باب ما جاء في {قَوْلِهِ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 2
 
أو عن صحابي تلقاها عنه، ومثل ما اشتملت عليه لا يقال بالرأي فيكون لها حكم الرفع، ولو كان لما ذكره تأثير لم يحمل حديث أحد روى مثل ذلك على الرفع أصلا وهو خلاف عمل المحدثين قاطبة، فالتعليل بذلك مردود، ثم قال الخطابي إن الذي وقع في هذه الرواية من نسبه التدلي للجبار عز وجل مخالف لعامة السلف والعلماء وأهل التفسير من تقدم منهم ومن تأخر، قال والذي قيل فيه ثلاثة أقوال. أحدها: أنه دنا جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى أي تقرب منه، وقيل هو على التقديم والتأخير: أي تدلى فلانا، لأن التدلي بسبب الدنو، الثاني تدلي له جبريل بعد الانتصاب والارتفاع حتى رآه متدليا كما رآه مرتفعا، وذلك من آيات الله حيث أقدره على أن يتدلى في الهواء من غير اعتماد على شيء ولا تمسك بشيء، الثالث: دنا جبريل فتدلى محمد صلى الله عليه وسلم ساجدا لربه تعالى شكرا على ما أعطاه، قال وقد روى هذا الحديث عن أنس من غير طريق شريك فلم يذكر فيه هذه الألفاظ الشنيعة، وذلك مما يقوى الظن أنها صادرة من جهة شريك انتهى. وقد أخرج الأموي في مغازيه ومن طريقه البيهقي عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن ابن عباس في قوله تعالى :{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قال دنا منه ربه، وهذا سند حسن وهو شاهد قوى لرواية شريك، ثم قال الحطابي: وفي هذا الحديث لفظة أخرى تفرد بها شريك أيضا لم يذكرها غيره وهي قوله: "فعلا به - يعني جبريل - إلى الجبار تعالى فقال وهو مكانه: يا رب خفف عنا " قال والمكان لا يضاف إلى الله تعالى إنما هو مكان النبي صلى الله عليه وسلم في مقامه الأول الذي قام فيه قبل هبوطه انتهى، وهذا الأخير متعين وليس في السياق تصريح بإضافة المكان إلى الله تعالى، وأما ما جزم به من مخالفة السلف والخلف لرواية شريك عن أنس في التدلي ففيه نظر، فقد ذكرت من وافقه، وقد نقل القرطبي عن ابن عباس أنه قال: "دنا الله سبحانه وتعالى " قال والمعنى دنا أمره وحكمه، وأصل التدلي النزول إلى الشيء حتى يقرب منه، قال: وقيل تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم حتى جلس عليه، ثم دنا محمد من ربه انتهى، وقد تقدم في تفسير سورة النجم ما ورد من الأحاديث في أن المراد بقوله: "رآه " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح، ومضى بسط القول في ذلك هناك، ونقل البيهقي نحو ذلك عن أبي هريرة قال: فاتفقت روايات هؤلاء على ذلك، ويعكر عليه قوله بعد ذلك " فأوحى إلى عبده ما أوحى " ثم نقل عن الحسن أن الضمير في عبده لجبريل، والتقدير: فأوحى الله إلى جبريل، وعن الفراء التقدير: فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى، وقد أزال العلماء إشكاله فقال القاضي عياض في الشفاء إضافة الدنو والقرب إلى الله تعالى أو من الله ليس دنو مكان ولا قرب زمان وإنما هو بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم إبانة لعظيم منزلته وشريف رتبته، وبالنسبة إلى الله عز وجل تأنيس لنبيه وإكرام له، ويتأول فيه ما قالوه في حديث: ينزل ربنا إلى السماء، وكذا في حديث: من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا. وقال غيره: الدنو مجاز عن القرب المعنوي لإظهار عظيم منزلته عند ربه تعالى، والتدلي طلب زيادة القرب، وقاب قوسين بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن لطف المحل وإيضاح المعرفة وبالنسبة إلى الله إجابة سؤاله ورفع درجته. وقال عبد الحق في الجمع بين الصحيحين زاد فيه - يعني شريكا - زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة، وقد روى الإسراء جماعة من الحفاظ فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ وسبق إلى ذلك أبو محمد بن حزم فيما حكاه الحافظ أبو الفضل بن طاهر في جزء جمعه سماه " الانتصار لأيامى الأمصار " فنقل فيه عن الحميدي عن ابن حزم قال: لم نجد للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئا لا يحتمل مخرجا إلا حديثين ثم غلبه في تخريجه الوهم مع إتقانهما وصحة معرفتهما فذكر هذا الحديث. وقال فيه ألفاظ معجمة والآفة
(13/484)

من شريك من ذلك قوله قبل أن يوحى إليه وأنه حينئذ فرض عليه الصلاة قال وهذا لا خلاف بين أحد من أهل العلم إنما كان قبل الهجرة بسنة وبعد أن أوحى إليه بنحو اثنتي عشرة سنة، ثم قوله: "إن الجبار دنا فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى " وعائشة رضي الله عنها تقول: إن الذي دنى فتدلى جبريل انتهى، وقد تقدم الجواب عن ذلك وقال أبو الفضل بن طاهر: تعليل الحديث بتفرد شريك، ودعوى ابن حزم أن الآفة منه شيء لم يسبق إليه فإن شريكا قبله أئمة الجرح والتعديل ووثقوه ورووا عنه وأدخلوا حديثه في تصانيفهم واحتجوا به، وروى عبد الله بن أحمد الدورقي وعثمان الدارمي وعباس الدوري عن يحيى بن معين لا بأس به. وقال ابن عدى مشهور من أهل المدينة حدث عنه مالك وغيره من الثقات، وحديثه إذا روى عنه ثقة لا بأس به إلا أن يروى عنه ضعيف، قال ابن طاهر وحديثه هذا رواه عنه ثقة وهو سليمان بن بلال، قال وعلى تقدير تسليم تفرده قبل أن يوحى إليه لا يقتضي طرح حديثه فوهم الثقة في موضع من الحديث لا يسقط جميع الحديث ولا سيما إذا كان الوهم لا يستلزم ارتكاب محذور ولو ترك حديث من وهم في تاريخ لترك حديث جماعة من أئمة المسلمين، ولعله أراد أن يقول بعد أن أوحي إليه فقال قبل أن يوحى إليه انتهى، وقد سبق إلى التنبيه على ما في رواية شريك من المخالفة مسلم في صحيحه فإنه قال بعد أن ساق سنده وبعض المتن، ثم قال: فقدم وأخر وزاد ونقص وسبق ابن حزم أيضا إلى الكلام في شريك أبو سليمان الخطابي كما قدمته. وقال فيه النسائي وأبو محمد بن الجارود. ليس بالقوي، وكان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه، نعم قال محمد بن سعد وأبو داود: ثقة فهو مختلف فيه فإذا تفرد عد ما ينفرد به شاذا وكذا منكرا على رأي من يقول المنكر والشاذ شيء واحد، والأولى التزام ورود المواضع التي خالف فيها غيره، والجواب عنها إما بدفع تفرده وإما بتأويله على وفاق الجماعة، ومجموع ما خالفت فيه رواية شريك غيره من المشهورين عشرة أشياء بل تزيد على ذلك، الأول: أمكنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في السموات وقد أفصح بأنه لم يضبط منازلهم وقد وافقه الزهري في بعض ما ذكر كما سبق في أول " كتاب الصلاة"، والثاني: كون المعراج قبل البعثة وقد سبق الجواب عن ذلك، وأجاب بعضهم عن قوله: قبل أن يوحي، بأن القبلية هنا في أمر مخصوص وليست مطلقة واحتمل أن يكون المعنى قبل أن يوحي إليه في شأن الإسراء والمعراج مثلا أي أن ذلك وقع بغتة قبل أن ينذر به، ويؤيده قوله في حديث الزهري: فرج سقف بيتي، الثالث: كونه مناما وقد سبق الجواب عنه أيضا بما فيه