إبراهيم لتقدم زمان نوح مع أن إبراهيم أفضل ومنها قوله تعالى :{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} وبالغ الزمخشري فادعى أن دلالتها لهذا المطلوب قطعية بالنسبة لعلم المعاني فقال في قوله تعالى :{وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} أي ولا من هو أعلى قدرا من المسيح، وهم الملائكة الكروبيون الذين حول العرش، كجبريل وميكائيل وإسرافيل، قال: ولا يقتضي علم المعاني غير هذا من حيث إن الكلام إنما سيق للرد على النصارى لغلوهم في المسيح، فقيل لهم لن يترفع فيه المسيح عن العبودية ولا من هو أرفع درجة منه انتهى ملخصا، وأجيب بأن الترقي لا يستلزم التفضيل المتنازع فيه وإنما هو بحسب المقام، وذلك أن كلا من الملائكة والمسيح عبد من دون الله، فرد عليهم بأن المسيح الذي تشاهدونه لم يتكبر عن عبادة الله، وكذلك من غاب عنكم من الملائكة لا تكبر، والنفوس لما غاب عنها أهيب ممن تشاهده، ولأن الصفات التي عبدوا المسيح لأجلها من الزهد في الدنيا والاطلاع على المغيبات وإحياء الموتى بإذن الله موجودة في الملائكة، فإن كانت توجب عبادته فهي موجبة لعبادتهم بطريق الأولى، وهم مع ذلك لا يستنكفون عن عبادة الله تعالى، ولا يلزم من هذا الترقي ثبوت الأفضلية المتنازع فيها. وقال البيضاوي احتج بهذا العطف من زعم أن الملائكة أفضل من الأنبياء. وقال هي مساقة للرد على النصارى في رفع المسيح عن مقام العبودية، وذلك يقتضي أن يكون المعطوف عليه أعلى درجة منه حتى يكون عدم استنكافهم كالدليل على عدم استنكافه، وجوابه أن الآية سيقت للرد على عبدة المسيح والملائكة، فأريد بالعطف المبالغة
(13/387)

باعتبار الكثرة دون التفضيل، كقول القائل أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرءوس، وعلى تقدير إرادة التفضيل فغايته تفضيل المقربين ممن حول العرش، بل من هو أعلى رتبة منهم على المسيح، وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا. وقال الطيبي لا تتم لهم الدلالة إلا إن سلم أن الآية سيقت للرد على النصارى فقط فيصح: لن يترفع المسيح عن العبودية ولا من هو أرفع منه، والذي يدعي ذلك يحتاج إلى إثبات أن النصارى تعتقد تفضيل الملائكة على المسيح، وهم لا يعتقدون ذلك بل يعتقدون فيه الإلهية فلا يتم استدلال من استدل به، قال وسياقه الآية من أسلوب التتميم والمبالغة لا للترقي، وذلك أنه قدم قوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ - إلى قوله: وَكِيلاً} فقرر الوحدانية والمالكية والقدرة التامة، ثم أتبعه بعدم الاستنكاف، فالتقدير لا يستحق من اتصف بذلك أن يستكبر عليه الذي تتخذونه أيها النصارى إلها لاعتقادكم فيه الكمال ولا الملائكة الذين اتخذها غيركم آلهة لاعتقادهم فيهم الكمال. قلت: وقد ذكر ذلك البغوي ملخصا، ولفظه لم يقل ذلك رفعا لمقامهم على مقام عيسى بل ردا على الذين يدعون أن الملائكة آلهة فرد عليهم كما رد على النصارى الذين يدعون التثليث، ومنها قوله تعالى :{قل لا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، لا أقول لكم إني ملك} ففي أن يكون ملكا، فدل على أنهم أفضل، وتعقب بأنه إنما نفى ذلك لكونهم طلبوا منه الخزائن وعلم الغيب؛ وأن يكون بصفة الملك من ترك الأكل والشرب والجماع، وهو من نمط إنكارهم أن يرسل الله بشرا مثلهم فنفى عنه أنه ملك، ولا يستلزم ذلك التفضيل، ومنها أنه سبحانه لما وصف جبريل ومحمدا، قال في جبريل {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} وبين الوصفين بون بعيد، وتعقب بأن ذلك إنما سيق للرد على من زعم أن الذي يأتيه شيطان فكان وصف جبريل بذلك تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع بمثل ما وصف به جبريل هنا وأعظم منه، وقد أفرط الزمخشري في سوء الأدب هنا. وقال كلاما يستلزم تنقيص المقام المحمدي، وبالغ الأئمة في الرد عليه في ذلك وهو من زلاته الشنيعة. قوله: "وإن تقرب إلي شبرا" في رواية المستملي والسرخسي " بشبر " بزيادة موحدة في أوله، وسيأتي شرحه في أواخر " كتاب التوحيد " في باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه.
(13/388)