غنية، الرابع: مخالفته في محل سدرة المنتهى وأنها فوق السماء السابعة بما لا يعلمه إلا الله، والمشهور أنها في السابعة أو السادسة كما تقدم، الخامس: مخالفته في النهرين وهما النيل والفرات وأن عنصرهما في السماء الدنيا والمشهور في غير روايته أنهما في السماء السابعة وأنهما من تحت سدرة المنتهى، السادس: شق الصدر عند الإسراء وقد وافقته رواية غيره كما بينت ذلك في شرح رواية قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة، وقد أشرت إليه أيضا هنا، السابع: ذكر نهر الكوثر في السماء الدنيا، والمشهور في الحديث أنه في الجنة كما تقدم التنبيه عليه، الثامن: نسبة الدنو والتدلي إلى الله عز وجل والمشهور في الحديث أنه جبريل كما تقدم التنبيه عليه، التاسع: تصريحه بأن امتناعه صلى الله عليه وسلم من الرجوع إلى سؤال ربه التخفيف كان عند الخامسة، ومقتضى رواية ثابت عن أنس أنه كان بعد التاسعة، العاشر: قوله: "فعلا به الجبار فقال وهو مكانه " وقد تقدم ما فيه، الحادي عشر: رجوعه بعد الخمس، والمشهور في الأحاديث أن موسى عليه الصلاة والسلام أمره بالرجوع بعد أن انتهى التخفيف إلى الخمس فامتنع كما
(13/485)

سأبينه، الثاني عشر: زيادة ذكر التور في الطست، وقد تقدم ما فيه فهذه أكثر من عشرة مواضع في هذا الحديث لم أرها مجموعة في كلام أحد ممن تقدم، وقد بينت في كل واحد إشكال من استشكله والجواب عنه إن أمكن وبالله التوفيق، وقد جزم ابن القيم في الهدى بأن في رواية شريك عشرة أوهام لكن عد مخالفته لمحال الأنبياء أربعة منها وأنا جعلتها واحدة فعلى طريقته تزيد العدة ثلاثة وبالله التوفيق. قوله: "ماذا عهد إليك ربك" أي أمرك أو أوصاك "قال عهد إلى خمسين صلاة" فيه حذف تقديره عهد إلى أن أصلي وآمر أمتي أن يصلوا خمسين صلاة، وقد تقدم بيان اختلاف الألفاظ في هذا الموضع في أول " كتاب الصلاة". قوله: "فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أي نعم" في رواية: "أن نعم " وأن بالفتح والتخفيف مفسرة فهي في المعنى هنا مثل أي وهي بالتخفيف. قوله: "إن شئت" يقوى ما ذكرته في " كتاب الصلاة " أنه صلى الله عليه وسلم فهم أن الأمر بالخمسين لم يكن على سبيل الحتم. قوله: "فعلا به إلى الجبار" تقدم ما فيه عند شرح قوله فتدلى، وقوله: "فقال وهو مكانه " تقدم أيضا بحث الخطابي فيه وجوابه. قوله: "والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذه" أي الخمس. وفي رواية الكشميهني: "من هذا " أي القدر "فضعفوا فتركوه" أما قوله: "راودت " فهو من الرود من راد يرود إذا طلب المرعى وهو الرائد، ثم اشتهر فيما يريد الرجال من النساء، واستعمل في كل مطلوب وأما قوله: "أدنى " فالمراد به أقل، وقد وقع في رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس في تفسير ابن مردويه تعيين ذلك ولفظه: فرض على بني إسرائيل صلاتان فما قاموا بهما. قوله: "فأمتك" في رواية الكشميهني: "وأمتك"، "أضعف أجسادا" أي من بني إسرائيل. قوله: "أضعف أجسادا وقلوبا وأبدانا" الأجسام والأجساد سواء، والجسم والجسد جميع الشخص والأجسام أعم من الأبدان لأن البدن من الجسد ما سوى الرأس والأطراف، وقيل البدن أعالي الجسد دون أسافله. قوله: " كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل" في رواية الكشميهني: "يتلفت " بتقديم المثناة وتشديد الفاء. قوله: "فرفعه" في رواية المستملي: "يرفعه: "والأول أولى. قوله: "عند الخامسة" هذا التنصيص على الخامسة على أنها الأخيرة يخالف رواية ثابت عن أنس أنه وضع عنه كل مرة خمسا وأن المراجعة كانت تسع مرات، وقد تقدم بيان الحكمة في ذلك ورجوع النبي صلى الله عليه وسلم بعد تقرير الخمس لطلب التخفيف مما وقع من تفردات شريك في هذه القصة، والمحفوظ ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال لموسى في الأخيرة استحييت من ربي، وهذا أصرح بأنه راجع في الأخيرة " وأن الجبار سبحانه وتعالى قال له: يا محمد، قال: لبيك وسعديك، قال: إنه لا يبدل القول لدي " وقد أنكر ذلك الداودي فيما نقله ابن التين فقال: الرجوع الأخير ليس بثابت والذي في الروايات أنه قال: "استحييت من ربي فنودي أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي " وقوله هنا " فقال موسى ارجع إلى ربك " قال الداودي كذا وقع في هذه الرواية أن موسى قال له: ارجع إلى ربك بعد أن قال: لا يبدل القول لدي ولا يثبت لتواطئ الروايات على خلافه، وما كان موسى ليأمره بالرجوع بعد أن يقول الله تعالى له ذلك انتهى، وأغفل الكرماني رواية ثابت فقال إذا خففت في كل مرة عشرة كانت الأخيرة سادسة فيمكن أن يقال ليس فيه حصر لجواز أن يخفف بمرة واحدة خمس عشرة أو أقل أو أكثر. قوله: "لا يبدل القول لدي" تمسك من أنكر النسخ ورد بأن النسخ بيان انتهاء الحكم فلا يلزم منه تبديل القول. قوله في الأخيرة "قد والله راودت إلخ" راودت يتعلق بقد والقسم مقحم بينهما لإرادة التأكيد فقد تقدم بلفظ: "والله لقد راودت بني إسرائيل". قوله: "قال فاهبط باسم الله" ظاهر السياق أن موسى
(13/486)

هو الذي قال له ذلك لأنه ذكره عقب قوله صلى الله عليه وسلم قد والله استحييت من ربي مما اختلف إليه، قال: فاهبط وليس كذلك، بل الذي قال له فاهبط باسم الله هو جبريل، وبذلك جزم الداودي. قوله: "فاستيقظ وهو في المسجد الحرام" قال القرطبي يحتمل أن يكون استيقاظا من نومة نامها بعد الإسراء لأن إسراءه لم يكن طول ليلته وإنما كان في بعضها، ويحتمل أن يكون المعنى أفقت مما كنت فيه مما خامر باطنه من مشاهدة الملأ الأعلى، لقوله تعالى :{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} فلم يرجع إلى حال بشريته صلى الله عليه وسلم إلا وهو بالمسجد الحرام، وأما قوله في أوله " بينا أنا نائم " فمراده في أول القصة وذلك أنه كان قد ابتدأ نومه فأتاه الملك فأيقظه. وفي قوله في الرواية الأخرى " بينا أنا بين النائم واليقظان أتاني الملك " إشارة إلى أنه لم يكن استحكم في نومه انتهى، وهذا كله ينبني على توحد القصة، وإلا فمتى حملت على التعدد بأن كان المعراج مرة في المنام وأخرى في اليقظة فلا يحتاج لذلك. "تنبيه": قيل اختص موسى عليه السلام بهذا دون غيره ممن لقيه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنه أول من تلقاه عند الهبوط، ولأن أمته أكثر من أمة غيره، ولأن كتابه أكبر الكتب المنزلة قبل القرآن تشريعا وأحكاما، أو لأن أمة موسى كانوا كلفوا من الصلاة ما ثقل عليهم فخاف موسى على أمة محمد مثل ذلك، وإليه الإشارة بقوله: "فإني بلوت بني إسرائيل " قال القرطبي وأما قول من قال إنه أول من لاقاه بعد الهبوط فليس بصحيح، لأن حديث مالك بن صعصعة أقوى من هذا، وفيه أنه لقيه في السماء السادسة انتهى، وإذا جمعنا بينهما بأنه لقيه في الصعود في السادسة وصعد موسى إلى السابعة فلقيه فيها بعد الهبوط ارتفع الإشكال وبطل الرد المذكور والله أعلم.
(13/487)